"إسرائيل" بين التمادي والتحجيم
19 جمادى الأول 1429
د أسامة عثمان

هي بين الرغبات التوسعية, وما يتيحه الواقع, أو يفرضه, تتذبذب, ولا عقيدة تقيد مواقفها, حين يساورها خوف على مصيرها, لكنها, إن أمكنتها الظروف ماطلت, وتتطلبت... وحين تبرم معاهدة صلح, فإنها لا تفعل ذلك إيمانا بالسلام, ولا تراجعا عن أطماعها التي تؤجلها, أو تعمل لها تحت غطاء " السلام" كلما استطاعت؛ ذلك أن الرأي الغالب عليها, قادة ومفكرين وقوى سياسية, هو عدم الإيمان بسلام مع العرب, لأسباب من جانبهم, ولأسباب يرونها كامنة في العرب.

أما التذبذب فيتجلى في مسارين غير متكافئين, مسار الممارسة على أرض الصراع, ومسار التصريحات والمساعي التي تشارك فيها "إسرائيل" لحل ما يسمى بالصراع العربي "الإسرائيلي". أما المسار الأول فيجري فيه الاستيطان المتواصل, والتحكم بالموارد, والتضييق على حياة الفلسطينيين...

وأما المسار الثاني فتخطه المساعي المبذولة في "عملية السلام", وما يرافقه من مواقف فعلية, قد يحسبها الناس محجمة للأماني التوسعية الكبيرة, ومن ذلك الصلح الذي عقدته "إسرائيل" مع مصر وما اقتضاه من" تنازلات" وكذلك معاهدة السلام مع الأردن التي رآها البعض ضامنا لمنع الشطط "الإسرائيلي" المتمثل بأطماعهم في الأردن, أو مانعا من تنفيذ فكرة الوطن البديل, ومنها كذلك ما يتجدد هذه الأيام من حديث عن مفاوضات غير مباشرة مع سوريا, وقبول "إسرائيلي" بالانسحاب من الجولان مقابل السلام مع سوريا, ويصحب هذا المسار, ويبدو كالممهد له تصريحات تتابع من قادة "إسرائيليين" من لدن شارون وحتى بيرس وأولمرت بضرورة تقديم تنازلات مؤلمة, تستهدف " تجريع" شعبهم تلك المواقف المحتملة.

أما أنها لا تؤمن بالسلام مع المسلمين والعرب بعامة والفلسطينيين بخاصة, فيدل عليه إدراكهم لعمق الموانع التي تحول دونه وثباتها, و من هذا ما صرح به كبار في قادتها ومفكريها, وهذا ما تعززه العقلية الصهيونية العامة المؤمنة بتلك الأهداف التوسعية, ومن أولئك القادة – على سبيل المثال- جابوتينسكي, مؤسس التيار التصحيحي وقائده في الحركة الصهيونية الذي اعتقد بأنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق بين الحركة الصهيونية والعرب الفلسطينيين، لا في زمنه ولا في المستقبل المنظور، بالنسبة إلى جيله، وذلك بسبب طبيعة الإنسان ودروس التاريخ. فلم يحدث في التاريخ البشري أن وافق سكان أصليون بمحض إرادتهم على قبول مستوطنين من الخارج وتنازلوا لهم عن السيادة في وطنهم. وأكد أن هذا المبدأ ينطبق على العرب الفلسطينيين الذين يدركون أهداف الصهيونية، ومخاطرها عليهم، ويعارضونها، ويقاومون مظاهرها الأولية، في فلسطين.

وهي سياسة تنسجم مع الاعتقاد اليهودي بأن فلسطين هي أرض الميعاد, وهو إيمان مشترك بين العلمانيين من الصهاينة والمتدينين, يقول المؤرخ الإسرائيلي آمنون راز كركوتسكين... وهو يتحدث عن الوعي الصهيوني تجاه وجوده وظروف قيام دولته:" إنه وعي عالق في مجال "المسيحية" وهو ليس قوميا بالمعنى الاعتيادي؛ لأنه يعتمد على الدين... من المذهل أن ذلك مشترك بين العلمانيين والمتدينين على السواء, نحن نتحدث كما لو كان هناك فصل بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل حيال هذه القضية... الحقيقة أن هناك فارقا بسيطا ينهما, في القضايا السياسية- القومية بالذات. لكن التعمق فيها ينقلنا للتساؤل عما تقدمه الصهيونية العلمانية وتقوله في هذا السياق: أن الوجود اليهودي في البلاد تحقيق لعودة الشعب اليهودي إلى الأرض الموعودة. أي: الموعودة في التوراة" مجلة الكرمل- العدد 58.

هي دولة تتوسع وتعتدي إذن بقدر ما يتاح لها, وتتوقف, أو تراوغ بقدر ما يضغط عليها, ولا مقدس عندها, إلا البقاء, وهي لذلك في سعي دؤوب لضمان تفوقها العسكري, وفي قياس وترقب مستمر لقوة أعدائها, والظروف الدولية والإقليمية, أما أنّ ما تزعمه مقدسا لا يقيدها, فليس أدل على ذلك من انسحابها من سيناء – المقدسة في نظرهم- ورجوعها, ولو منقوصا إلى الإدارة المصرية.
الترانسفير مثالا:

وتصدق هذه الاستراتيجية على الأهداف الصهيونية المجمع عليها, ومنها " الترانسفير" ينقل الدكتور محمود محارب عن يوسي ملمان ودانيئيل رفيف أنه " وبانتهاء عقد الثلاثينيات، تشكل إجماع صهيوني ينادي بالطرد، بانضمام جابوتينسكي إلى الداعين إليه، في رسالة بعث بها عشية موته إلى أحد أعوانه في فلسطين" هذا تاريخ الترانسفير، ملحق دافار، 19/2/1988
وتتضح أهمية هذا الهدف حين يفهم بوصفه مَعْبَرا لتحقيق أحلام اليهود في أرض الميعاد بوصفها "موطنهم المقدس" وهو ما سبقت الإشارة إليه. لكن السؤال: كيف يخضع هذا الهدف لهذه الثنائية بين المأمول والمتاح.

بدافع من تلك العقيدة السياسية, تواصل "إسرائيل" منهجية مؤداها التهجير, تعززها معطيات منها:
- " إسرائيل" هي المتحكمة في الواقع الفلسطيني, وهي التي تفرض عليه ما تريد.
- الإهمال الذي توليه أميركا للقضية الفلسطينية في مقابل التسابق نحو استرضاء "إسرائيل" من الممسكين بالقرار الأميركي، كما فعل بوش في خطابه الأخير في " الكنيست" والطامحين إليه, كما يصرح أوباما.
- قلة الفاعلية السياسية من روسيا وأوروبا ومجلس الأمن, وتتسبب "إسرائيل" في كثير منها.
- الظروف الإقليمية والأزمات المتسابقة التي تشغل مركز الاهتمام العربي, هذا مع ضعف ما يسمى بالإرادة العربية أصلا.
- الاستيطان الذي لا يجد له كابحا عن التوسع في الضفة الغربية والقدس
- مراوحة المسار الفلسطيني في مكانه, ما يجعله شاهدا على الممارسات الاستيطانية المتواصلة, وإجراءات الاحتلال التي تبتغي التيئيس والإحباط.

كل ذلك يسمح لفكرة الترانسفير بالفاعلية, وهو ما يجد له تعبيرات في المخاوف الأردنية الحقيقية من تصدير الفلسطينيين إليه, بدافع مما يعرف عند بعض زعماء الكيان بفكرة الوطن البديل الذي كان من أبرز دعاتها شارون الذي أسس حزب كاديما ويقوده اليوم أولمرت.

لكن تلك الإرادة الدينية السياسية الراغبة في تهجير الفلسطينيين, ليست مطلقة اليد, ولا هي متفردة في ساحة الصراع, فثمة إرادة دولية, وثمة ظروف إقليمية, ومعيقات فلسطينية, لعل أبرزها العامل الديمغرافي الفلسطيني في الداخل وفي الضفة الغربية والقدس وغزة. فقد أعلن جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني 9-2-2008 أن عدد الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية بلغ 3,761,646 . وكان رئيس جهاز الإحصاء الفلسطيني قد توقع
أن يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية إلى نحو5.9 مليون فلسطيني نهاية عام 2020. أما عدد العرب في "إسرائيل" فيبلغ زهاء المليون والربع ويشكلون خُمس السكان تقريبا.

كما أنه ليس من الوارد أن تحظى الرغبة "الإسرائيلية" بتهجير الفلسطينيين بتغطية دولية, ولا سيما في الظروف الدولية الحالية, والأوضاع في المنطقة العربية التي تتسم بقدر كبير من الحساسية, وضعف السيطرة الأمريكية على المنطقة, بسبب تورطها في العراق وأفغانستان. ولا تقبل الحكومات العربية المعنية بهذه الفكرة, ولكن الكيان الغاصب يرضى بأن يقطع في الطريق إليها ما يستطيع, و يبقى هذا هدفا كغيره محكوما بالمعطيات التي يفرضها الصراع, ولا يمكن أن نعد الترحيل قدرا لا مرد له, ولا أن نعد ما يزعمه اليهود من معتقدات دينية سببا لعدم تراجعهم عنه, فليست تلك بأهم عندهم من واقع صلب يناهضهم, أو ضغط حقيقي يكبح جماحهم.

فما حجم المقدسات عندهم؟ :
يقول يهودا بن مئير في معرض حديثه عن إمكانية التنازل عن الشرط الذي يمنع إطلاق سراح معتقلين" مع دم علي اليدين"
{ المعيار الذي يقول بأنه لا يتوجب إطلاق سراح مخربين مع دم علي اليدين ليس فريضة من شريعة سيناء الموسوية. علي وزن عبارة إسحاق رابين الشهيرة، ليست هناك تواريخ مقدسة ، يتوجب القول جهاراً وبصوت مرتفع إنه لا توجد معايير مقدسة ناهيك عن أن هذه المعايير خاضعة لتحليلات وتفسيرات مختلفة ودولة إسرائيل قد خرقتها في السابق في مرات عدة.
الحقيقة هي أننا لم نكن في حاجة لإسحاق رابين حتى ندرك هذا المبدأ الهام. لقد تعلمناه من مصادر عدة وعلي رأسها النبي موسي الذي قرر تغيير الوصايا نفسها التي كتبت بيد الآلهة. يقولون إن معلمنا وأستاذنا وحاخامنا الأكبر موسى قد تلقي الثناء علي ذلك من ربه. لأنه يمكن أحيانا تحويل الوصايا إلى عمل أجنبي. وبالفعل ليست هناك معايير مقدسة.} يهودا بن مئير/ باحث بارز في معهد دراسات الأمن القومي (هآرتس) 31/12/2007

وفي مقال لأولمرت متحدثا عن شارون يقول: " من الواضح لي أنه أدرك بصورة معمقة أن الأوان قد حان في هذا الفصل من تاريخ شعب إسرائيل لأخذ استراحة ومهلة زمنية ومحاولة الدفاع عما تم تحقيقه, حتى بثمن التنازل عن تجسيد حلم أرض إسرائيل الأكثر اتساعاً ولكن الأكثر تشرذماً والأكثر ألما وعذابا والغارقة في حرب بلا نهاية." العناق الأخير- إيهود أولمرت/معاريف ـ 4/1/2008
بل إننا نلحظ بعض دهاقنة السياسة الصهيونية يحاول توظيف المقولات الدينية في تمرير مواقف ربما يضطرون إليها, فقد أعلن بيرس:" أنه لكي تبقى إسرائيل دولة يهودية أخلاقياً وديموغرافياً فهي بحاجة إلى دولة فلسطينية إلى جوارها."

ويبقى السؤال: هل ينسحب هذا التعامل - مع ما يعدونه مقدسا وعقديا- على كل الثوابت التي يزعمونها؟ من مثل القدس وحتى الرحيل عن فلسطين إلى حيث أتوا؟ لا نضيف جديدا إن قلنا إنه ينسحب عليها, ولكن التراجع عنها أصعب؛ فلا تستطيعه المفاوضات, أو الضغوط السياسية, أو حتى الضربات العسكرية المحدودة, على أهميتها, وهو لا يتم إلا إذا أحس اليهود بتهديد حقيقي شامل على حياتهم؛ فالحياة أعز عليهم من الدولة ومن غيرها, مصداقا لقوله تعالى:{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} (البقرة: 96)