3 شعبان 1429

السؤال

أشعر بالأسف الشديد لكتابتى لهذا السؤال والله ولكنى اضطررت لكتابته نتيجة عراك مستمر بداخلي
سؤالى:
يقول الشيوخ إن الرزق يقسم بالتساوى بين الناس فأنا-و أستغفر الله العظيم- لا أشعر بهذا أبدا.
فإنى دائما أجد الأغنياء يكونوا سعداء وحياتهم هادئة ومستقرة و مليئة بالحب والرفاهية وأغلب الأغنياء أجدهم جمال الشكل والمنظر وجمال الروح وأشعر أن لديهم كل شىء فى حياتهم لاينقصهم إلا القليل وهذا يدفعهم إلى شكر الله والتقرب منه فيكونوا سعداء دنيا وآخرة . وعلى النقيض تماما أجد الفقراء هم أتعس الناس وحياتهم مليئة بالهم والحزن والمشاكل ومفتقرين للحب وأغلب الفقراء أجدهم قبيحين الشكل و عبوسين الأوجه وحياتهم كسجن كبيييييير وهذا للأسف لايولد فيهم أي نفحة من الإيمان فيكونوا تعساء دنيا وآخرة.
هذا التفكير جعلني متذبذبة فى إيمانى ..فأرجو الإجابة الشافية

أجاب عنها:
إبراهيم الأزرق

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأخت السائلة حفظكِ الله، لعل تعميم القول بأن الشيوخ يقولون: إن الرزق يقسم بين الخلق بالتساوي ليس بدقيق.
فما كل المشايخ يقولون هذا وإن كان قاله أحدهم أو بعضهم فقد أخطأ، وربما أراد معنى لا يساعد عليه ظاهر العبارة.
والله عز وجل قد قال في محكم التنزيل: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ...) (النحل: من الآية71)، وقال سبحانه: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ) ثم قال: (وَيَقْدِرُ) (الرعد: من الآية26) أي يضيق وذلك في تسع آيات من كتابه آية سورة الرعد (26)، وآية سورة الإسراء (30)، والقصص (82)، العنكبوت (62)، والروم (37)، وسبأ (36، 39)، والزمر (52)، والشورى (12).
وقال عز وجل: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) (الطلاق: من الآية7).
لكن هذا التفضيل في الرزق لا يلزم منه التفضيل في سائر ما حباهم الله، فجمال الشكل والمظهر مثلاً ليس حكراً على الأغنياء، ولقائل أن يقول معارضاً قولك: لو نظرت إليهم وجدت البدانة فاشية فيهم أكثر من الفقراء، ومع اكتناز الجسم باللحم تجد فيهم جراء الترف ضعفاً وخوراً لا تجده في فقير مجدول مفتول، أو فقيرة خمصانة وهنانة.
واعلمي أيتها الفاضلة أن الله تعالى قد جعل المال دولة بين الناس فكم من غني افتقر، وكم من فقير أغناه الله، وإن لم يتحقق هذا في جيله تحقق في أبناء هؤلاء وهؤلاء ولو بعد أجيال، ولن ينقلب القبيح جميلاً بالمال ولا العكس ولا أولاد هؤلاء أو هؤلاء على سبيل الإجمال.
والقصد من هذا أختَ الإسلام أن تعلمي أن تفاضل الخلق في الرزق لا يلزم منه تفاضلهم في كل نعم الحياة الدنيا ومتعها، ناهيكِ عن انسحاب ذلك الحكم على الآخرة، وتأملي كم من غني كان المال سبب تعاسة وشقاء له دنيا وأخرى، وكم من فقير سعد في دنياه وقد أعلى الله درجته في أخراه.
أما الأول فنحو من ضيعوا من يعولون من الأبناء والبنات فلم يلتفتوا لتربيتهم التربية النافعة لهم في أخراهم، وتوسعوا في دنياهم التي تعلقوا بها، فأصابتهم فتنة البلاء بالسراء إصابات بالغة، حتى أهلكت بعضهم في خمّارات الشرق أو الغرب وألقت بأبناء بعضهم إلى أتون المخدرات.
وكم من فقير عاش كفافاً وسعد هو وبنيه الذين قد نشأهم أحسن تنشئة؛ إذ صنعهم على عينه لا على عين خادمة، وكلأهم برعايته فلم تمتد إليهم يد مربية لا تعرف قرآناً ولا إيماناً، فما ضرتهم الثقافات الوافدة من كل صوب عبر المخالطين في الداخل، أو الأجهزة المستوردة لها من الخارج، وقد علموا أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار فانشغلوا بها فسعدوا.
نعم يوجد من قد يجمع بين بؤس الدنيا والشقاء يوم يقوم الأشهاد، كما يوجد من أهل الدثور من لم تشغله العروض والأموال عما لأجله خلق فجمعت له سعادة الدنيا والآخرة، غير أن مثل هذا في الناس قليل ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء".
وأما إن قلت فإن الغني ينفق أضعاف ما ينفق من لم يوسع له في رزقه، فهذا حق غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه: "سبق درهم مائة ألف درهم"، قالوا: وكيف؟ قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها".
وأما من عدم المال من الفقراء، فإن عزم على أن يفعل فعل الغني الباذل المتصدق فهما في الأجر سواء كما جاءت بذلك الأخبار.
وقد تنازع الناس في الغني الشاكر والفقير الصابر أيهما الأفضل ورجح شيخ الإسلام من المحققين أن أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.
والخلاصة اعلمي أخت الإسلام أن الله تعالى قد فاضل بين الناس في الرزق.
ولا يقتضي هذا أن يفضل الغنيُّ الفقيرَ في نعم الدنيا الأخرى لا في الجمال ولا العقل ولا غيرهما فضلاً عن أن يفضله في الآخرة.
ثم اعلمي ما قاله مؤمن آل فرعون: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر:39)، وأن في الدنيا جنة كما قال العلماء من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ومن دخلها عاش سعيداً هنيئاً سواء قل ما في يده وضاق ماله، أو كثر واتسع رزقه.
ومن لم يدخلها شقي في دنياه وأخراه وإن اتسع رزقه وكثر ماله وتلك هي جنة التُّقى، وقد قيل:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
أسأل الله أن يجمع لنا بين سعادتي الدنيا والأخرى وأن يشملنا في الدارين بجوده وفيض كرمه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين..