عباس "67" !
3 جمادى الأول 1429
طلعت رميح

عقب عودة "محمود عباس" – رئيس السلطة الفلسطينية – من واشنطن، صدرت تسريبات من داخل غرفة السلطة في رام الله، تتحدث عن حوار حاد جرى بين "عباس" و"بوش"، قال فيه الأول للثاني: "لن أترشح لولاية ثانية، مادام هذا موقفكم، وفتشوا لكم عن غيري".
ووفقًاً لتلك الرواية – أو وفقًاً لما تسرب في الرواية – فإن "عباس" قال لـ"بوش" خلال اللقاء أنه لا يستطيع أن يطلب منه عدم المشاركة في الاحتفالات "الإسرائيلية" بالذكرى الستين لقيام "إسرائيل"، ولكنه يطلب منه أمرين: الأول: أن يعلن "بوش" في الخطاب الذي سيلقيه أمام الكنيست تأييده إقامة دولة فلسطينية وفقًا لرؤية في كل من قطاع غزة والضفة والقدس الشرقية، أسوة بما صرح به "ساركوزي"، والثاني: مطالبة "إسرائيل" بوقف الاستيطان في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 خاصة القدس، لكن "بوش" قال أن هذا يتعارض مع رسالة ضمانات التي سبق أن أعطاها لـ"شارون"، وأن مثل هذه التصريحات من شأنها أن تسقط حكومة "إيهود أولمرت".
فما دلالات تلك الرواية؟، ولِم جرى تسريبها؟، وإلى أن تسير اللعبة الجارية منذ أنابوليس وحتى الآن؟، ولِم تحضر "رايس" وتغادر "كل يوم" متنقلة بين مقري "أولمرت" و"عباس"؟، وما علاقة كل ذلك "بالموافقة" على أن تبدأ التهدئة بغزة ثم تنتقل إلى الضفة؟!

الرواية ودلالاتها
في الرواية يبدو أننا أمام محاولة "لصناعة الرئيس" أو تعويم شعبية "عباس"، بإظهار كيف أنه يرفض التنازل التي طلبها منه رئيس الولايات المتحدة، وكذا باعتباره – كما تقول الرواية – لم يكتف برفض التنازلات وبرفض الموقف الأمريكي، لكنه أيضًا، لا يلق بالاً لوجوده في السلطة – مستغني – وأنه إذا كان مقابل بقاءه في السلطة، هو التنازل عن حقوق فلسطينيه، فإنه سيتنازل عن "الترشح" للرئاسة في الدورة المقبلة.
كما يمكن القول بأن من سربوا الرواية، قد استهدفوا "تحريض" الشعب الفلسطيني ضد التنازلات المطلوبة من "عباس"؛ إذ جاءت الرواية مفصلة بشأن طلبات محددة من "عباس" لـ"بوش"، كما هي أظهرت عباس "يفرض" طلباته على "بوش"؛ إذ هو طلب وهدد في ذات الوقت.
لكن من سربوا الرواية، فاتهم – ويعلم الله ربما قصدوا – أن تلك الرواية لا شك ستذكر جمهور الشعب الفلسطيني بلعبة أو قصة 67 في مصر، التي لا شك تركت بصمات أو لنقل أعطت "مصلاً" واقيًا لجماهير الأمة، يمنع تكرار نفس اللعبة، وكان عليهم إدراك أن أحد الرؤساء العرب لعب ذات اللعبة مؤخرًا فلم ينخدع الناس وقالوا هي محاولة لتكرار تجربة التنحي في عام 67 في مصر.
وكذا فاتهم أن ما قاله "عباس"، يشكل إدانة خطيرة لـ"عباس" نفسه، واستهانة بالغة بالشعب الفلسطيني؛ إذ هو أوكل لـ"بوش" مهمة اختيار رئيس غيره، ولم يترك المهمة للشعب الفلسطيني؛ إذ الشعب الفلسطيني سيسأل، لِم قال "عباس" لبوش "فتشوا لكم عن رئيس غيري"، و"أنا لن أترشح لولاية ثانية، ولم يقل له سأرجع للشعب الفلسطيني، وربما سيثور في أذهان البعض، أن "عباس" في ذلك قد وقع في خطأ سياسي كبير؛ إذ هو دون أن يدري أعاد تذكير الفلسطينيين، بما قيل عن قتل "عرفات"، "إسرائيليًا"، ليحل "عباس" من بعده، أمريكيًا.
كما تلك الرواية، لا شك أنها ستطرح على أذهان الفلسطينيين مقارنة بين "عباس" و"عرفات"؛ إذ رأى "عرفات" خلال مفاوضات كامب ديفيد أن تنازله عن حقوق الشعب الفلسطيني سيعني مقتله (قال لكيلنتون: ستسيرون في جنازتي)، لكن "عباس" اكتفى بالرفض، والتنازل عن المنصب.

هل فشلت أنابوليس؟
غير أن لظهور تلك الرواية، وجه آخر، ربما هو الأهم والأخطر؛ إذ يمكن فهم ما قيل على أنه تمهيد من "عباس" ومن معه لأمر ما يتعلق بنتائج محددة لما جرى ويجري العمل لإنجازه منذ أنابوليس وحتى الآن.
ففي اتجاه، يمكن تصور أن ما قاله "عباس" هو تمهيد للإعلان عن قبول "بشيء" ما يجري طبخه الآن، كما تشير الزيارات المتعددة التي تقوم بها "رايس" إلى المنطقة – لا شك أنها لا تهوى السياحة هنا – وكما تدل عليها مؤشرات اللقاءات الجارية بين وفدي التفاوض بين سلطة "عباس" والقيادة الصهيونية، والتي تخللتها لقاءات بين "عباس" وأولمرت". والأغلب هنا، أن تصريحات "عباس" تأتي "لتخفيض" سقف التوقعات لدى الشعب الفلسطيني عن أنابوليس والمفاوضات، وهو أمر لم يجر من خلال تسريب رواية "عباس" فقط، وإنما هو جرى وفق نفس "النمط" من خلال تصريحات أدلى بها مسؤولين فلسطينيين في سلطة "عباس"؛ إذ كانوا مع نهاية كل جولة تفاوض مع الطرف الصهيوني – وعند عودتهم إلى رام الله – يعمدون إلى إثارة أجواء تشاؤم حول النتائج المتوخاة من المفاوضات، في الوقت الذي تتحدث أطراف أخرى متابعة "عن تحقيق تقدم".
وفي اتجاه آخر، يمكن القول أن ما يجري الآن قد يكون "إخلاءًا" للمسئولية عن الفشل في تحقيق أي شيء من خلال أنابوليس، أو هو جزء من خطة تراجع بلا إعلان عن الخطأ في الذهاب إلى أنابوليس، وهو سلوك تتبعه الدول والمنظمات والأحزاب حين تصل إلى نتيجة بأن الخطة التي اعتمدتها كان خاطئة، وأن الرأي العام لن يقبل منها التراجع بسهولة، فتلقي التبعة على آخر، ليظهر الأمر وكأنها كانت تحاول، غير أن الآخر هو من رفض أو أخطأ. ولعل ذلك هو ما دفع الكثير من مسئولي السلطة الفلسطينية، أن يتحدثوا مرارًا وتكرارًا، بصعوبة إنفاذ خطة الرئيس "بوش"، وأن الولايات المتحدة لا تضغط بما فيه الكفاية على "إسرائيل"، وأن الوقت الباقي في رئاسة "بوش" لا يسمح بإنفاذ خطة.. إلخ.
وفي اتجاه ثالث، يمكن القول أيضًا، بأن ما يجري هو محاولة لاستثمار ضغط عامل الزمن على الرئيس الأمريكي "جورج بوش" للحصول على نتائج أفضل – ضمن إطار أفكار السلطة وسياستها بالطبع – إذ يدرك "عباس" أن أهداف "بوش" من الحصول على تقدم – ولو شكلي – على صعيد "القضية الفلسطينية" لا يرتبط فقط بضيق المدة الباقية لـ"بوش" في الرئاسة، وإنما فرصة الزمن أشد ضيقًا، باعتبار أن الانتخابات الأمريكية ستجري في نوفمبر القادم – وهي أحد أسباب إلحاح "بوش" على المفاوضات والنجاح الشكلي – وعلى اعتبار أن "بوش" يسعى من خلال "تلك النتائج في المفاوضات الفلسطينية – الصهيونية"، تطوير خطته الهجومية في المنطقة.

تهدئة في غزة فقط
وهنا يبدو الربط ضروريًا بين "تسريبات حول عباس" ودلالاتها، والشروط التي وضعت للسير في مفاوضات "الهدنة" مع غزة، وبشكل خاص شرط حدوث الهدنة مع غزة أولاً، على أن تلحق بها هدنة أخرى في الضفة.
فإذا كانت الأهداف من تسريبات حول "عباس"، هي بالإجمال محاولة تمهيدية لما هو تالي – أيًا كان اتجاهه – فإن ضرورة "الفصل" بين أوضاع غزة وأوضاع الضفة تصبح ضرورية وبشكل حاسم في التقدير الصهيوني لما هو آت، حيث أن عقد اتفاق مع "عباس" في ظل قصف صهيوني لغزة، سيضع "عباس" في حرج، وكذا أن عدم الاتفاق مع "عباس" وفشل ونهاية المفاوضات دون نتائج، سيعزز الأوضاع السياسية في غزة وفي الضفة لمصلحة المقاومة – إذا كانت المقاومة تخوض صراعًا عسكريًا – بما قد يؤدي إلى اشتعال الضفة، فيما يوصف بأنه انتفاضة جديدة قادمة.
كما يمكن القول أيضًا، أن مثل هذه التسريبات تمثل ضرورة حادة لـ"عباس" و"إسرائيل"، حال عقد هدنة في غزة؛ إذ الأوضاع ستصبح بعدها مختلفة أمام الرأي العام الفلسطيني، حيث سيظهر عباس "متشددًا" في مواقفه، بينما المقاومة في غزة هي من عقد اتفاقًا قبله؛ إذ المرجح حال إعلان أي اتفاق بين "عباس" والصهاينة، أن يأتي الإعلان عنه عقب الاتفاق على هدنة في غزة، ليأتي سياق الاتفاق، وكأنه كيل بنفس المكيال الذي كالت به المقاومة حين اتفقت على التهدئة!
أي أن التفتيش فيما يجري من مفاوضات حول غزة، ومفاوضات مع "عباس"، وفق تلك الرواية، تكشف أن ثمة بعدًا داخليًا في الكيان الصهيوني تتقيد به المواقف الأمريكي والصهيونية في مفاوضات أنابوليس، ألا وهو بقاء "أولمرت" في السلطة!.
الأمر لا يتعلق بما قاله "بوش" لعباس – حول إسقاط حكومة أولمرت – ولكن يرتبط بالأوضاع بالغة التوتر داخل القيادة الصهيونية جراء المأزق الذي تعيشه القوات الصهيونية والدولة والقدرات الصهيونية، بعد تتالي فشلها في لبنان وفي غزة.
هنا، يظهر أن ثمة ضرورة أن تراوح غزة أوضاعها الراهنة، دون الإقدام على "خطط" تهدئة.
والدليل.. عباس 67 .
وعباس 67 ، لن يمنح حتى مجرد "الظهور" بمظهر المتشدد في المفاوضات، حيث أن المؤسسة الصهيونية قد قررت – فيما يبدو – هدم المفاوضات على رأس "عباس"، من خلال مطاردتها "أولمرت" بتهم فساد، قد تؤدي إلى إقالة "أولمرت"، ليعاد ترتيب الأوراق من جديد.
وساعتها، سيسأل الجميع "عباس": لِم لا تترك السلطة إذن؟، ألم تنته لعبة التفاوض التي اعتدتها، وبسببها شهرت ونددت بالمقاومة ومارست كل السبل من أجل إجهاضها؟!