استراتيجية الإرباك
18 جمادى الأول 1429
طلعت رميح

ماذا يفعل الكيان الصهيوني حاليًا، وأي خطة يعتمدها في تحركاته فى المرحلة الراهنة من الصراع؟، هذا السؤال بالغ الأهمية في فهم ما يجري حاليًا من تصرفات وتحركات وتصريحات وتلميحات ومواقف من -وفي -الكيان الصهيوني.
المتابع لتحركات القيادة الصهيونية، يلحظ أن ثمة تحركًا في اتجاه تسبقه تلميحات ومؤثرات تمهد له، ثم يعقبه تحرك في اتجاه مضاد، دون إلغاء التحرك الأول واتجاهه. في الحالة السورية حدث ذلك، وفي الحالة الفلسطينية جرى ويجري نفس الأمر، سواء في التعامل مع المقاومة في غزة، أو في التعامل مع سلطة "عباس"، وكذا الحال باتجاه لبنان.
سوريا: تفاوض.. وحروب!
في الاتجاه السوري، وبعد أن أنهت القيادة الصهيونية أضخم مناورات جرت في تاريخ الكيان الصهيوني – وربما قبلها وخلالها أيضًا – صدرت تلميحات وتصريحات عديدة، تتحدث عن أن المناورة ليست استعدادًا للقيام بعمليات حربية ضد سوريا، بل وصل الأمر أن أطلقت تصريحات – أولمرت – ورد فيها نصًا، أن "إسرائيل" تعرف الثمن الذي يجب عليها دفعه، ثمن "للسلام" مع سوريا. وبعد انتهاء المناورات الحربية وما ترافق معها من تصريحات أو مناورات سياسية، جرى إبلاغ سوريا عبر أنقرة بعرض واضح ومحدد "للسلام" مع سوريا، يقوم بالأساس على استعداد بالانسحاب الكامل من الجولان، بما مثل تغييرًا غير مسبوق في العروض الإسرائيلية لسوريا. وهكذا دارت الدورة السياسية؛ إذ بعد أيام من إعلان وزيرة سورية عن تلقي سوريا هذا العرض عبر تركيا، حضر رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" إلى دمشق وقابل الرئيس السوري لإبلاغه بنص العرض الصهيوني، وهنا وبعد أن غادر فوجئ الجميع بوزير الحرب الصهيوني "إيهود باراك"، يشرف على مناورات عسكرية في الجولان، ويعلن أنها استعداد لحرب قد تحدث، ثم يطلق خلال إشرافه ومتابعته الميدانية على المناورات تصريحًا يقول فيه: إن الجولان جزء من إسرائيل، ومن بعده خرج قادة صهاينة آخرين، يعلنون أن تسليم الجولان لسوريا يضر بأمن الكيان الصهيوني، وأن هذا الانسحاب يعطي لإيران موطئ قدم على الحدود، ثم كان أن نشرت الصحف الصهيونية استطلاعًا للرأي العام الصهيوني، أفادت جميعها أن النسبة الغالبة من المستطلع آراؤهم لا تثق في إمكانية قيام سلام مع سوريا، وترفض الانسحاب من الجولان... إلخ.
فما الذي يجري، ولِم نر تحركات في اتجاه، يعقبها تحول إلى الاتجاه المضاد تمامًا؟.

غزة.. تهدئة وقتل
وفي التعامل الصهيوني مع المقاومة الفلسطينية في غزة، نلحظ تكرارًا لنفس السيناريو.. تمامًا. في البداية كان القصف والقتل مستمرًا، لكن أمرًا لافتًا كان يجري في الاتجاه المضاد أيضًا، حين أعلن نائب رئيس الوزراء الصهيوني عن ضرورة الاعتراف بحماس والتفاوض معها، والوصول إلى تهدئة. ومن بعد ومع تواصل أعمال القصف والقتل جرت زيارة الرئيس الأمريكي السابق "جيمي كارتر" ولقاءاته مع قيادات حماس، والأهم فيها أنه فضح الموقفين الأمريكي والصهيوني حين ادعائهم أنه يقوم بدوره ولقاءاته دون موافقة منهم، إذ أدلى بتصريحات حادة ومحددة على الأقل بشأن ادعاءات وزيرة الخارجية الأمريكية "رايس" بعدم الموافقة على لقاءات "كارتر"، إذ اتهمها بالكذب.
ومن بعد، أطلقت تصريحات صهيونية متناثرة حول ضرورة الوصول إلى تهدئة، وجرت المفاوضات في القاهرة، واللقاءات بين وفود المقاومة وممثليها بالجانب المصري، ثم فجأة تصاعدت الاعتداءات الصهيونية ضد غزة، وبشكل مقصود أن يكون مدويًا، إذ جرى قتل سيدة وأبنائها داخل منزلهم بقذيفة دبابة صهيونية، كما صدرت تصريحات صهيونية، بأن لا تفاوض ولا هدنة مع حماس في غزة.
فما الذي يجري؟، ولِم نر تحركات في اتجاه، يعقبها تحول إلى الاتجاه المضاد تمامًا.

رام الله.. وإضعاف عباس
في التعامل مع سلطة "عباس"، فالأمر يسير على نفس النحو.. تمامًا، وإن وفق آليات أخرى.
لقد جرت مفاوضات واتفاقات أنابوليس، وفق تصور لدى سلطة "عباس" – اعتمادًا على التصريحات الأمريكية والصهيونية – بأن المفاوضات إن لم تنتج "إعلانًا مشتركًا" بقيام الدولة الفلسطينية المزعومة، فعلى الأقل ستقوم السلطات الصهيونية بتمكين سلطة "عباس" من السيطرة على بعض مجالات الحياة، اقتصاديًا وسياسيًا من خلال قيام الجيش الصهيوني بإلغاء الحواجز في الضفة، وأن السلطات الصهيونية ستقوم ببعض الإجراءات التي تثبت "عباس" سياسيًا، لكن ما جرى هو أن سلطات الاحتلال لم تقم بإزالة الحواجز، كما هي لم تعط "عباس" أية مقومات يستند إليها في تثبيت سلطته، وإلى درجة أن وجهت ضربة لحملة العلاقات العامة التي كان بدأها للترويج لنفسه من خلال تقليد بعض الأوسمة لبعض الفلسطينيات المشاركات في أعمال المقاومة؛ إذ أعلنت القيادات الصهيونية، إدانتها لقرار "عباس" وتقديمها شكوى للقيادة الأمريكية ضد "عباس"، بل تطور الأمر باتجاه هز سلطة "عباس" بل و"عباس" شخصيًا، من خلال بدء حملة "تلميع" لـ"مروان البرغوثي" من داخل السجن الصهيوني – بالسماح له بالإدلاء بعشرات الأحاديث الصحفية – والتي أعلن فيها عن نيته الترشح لموقع الرئيس الفلسطيني حتى لو ظل أسيرًا في السجون الصهيونية. ومن بعد أصدرت أجهزة الأمن الصهيونية تقارير قياس للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية، أشارت إلى أن حماس ستفوز في الانتخابات المقبلة في الضفة، بما في ذلك بموقع رئاسة السلطة. انتهت الأمور بدخول بعض القوات من الأردن إلى الضفة، والسماح ببعض من الانتشار وفق رؤية ضرب المقاومة
فما الذي يجري، ولماذا لم تقم إسرائيل بدعم "عباس" وسلطته، تفاوضيًا أو على صعيد الإجراءات العملية؟.

تفاوض أم إرباك!
في الحالة السورية، يمك القول بأننا أمام تشدد صهيوني في شروط التفاوض مع سوريا، أي أننا يمكن أن نفهم مناورات الجيش الصهيوني وإعلانات "باراك" وغيره، بأن الجولان جزء من الكيان الصهيوني، على أنها تأتي لتعزيز الشروط الصهيونية في التفاوض حول الجولان. كما يمكن القول أيضًا، بأننا أمام تفجر خلافات داخل الكيان الصهيوني، حيث لكل مسؤول رؤيته واتجاهه السياسي، بما ينعكس في التصريحات والأحاديث.
وفي الحالة مع غزة، يمكن القول أيضًا، أننا أمام تشدد صهيوني على مستوى الفعل، للحصول على أفضل الشروط من المقاومة في غزة، عبر التفاوض أو خلاله أو كنتيجة له، وأن القيادة الصهيونية تستثمر أهم عوامل قوتها – القوة العسكرية – في الحصول على أفضل الشروط خلال التفاوض، أو حتى يمكن القول بأن القيادة الصهيونية تزيد من ممارستها بالقوة الصلبة، بسبب أنه تنظر إلى أن الطرف الوسيط – أي مصر – هو طرف غير "محايد" في هذا التفاوض، بل هو طرف له مصالحه الخاصة في العلاقات مع القيادة الحالية في غزة، للأبعاد الجغرافية والسياسية والاستراتيجية التي تحكم علاقة مصر وغزة.
وفي الحالة مع "عباس"، يمكن القول بأن القيادة الصهيونية لا يمكنها من الأصل تقديم تنازلات لـ"عباس"، تضر بخطتها الاستراتيجية العامة في السيطرة على الضفة، بحكم وجود "كم هائل" من المستوطنات بها، وبالنظر إلى خطورة الدور الاستراتيجي للضفة في الصراع بحكم تأثيرها على مقومات استقرار الكيان الصهيوني نفسه، وباعتبار القدس – التي هي هوية الصراع وعنوانه – هي أبرز مواقع الصراع بين الشعب الفلسطيني والصهاينة. وكذا لأن الكيان الصهيوني تكتيكيًا يريد "تقوية" عباس، لكنه على المستوى الاستراتيجي يعمل بالأساس من أجل تفريغ الضفة من السكان لا من أية سلطة فلسطينية – أيًا كانت – فقط.
لكن الأغلب وربما الأصل في كل ما يجري من تحركات صهيونية تجاه سوريا وسلطة "عباس" في الضفة والمقاومة في غزة، هو أنها تنفذ "استراتيجية الإرباك" لخصومها، ولا تسعى لأي "حل" ولو مؤقت مع أي طرف من الأطراف. هي تحاول جعل خصومها في حالة ارتباك في "معرفة" وحساب خطتها الاستراتيجية الجاري إنفاذها، وتريد م خلال التحركات الجارية وفق اتجاهات متعددة متضاربة، أن يظل قرارها الاستراتيجي خافيًا وغير قابل للقراءة من أي طرف من الأطراف المتصارعة معها في المنطقة، فإذا تصور أنها تسعى للتهدئة أو التفاوض أو الاتفاق والسير في خطوات محددة بهذه الاتجاهات، عاجلته بتحركات مضادة تجعله هو في حالة ارتياب مما "تصوروه"، وإذا تصوروا أنها تستعد لحرب وشيكة وباتوا يعدون أنفسهم للتعامل مع هذا الاحتمال بآلياته ومواقفه، عاجلتهم بالتحرك نحو التهدئة والتفاوض.
وهي في هذه الاستراتيجية، تحاول الاستفادة من عامل "ضعفها" المتمثل في أنها "قوة مقررة"، تستطيع المناورة شديدة الدقة، وتحويل عامل ضعفها إلى عامل قوة، في مواجهة خصومها الذين هم "لكثرة عددهم" وتعدد اتجاهاتهم يمكن أن يضطربوا بتعدد إشاراتها ومواقفها، لتتحول ميزة قوتهم – في تعددهم – إلى عامل ضعف؛ إذ يصعب عليهم الحركة المفاجئة، وفي ذلك هي تسعى أيضًا إلى فتح ثغرات في علاقات خصومها مع بعضهم البعض للنفاذ منها، والتعامل مع كل طرف على حدة وفق أجندة تفرضها هي.
وهنا يبقى السؤال، لم تعتمد القيادة الصهيونية استراتيجية الإرباك هذه؟.
وواقع الحال، أن استراتيجية الإرباك، هي ناتج حالة المأزق الذي تعاني منه القيادة الصهيونية، التي باتت تعاني من ضعف معالم قوتها، أو بالدقة من انتهاء قدرتها على ممارسة خطتها التي اعتمدتها لسنوات طويلة في التعامل مع المحيط.
فاستراتيجية الإرباك، هي البديل لاستراتيجية الردع، التي اعتمدتها القيادة الصهيونية تاريخيًا، حيث كانت معالم قدرتها تسمح لها هي بالمبادرة بالفعل الاستراتيجي (العسكري) بما كان يجعل الآخرين في حالة خوف دائمة من توافر مقومات تسمح لإسرائيل بشن الحرب، دون قدرة من الأطراف الأخرى على مواجهتها، لكن الكيان الصهيوني، قد أصبح في وضع لا يمكن له ممارسة تلك الاستراتيجية بعد تآكل عوامل قوته الرادعة للآخرين، سواء بسبب نتائج عدوانه على لبنان، أو بسبب فشله الاستراتيجي في تركيع غزة.
استراتيجية الإرباك هي البديل لاستراتيجية الردع، وهي تقوم على إرباك الخصوم، ومنعهم من التحول إلى حالة الهجوم، استثمارًا لحالة الضعف الاستراتيجي الحادثة للكيان الصهيوني، وهي محاولة لتعطيل عوامل قوة الآخرين عن أن تتحول إلى فعل في اتجاه استراتيجي محدد واحد يستثمر نقاط ضعف الكيان الصهيوني.
وهنا يبقى السؤال معلقًا برقاب الآخرين، حول ما إذا كانوا سيبتلعون الطعم الصهيوني ويدخلون في مفاوضات وتهدئات لن نجني منها شيئًا، بينما سيجني منها الكيان الصهيوني بالمقابل، الحصول على الوقت اللازم لاستعادة عوامل الردع مرة أخرى، أم أنهم سيحسمون أمرهم باتجاه تواصل الهجوم الاستراتيجي على الكيان الصهيوني، بما يزيد من عوامل ضعفه، خاصة، على صعيد تطوير تآكل استراتيجية الردع، وتحويل الصهاينة إلى استراتيجية الدفاع.