الخلاف.. رؤية واقعية.. ومعالجة موضوعية
29 جمادى الأول 1429
المسلم - خاص

بين جنبات البنيان الواحد لابد وأن يحدث الاختلاف ويقع الخلاف، وإلا صارت هذه الأمة المترامية الأبعاد، المختلفة الأجناس استنساخاً بشرياً، وثقافتها اجتراراً فكرياً، لا تقبل به العقول الصحيحة، ولا تستسيغه القلوب السليمة.. هذا بالتأكيد فيما عدا الأصول والثوابت التي لا ينبغي أن تتعدد فيها الرؤى والأفهام.
وخلاف الفروع هذا، كان محور ندوة أقيمت لهذا الغرض في العاصمة السعودية (الرياض) حيث حضر أكثر من ثلاثمائة مشارك فعاليات الندوة التي حملت عنوان هذا التقرير واستمرت ما بين يومي 24ـ29/5/1429هـ، وحفلت بالعديد من المناقشات والكلمات التي سعت إلى بث روح الوعي بفقه الاختلاف، وتوجيه هذا الاختلاف نحو الحيز الصحي لا البغضاء والمشاحنة والعصبية والمفارقة.
وفي كلمة لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، دعا إلى التعامل البناء مع الإيجابيات والسلبيات عبر تنمية الأولى، والإفادة من الثانية، واعتبر أن إقامة مثل هذه الندوة هي باكورة عمل مبارك للدعوة إلى الله.
وقد أكد أن الخلاف وارد والفرقة عذاب، والجماعة رحمة وهم الذين يجتمعون على الخير . وقد قدر أن يكون الناس مختلفين وقد اختلف أبو بكر وعمر.
وأوضح في معرض حديثه عن الفكر وحملته أن السلفية ليست نطاقاً محدوداً ولا إطاراً محدوداً بزمان أو مكان أو رجال ، إن السلفية في الحقيقة هي الصورة الأولى لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهدي صحابته ، ولذلك فإن هذا المنهج بسعة مفهومه لا بضيق أفكار أو رؤى ، وكما صلح في أول الزمان فإنه الذي يصلح آخر الزمان. وبشر معاليه بأن هذه الندوة سيكون لها أثر عملي بإذن الله.
من جهته، تحدث فضيلة الشيخ د.سلمان بن فهد العودة المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم عن فقه الخلاف وتعامل الفقهاء معه، وأنهم لم يضق بهم الخلاف يوماً، وكان لكل رأيه، واتسمت خلافاتهم بالرقي النقدي والهدوء في التعامل معه .
وتحدث عن الزمن وعن أثره في تفهم الجديد وتحدث عن أهمية أن يكون الهدوء سمة بارزة في التعامل مع الحياة. وأن الزمن أحيانا يخفف من التشدد في مسألة ما وأحياناً يصنع التشدد.
ويقتضي العناية بالمتفق عليه وإعطاءه حقه ، والحذر من سيادة المختلف عليه وسطوته على نفسياتنا، فيكدرها ويزيل صفاءها ، وعلى عقولنا فيربكها ويشغلها بالمعارك الجانبية عن المعركة الكبرى ، معركة الحياة والبناء والإيمان. وأنه لا حيلة لنا في الاستثناءات التي ترد علينا. وفي نهاية كلمته أعلن عن صدور تقرير يصدر عن المؤسسة لرعاية فقه الخلاف وتشرف عليه لجان متخصصة.
أما كلمة فضيلة الشيخ/ صالح بن عواد المغامسي (عضو هيئة التدريس بجامعة طيبة وخطيب مسجد قباء)، فتركزت حول سعة اللغة العربية الكبيرة في رعاية الخلاف ومنحه مساحة واسعة من التعامل المرن، وتناول في كلمته تأصيل الخلاف في اللغة والشرع.
ولفت فضيلة الشيخ الدكتور/ الشريف حاتم بن عارف العوني (عضو مجلس الشورى) في كلمته إلى ضرورةُ ضبطِ الاختلاف (لا منعه) ، بأن نسمح بالاختلاف السائغ ، ولا نسمح بالخلاف غير السائغ، وأضاف أن نقص التأصيل العلمي في موضوع الاختلاف من أكبر أسباب غياب آداب الاختلاف عن الممارسات العملية. و أن الاختلاف في الشريعة منه ما هو اختلافٌ معتبر ، وغيرُ معتبر. ومن أبرز التوصيات التي طرحها إشاعة روح التسامح مع فكرة الاختلاف ، وأنه لا بُدّ من الإقرار بضرورة التعايش معه ، على أنه واقعٌ قدريّ ، ومنه ما هو شرعي .
أما فضيلة الشيخ/ عابد بن محمد السفياني (عضو مجلس الشورى) فقد تحدث في هذه الورقة عن الخلاف القديم تقسيماته وتطبيقاته ، وطريقة التعامل معه واستعرض منهج الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان ثم ختم حديثه ببيان الطريقة الصحيحة في توجيه مثل هذا الخلاف وكيفية التعامل معه ، وأشار في بداية هذه الورقة إلى أهمية الربط بين الخلاف والاجتهاد .
وذكر فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد بن عبدالله المزيني (عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن) أن الاختلاف في الفقهيات من الأمر الواقع في القديم والحديث، والمهم أن يقع التناول الفقهي المجرد، بتصحيح النية القلبية، والمرجعية الشرعية، والآلة الفقهية. وقد أكد على مفهوم السعة في الشريعة، وأن تفاوت الأنظار من معاني الرحمة لهذه الأمة، بشرط عدم المغالاة في مسألة أو مسائل، فالعلم رحم بين أهله، وذمة بين المشتغلين به.
وتحدث فضيلة الدكتور/ عبد الكريم بن محمد الحسن بكار عن أن النوازل والمستجدات لها أثر كبير في تغيير مسار الناس وفهمهم لما يطرح.
وحدد الشيخ سليمان بن عبدالله بن ناصر الماجد فقه التعامل مع المخالفين في تحقيق المقاصد في شمول وإتقان عبر جملة من القواعد الحاكمة منها: خشية القلب، وإرادة براءة الذمة للأمة لا تحقيق مآرب أخرى من وراء أظهر الخلاف، وعدم اطراح آراء المخالف بل الإفادة منها بالقدر المتفق والشرع، وأن يتم التحقق من المسائل المختلف عليها وتمحيصها، وأن ينبذ التقليد، ويتم التثبت والتبين فيما هو محل الاختلاف، ومن ثم يتم التعامل العادل مع القضايا المختلفة محل الاختلاف؛ فينظر للمسائل الفرعية ولو في باب البدع العملية في محلها الفقهي وألا يستخدم الهجر في غير موضوعه، وأن يؤخذ بالاعتبار أوجه الإعذار للمخالف أو المخطئ وأن يوضع في جانب التقدير الآخر موضوع الحسنات الماحية، وأن يفهم السائغ من الخلاف من غير السائغ، وألا يحكم على المخالف بما ينسب إلى طائفته وما إلى ذلك من الاعتبارات.
وجسدت الندوة بوجه عام نوعاً من الطرح المتميز الخاص بتأصيل هذا الفقه في هذا الزمان، ومساحات الاختلافات المقبولة وغير المقبولة، وينتظر أن ينتج عن تلك الندوة جهداً يسعى إلى تعميم هذا الوعي السائد بين المحاضرين إلى عموم المسلمين لاسيما في تلك البلاد.
أما الشيخ الدكتور محمد الدويش فقد قال: إن بداية لا بد أن نفرق بين الخلاف والاختلاف، فالخلاف طبيعة بشرية، وسنة كونية، حصل بين الصحابة وسلف الأمة ولازال يحصل ما شاء الله، أما الاختلاف والتفرق فهو مذموم كما قال تعالى (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات).
وتتمثل أبرز التداعيات السلبية للخلاف في الاختلاف والفرقة، وفي اختلال موازين التعامل مع الإخوة وأهل العلم والدعاة، وفي الشعور بالحيرة والقلق، وفي التطرف والغلو، وفي غياب الصفاء في القلوب وتعكير النوايا.
ومن أهم ما يجب أن تعنى به التربية في ذلك: تربية الشباب على التعامل الصحيح مع الخلاف؛ فالوقاية خير من العلاج، وهذا مدعاة لأن نقلل من آثاره السلبية بدلا من أن نشغل بعلاجها بعد حدوثها.
ومن الأدوار المهمة في ذلك: تنمية السمات الشخصية ذات الصلة بالتعامل مع الخلاف كالاعتدال من حيث هو سمة شخصية، والاتزان العاطفي، وسعة الأفق.
والعناية بالجوانب الوجدانية ذات الصلة بالخلاف كالتربية على الصدق وصفاء القلب، ومحبة الآخرين والرفق بهم.
وبناء الثقافة الملائمة للتعامل مع الخلاف كإشاعة ثقافة تقبل الخلاف، والتنوع والتعددية.