المعارضة الصومالية.. هكذا تضيع الفرص
7 جمادى الثانية 1429
أمير سعيد

[email protected]
بوسع كل فريق في المعارضة الصومالية أن يسوق للآخرين حيثيات مواقفه المعلنة، وستجد آذاناً منصتة من أنصاره وأنصارها؛ إذ ليس أسهل من تقديم المبررات "الشرعية" و"السياسية" و"العسكرية"، إن جاز هذا التقسيم.
قبل أيام عقد في جيبوتي مؤتمراً لـ"المصالحة في الصومال" شارك فيه وفد من المعارضة الصومالية، وتحديداً من "التحالف من أجل إعادة تحرير الصومال" الذي يرأسه شيخ شريف أحمد، وفي الجانب الآخر قام عبد السلام نائب رئيس الوزراء الصومالي نور حسن حسين بتمثيل الحكومة، وخلص المؤتمر إلى توقيع اتفاق للمصالحة من بنود عدة، أهم ما فيها النص على انسحاب القوات الإثيوبية من الصومال في غضون أربعة أشهر، وتشكيل قوة "حفظ سلام" تابعة للأمم المتحدة لتحل محلها وتكون تلك القوات مشكلة من "دول صديقة" بخلاف دول الجوار، وبدء سريان وقف إطلاق النار بعد شهر من توقيع الاتفاق، وفي المقابل سيكون على الطرف المعارض مهمة تذليل عقبات هذا الاتفاق من الجانب الميداني والعسكري بحمل مخالفي الاتفاق من المعارضة على قبوله، وإدانة من يتجاوز هذا الهدف من المعارضة.
وقد أثار الاتفاق جدلاً واسعاً في أوساط المعارضة الصومالية، وبلغ الجدال حد التخوين لهذه الجهة أو تلك؛ ففريق شيخ شريف أحمد يرى في الاتفاق فرصة لتحقيق قدر من الاستقرار وإحلال السلام.
ويرى أن إرتريا التي تؤوي معظم قادة المعارضة الإسلامية وغير الإسلامية تسعى إلى إشعال الموقف لخدمة مصالحها في القرن الإفريقي ـ كذا قال شيخ شريف أحمد وغيره من قادة التحالف الموالين له ـ، وقبل الاتفاق استبق شريف ما يتوقعه من ردات فعل على الاتفاق فدعا من مقر إقامته بجيبوتي في مؤتمر صحفي عقده عبر الهاتف مع الإعلاميين، المسؤولين في تحالفه إلى الوحدة "لتفويت الفرصة على الأعداء"، مطالبا بتجنب الخطابات السياسية التي قد تؤدي إلى "انهيار مشاعر المجاهدين والشعب الصومالي".
هؤلاء "المجاهدون" هم ذخيرة يحافظ عليها أيضاً الشيخ حسن طاهر أويس رئيس مجلس شورى المحاكم الإسلامية (إبان سيطرة المحاكم على الحكم في مقديشو قبل نحو عامين) الذي ينتمي لتحالف المعارضة أيضاً، لذا ففريقه تعهد من جانبه بأن الأعمال المسلحة للمقاومة الصومالية لن تتوقف و"ستستمر للنهاية وهذا القرار لن يؤثرنا"، على حد قول أويس.
وفريق المصالحة لم يعد يمثل إلا نفسه؛ فـ"الممثلين الذين وقعوا على الاتفاقية من جانب التحالف مع الحكومة الصومالية لا يمثلوننا"، معتبراً أن النص على الانسحاب الإثيوبي أو طلب الانسحاب بالأحرى غير ملزم للمحتلين، وبالتالي فإن على قواته مواصلة القتال.
أما أعنف الانتقادات للاتفاق؛ فقد جاءت على لسان نائب شيخ شريف أحمد، زكريا محمود الذي كشف خلال اتصال هاتفي مع صحيفة الشرق الأوسط عن أن "اللجنة المركزية للتحالف ستجتمع، الأسبوع المقبل، لوضع حد لخيانة الشيخ شريف لمبادئ التحالف وانفراده باتخاذ قرارات ومواقف تتعارض مع سياسته"، طبقاً لنص كلام القيادي بالتحالف، والذي أضاف: "إن التحالف لن يعترف بأيِّ اتفاق يوقعه شريف مع السلطة الصومالية لأنه عملياً فقد موقعه وثقة أعضاء التحالف ولم يعد يمثلهم.. لم نعد نعترف به رئيساً للتحالف وسنطيحه لأنه خان الأمانة ولم يحافظ على ثوابتنا بشأن رفض أي محادثات سلام مع السلطة الانتقالية أو أي مسؤول إثيوبى قبل انسحاب القوات الإثيوبية".
والسفير الأميركي في نيروبي لعب دورا رئيسيا في ترتيب اجتماعات المصالحة الصومالية الراهنة في جيبوتي بعد اتصالات غير معلنة مع الشيخ شريف من دون علم التحالف، وشريف وبعض أعضاء وفد التحالف إلى مفاوضات جيبوتي قد اجتمعوا سراً ـ وفقا لمعلومات وصلت زكريا ـ مع السفير الإثيوبى في جيبوتي، وبالتالي فذلك "يمثل خيانة لا تغتفر ومحاولة لإقامة علاقات مشبوهة مع ممثلي النظام الإثيوبي".
شيخ شريف أحمد زعيم التحالف خائن إذن في عرف نائبه زكريا محمود، وممثل لنفسه عند الشيخ أويس، والاتفاق الذي وقعه هو ورئيس البرلمان الصومالي الملتحق بالمعارضة شريف حسن آدم هو مجرد حبر على ورق.
ما الذي قاد ثَم إلى هذا الوهن الذي اعترى المعارضة الصومالية؟! كمراقبين بعيدين عن أحراش الصومال، لا يمكننا أن نكون حكاماً بين أطراف المعارضة الصومالية الإسلامية، لكن ذلك لن يحول دون الحديث عن تلك الفرصة الضائعة التي سيقت إلى أيدي المعارضة الصومالية فنفض البعض منها يديه؛ فإذا لم يكن هناك جدوى من قتال المعارضة فما الجدوى من السلام المجتزأ؟!
في الحقيقة ثمة نقطة منهجية تحكم قضايا كهذه تمر دوماً على الحركات والقوى الإسلامية، وتدعونا لأن نتساءل: هل أضحى شيخ شريف خائناً فجأة بين ليلة وضحاها؟! فإذا كان كذلك فلم غابت الفطنة عن من اختاروه وسودوه عليهم؟! وإن لم يكن كذلك؛ أفلا توجد طريقة أخرى حضارية إسلامية للاختلاف في وجهات النظر، وفي التعاطي مع القضايا المصيرية بما يجعل تلك الحركات تبدو أكثر تماسكاً واحتراماً من قبل أعدائها فضلاً عن مناصريها؟!
إن من المؤسف حقاً ألا نجد سلاح التخوين والتخطيء والتبديع وربما التكفير.. وهلم جرا إلا في الجانب الذي يُفترض فيه الاستقلال والقيم والأخلاق، ونقيضه نراه أكثر تماسكاً ولو كان راهناً إرادته للأجنبي ويحركه الأغراب من فوق ستارة المسرح!!
أومن التفرد العربي أن يكون الاستقلال قرين التشرذم والتشظي، والعمالة للأجنبي قرينة الوحدة والاتحاد؟! لقد كانت المحاكم مبعث أمل ساعة تمكنت من بسط الأمن وتحقيق الوحدة في أرجاء الصومال المسكين، والآن لابد وأن تدرك طبيعة المرحلة وثقل الحمل الذي وضع على كاهلها كطرف يعقد الصوماليون عليه آمالاً، وهذه الآمال لن ترى نوراً من كوات صغيرات يرى كل فريق منها العالم من زاويته الضيقة.
وصحيح أن عند كل فريق بعض الحق، ولديه بعض المبالغات في دقة حساباته، والرقم الصومالي لا يقبل القسمة، وإنما يعوزه توحيد المقامات.
من وجهة نظر شيخ شريف ـ أو نظن أن هكذا رؤيته التي أسس عليها موقفه ـ أن الصومال يمر بأسوأ حلقات المجاعات منذ عشر سنين، وسنواته العجاف تلك تحدوه لأن يقدم شيئاً من التنازلات من أجل وقف نزيف الدم الصومالي، وتأمين الغذاء والدواء للمضارين..
فريقه أيضاً لابد وأن يقول إنه لم يكُ يوماً ما خائناً، ووقت وقف إلى جوار المقاتلين من المحاكم أدرك أن المسؤولية أكبر مما كان يتصور؛ فهاهم قد حازوا العاصمة لكنها ضاعت من بين أيديهم في سويعات لأن فارق القوة ليس لصالحهم بالمرة، والتدخل الأمريكي الجوي قد حال دون تماسك قواتهم.. لم يكن شريف خائناً يوم انسحبت قوات المحاكم من العاصمة ولاحقتها القوات الإثيوبية وتبعثر القادة في الخارج في العواصم المناوئة للصومال ـ شاء المراهنون أم أبوا أن يبوحوا ـ. وفريقه بمقدوره أن يقول إنه قد انسحب من المفاوضات الصومالية حينما حضرها السفير الإثيوبي، وأن لا داعي لسيف التخوين حتى لو التقى شريف بالسفير في مكان ما؛ فاللقاء بحد ذاته لا ينبئ عن خيانة ما لم يتبعه فعل ذميم.
ومن اللائق أن يكون الانسحاب الإثيوبي مبرمجاً ومقابلاً لبعض التنازلات ضماناً لعدم تراجع الإثيوبيين وعودتهم من جديد ريثما يبنى الصوماليون دولتهم بعد هذا الإنهاك المتواصل.
وبإمكان خصومه في داخل التحالف أن يقولوا إن المفاوض الضعيف لن يظفر بأدنى درجات الانتصار، وإن التفاوض السري ـ في حال حصوله ـ يدل على أن لشريف ورفاقه ما يخفونه، والتعهد الذي قطعه وفدهم بإدانة المقاتلين غير الملتزمين بوقف النار هدفه شق الصف، لاسيما وأن هناك طرفاً ثالثاً أكثر "راديكالية" هو تنظيم "شباب المجاهدين" لن يقبل إلا بالدم مقابل الدم، وسيقف حيال أي اتفاق لا يضمن انسحاباً فورياً و"إقامة دولة إسلامية" وفقاً لرؤية الشباب الذين فقدوا زعيمهم من قريب جراء غارة أمريكية، وهؤلاء سيعرقلون جهود شريف وسيتنقل الاحتراب إلى الداخل الصومالي الإسلامي (التنظيمي) خلافاً للخارج وذاك الخاص بمقاومة المحتل الظاهر/إثيوبيا.
وسيقولون في ذواتهم ـ أو خارجها ـ إن انتقاد إرتريا الآن مفضٍ إلى كسر أرجل الكرسي الذي يجلس عليه القادة الإسلاميون في أسمرة، ومحال أن يتوجه هذا الانتقاد ممن يريد بالمقاومة الصومالية خيراً..
إما تنظيم حركة شباب المجاهدين الذين لا يعترفون بالتفاوض أصلاً سواء قاده أويس أو شريف؛ فحنقهم سيزيد على المفاوضين، وسوف لن يجدوا أنفسهم مضطرين إلى قبوله فضلاً عن إفساح المجال لـ"معتدلي" المحاكم الإسلامية لتطبيقه بما قد ينذر بمزيد من احتمالات التسخين الداخلي، وهؤلاء أيضاً لن تنقصهم بعض الانتصارات هنا وهناك ليظنوا بالمفاوضين الظنون، حتى لو قال لهم شيخ شريف لقد حققنا أكثر مما حققتموه بكثير في شهور ثم تراجعنا في أيام قليلات.
إن الداء في هذا البلد البائس وفي بلدان أخرى كثيرة واحد، ويكاد يكون صورة مستنسخة ونموذجاً متكرراً؛ فالتنازع والفشل وضيق الصدر بالخلاف وعدم احتواء الآراء المتعارضة وفق تفسير أو سوء تقدير المواقف منذ البداية والثقة الزائدة فيمن لا يستحقها وفق تفسير آخر، هو الذي يصنع التضارب في المواقف وفي اهتزاز الثقة بالقادة وبالطريق كله من قبل الأنصار، وهذا مؤشر غير جديد لكنه متجدد على أن كثيراً من الحركات والقوى الإسلامية والوطنية في الدول العربية لم تنضج بعد، وتسحب من رصيد مكتسباتها بأيديها.
لا نزعم على أي حال أننا نفهم اللعبة في الصومال جيداً ولم ندخل أحراشها لتبوح لنا بأسرارها، ولم نتعرف عليها إلا من خلال شاشات التلفزيون، ونكاد بالكاد نعرف خلفيات شريف وأويس وشباب المجاهدين الأيديولوجية، لكن ما نفهمه جيداً أن هذه أعراض مرض مستفحل ومستشرٍ لا علاج له إلا بمراجعة الذات ثم إنكارها، وبتقديم القيم ثم إعلائها.. هذا باختصار حديث الفرصة الضائعة، فالتعلق ليس باتفاق ولا بسلاح وإنما بقيمة معلاة ورحمة مهداة.