تطور جديد في الهجمة العلمانية على أوضاع الأسرة المسلمة
15 جمادى الأول 1429
د. محمد يحيى

تعوّد المسلمون في العقود الماضية على أن الهجمة العلمانية التي توجه ضد الأسرة المسلمة تتركز على قضايا محدودة ومعروفة لا تتجاوزها، وإنما تقدم فيها بعض التفاصيل والجزئيات الجديدة لا أكثر. وهذه الاتجاهات، إذا هجمت العلمانية بأسلوبها التقليدي ضد الأسرة المسلمة، كانت لا تتعدى ثلاث أو أربع قضايا هي المتصلة بتعدد الزوجات، وبالطلاق، وبتوزيع الميراث. وكان العلمانيون عادة في سبيل طرح هذه القضايا يلجأون، إما إلى الصدام المباشر بالهجوم على مسألة تعدد الزوجات، أو بالأصح رخصة تعدد الزوجات، ثم الهجوم على جعل حق الطلاق في يد الرجل، وأخيرا، الهجوم على نسبة توزيع الميراث بين الذكور والإناث، والتي كانوا يتهمونها دوما بالظلم.
أما الهجمة غير المباشرة في هذا الاتجاه فكانت تعتمد على محاولة البحث عما يسمى باجتهادات إسلامية أو بالأصح محاولات متعسفة ترتدي ثوب الفقه لكي يخرج منها العلمانيون بوجود مشروعية إسلامية ما، مهما كانت ضئيلة أو محدودة أو مشكوكاً في قيمتها، تبرّر رفضهم لرخصة تعدد الزوجات، ولحق الرجل في إيقاع الطلاق، وبتوزيع الميراث، حسب الأنصبة الشرعية المعروفة.
ولقد تعوّد المسلمون، من طيلة تركز الهجوم العلماني على تلك الجوانب بالذات من حياة الأسرة المسلمة، على ابتداع طرق مختلفة في الرد على الهجمات وفي الدفاع عن الإسلام وتبرير وتوضيح مواقفهم في هذا الصدد. وربما لم تكن تخلو بعض هذه الردود الإسلامية من نوع من الضعف أو التهافت، أو من نوع من القبول الضمني لما يطرحه الخصم، لكنها على أي حال ظلت في دائرة هذه القضايا المعروفة لا تتعداها، ولكن على مدى العقد والنصف الماضي، أو ربما في السنوات الأخيرة، شهدنا نوعاً جديداً من الهجوم على الأسرة المسلمة تخطى بكثير هذه القضايا التقليدية المعروفة وأصبح بدوره يحتاج إلى رد إسلامي قوي أو إلى توضيح للموقف الإسلامي بكل جلاء وقوة وبدون تراجع أو تنازلات أو تسليم بوجهة نظر الخصم، وهو الذي كانت تنتهي إليه عادة الدفاعات الإسلامية في مواجهة الطموحات العلمانية المحدودة والتقليدية وخصوصاً أوضاع وقوانين وتعاليم الإسلام المتصلة بالأسرة. والهجمات العلمانية الجديدة على أوضاع الأسرة قد تبلورت على وجه الخصوص بعد سلسلة المؤتمرات التي عقدتها الأمم المتحدة تحت مسمى "السكان" والتي طرحت فيها قضايا تمس صميم حياة الأسرة أي كانت ديانتها وذلك ليس بشكل واضح ومباشر وإنما تحت زعم أن معالجة تلك القضايا الأسرية، أو المتصلة بأوضاع الأحوال الشخصية والزواج والطلاق وتربية الأولاد وما شابه، إنما تصب في النهاية في خانة خدمة قضية السكان وقضية تنظيم أو تحديد النسل على مستوى العالم كله. وهنا في الواقع نجد جوهر الهجمة العلمانية الجديدة على أوضاع الأسرة المسلمة، ذلك لأنها وكما تجلى على مدى السنوات الأخيرة في الكثير من المؤتمرات أو القوانين التي وضعت للأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية أنها هجمة لا تدعي أنها تتوجه مباشرة وبشكل صريح وواضح إلى قلب أوضاع الأسرة وإنما تتوسل إلى هذا الغرض بالالتفاف واللجوء إلى أساليب المناورة وطرح قضايا فرعية للوصول منها إلى القضايا الجوهرية. ومن الأمثلة الواضحة والجلية على هذا التوجه ما لاحظناه مؤخرا في مصر عندما طرح على ساحة الرأي العام، فجأة وبشكل غير متوقع، قانون أُسميَ بقانون الطفل والهدف منه، كما ذكر واضعوه، هو معالجة عيوب ونواقص اعترت قانون أسمي بنفس هذا الاسم وعرض وأقر في أوائل التسعينيات، وفي خضم مؤتمرات الأمم المتحدة المتعلقة بالمرأة والسكان. وعندما يفكر المرء في عنوان مثل هذا القانون فإنه يتوقع أن تكون مواده متعلقة بوجه خاص بوضع الأطفال في المجتمع وبمواجهة قضايا الرعاية والعناية بهم على كافة الأصعدة الاجتماعية والتعليمية والصحية والثقافية وما شابه، إلا أن الذين تابعوا هذا القانون، أو بالأصح، القلة التي اهتمت بأن تعرض لمواده ومضامينه فوجئت أنه يتضمن أموراً لا يتوقع إدراجها في مجال الطفل بالذات وإنما يتوقع أن تكون موجودة ضمن قانون الأحوال الشخصية ومواده، فمثلاً فوجئ هؤلاء الذين كلفوا أنفسهم أعباء البحث في هذا القانون أنه مثلاً يرفع سن الزواج بالنسبة للفتاة من ستة عشر عاما إلى ثمانية عشر عاما، وذلك دونما سبب واضح يتعلق بالأطفال في هذا المجال وإذا قيل إن المقصود مثلاً هو أن تكون الأم المتوقعة على درجة من النضج تجعلها صالحة لتربية الأطفال، فإن الرد يكون وهل يكون عامان كافيان لتحقيق نسبة هذا النضج، لاسيما وأننا نعيش في مجتمع معقد متشابك تقوم فيه أجهزة الإعلام بدور جبار في التوعية، سواء بالحق أو بالباطل، وسواء بالخير أو بالشر، مما يجعل الأطفال يشعرون بكل القضايا المجتمعية وهم في سن ربما لا يتعدى الثانية عشرة. كذلك فوجئ أيضاً هؤلاء المتابعون بأن القانون يتضمن فقرة تذهب إلى ضرورة توقيع كشف طبي إجباري على المقبلين على الزواج مع التلميح بأن الزواج لن يكون مقبولاً أو موثقا ما لم يجر هذا الكشف الطبي الذي يفترض أنه يثبت خلو الزوجين المستقبليين من أية موانع تعوق الزواج، وهنا أيضاً تثور تساؤلات.. أي أمراض هذه التي سوف يحددون أنها تمنع الزواج أو تحول دونه؟ وهل كل الأمراض حتى الأمراض الشائعة والمنتشرة على وجه خاص في ذلك العصر، وهو عصر التلوث، تكون مانعة من الزواج؟ وهنا أيضا يثور تساؤل، هل المقصود بهذا الإصرار والإلحاح على تضييق سبل الزواج إما برفع سنه أو بوضع ما أسمي الآن بكشف طبي إجباري قبله، هل المقصود هو إقفال أبواب الزواج الحلال مع فتح أبواب العلاقات الجنسية الآثمة والتي يسمونها هم باسم، العلاقات الخارجة عن إطار الزواج؟ كذلك رأى المتابعون للقانون أنه يتضمن فقرة تمنع الآباء أو الأمهات من تربية أطفالهم عن طريق الزجر، أو عن طريق الردع، أو عن طريق الضرب الخفيف، وهنا أيضاً يطرح تساؤل.. هل أصبح الوالدان مسلوبي القدرة والسيطرة على تربية أطفالهما، ولو بنوع من أنواع الردع والزجر عن طريق الضرب. وقد يقال إن هذا القانون موجه لمن يضربون أبناءهم ضربا مبرحا أو وحشيا، على زعم أنهم يؤدبونهم، ولكنه في الواقع ينطبق على جميع الحالات وهو مقرون بدعوة إلى الأطفال بأن يتصلوا بأقرب قسم للشرطة ويستدعوا الشرطة في مواجهة والديهم إذا تعرضوا لأي نوع من أنواع التأديب أو الزجر العنيف دونما تحديد لدرجة هذا العنف أو شدته. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل المطلوب هو تمزيق أوصال الأسرة عن طريق آخر؟ ففي الماضي كان العلمانيون يشعلون نيران الحرب بين الزوج والزوجة عن طريق الزعم بأن المرأة مضطهدة، وأن الزوج يستخلص منها حقوقه بالقوة، وأنه لا يبالي بها. أما الآن فهناك دعوة صريحة إلى تمزيق الأسرة، ولكن من خلال باب آخر وهو باب حض الأبناء على معاداة والديهم وعلى استدعاء السلطات لتأديب والديهم إذا فكر الوالدان أو أحدهما في استخدام الردع أو التأديب أو الزجر الشرعي المطلوب، ولو باستعمال نوع من أنواع الضرب الخفيف غير المؤذي. وبجانب هذا السلب لقوامة الوالدين على الأبناء، فأيضاً يضم مشروع القانون مواداً تثير الشبهة حول هدفه الحقيقي وهو هدف معاداة الأسرة المسلمة، ومحاولات البحث عن محاور جديدة لتمزيقها، غير تلك المحاور القديمة التي عرفها الناس جميعا وتدربوا على مواجهتها والرد عليها، وهي محاور الهجوم على تعدد الزوجات، وحق الرجل في الطلاق، ونسب توزيع الميراث.