أنت هنا

الوقوف في وجه التنصير في الجزائر.. مسألة شرف أيضا
26 رجب 1429
ياسمينة صالح

من يعتقد أن التنصير في دولة مثل الجزائر صدفة، أو تهويل غير حقيقي لا يعرف ما يجري في البلاد. الجزائر التي استطاعت ان تطرد أعتى قوة كولونيالية استعمارية اعتبرت هذه الدولة المسلمة جمهوريتها الخاصة، تحت عبارة "الجزائر الفرنسية" كما رفعها شارل ديغول ليثبت لنفسه انه نابليون الثاني، و الحال ان استقلال الجزائر على مدى ملايين الشهداء، و 132 سنة من الاحتلال لم يكن أمرا هينا و لا بسيطا لفرنسا التي لم تخسر حربا راهنت عليها أكثر من قرن من الزمن، بل خسرت أيضا الحلم الكولونيالي المتمثل في"الجزائر الفرنسية"، بيد الذين حاربوا الثورة الجزائرية لم يكونوا فقط من "مناضلي الصدفة" الذين التحقوا بالثورة "أيام فقط" قبل نهايتها، و لا أولئك الذين وقفوا ضدها من الجزائريين معتبرينها "إرهابا يمارسه الجياع"، بل كانوا من كل هذه العينة الفاسدة التي حانت البلاد مرتين، مرة قبل الثورة و مرة أثناءها و مرة بعدها، لأجل ان تأخذهم فرنسا معها، و قد أخذت بعضهم و حبستهم في "غيتوهات" أطلقت عليها مصطلح "غيتوهات الحركى" (وعبارة الحركى تعني في اللهجة الجزائرية الخونة)، ومن تركت خلفها عبارة عن حفنة من الخونة استطاع بعضهم أن يتسرب إلى مواقع مهمة و حساسة في البلاد و وضعوا أرجلهم على الخط، قاطعين الطريق أمام كل محاولة التغيير الحقيقي، الذي كان يناشده الشهداء أنفسهم، فلماذا تقوم الثورة عادة؟ أليس لأجل الشعب؟ لأجل تحريرهم من الهمجية مهما كانت مسمياتها، و من الفقر و العوز و التهميش؟ حتى التعريب رفضوه، لأجل أن يحققوا حلم فرنسا الذي تكسر على مشارف "سيدي فرج" البحرية الجزائرية..

التعريب أول الطرق التي قطعت !
في السبعينات من القرن الماضي، بدأت عبارة "التعريب" تخرج إلى السطح بشكل خجول، و ارتجالي، مع ذلك بقيت الجزائر مفرنسة في إداراتها، في الثمانينات عندما بدأ التعريب يفرض نفسه على المستوى الإداري، دون أن يكون ذلك التسرب حقيقيا ولا فاعلا، لأن الذين كانوا في الإدارة، كانوا أيضا من بقايا الفرنسيين (حتى لو كانوا جزائريين جلدة)، مع أن التعريب لم يكن خيار الجزائريين فقط، بل كان واجبا أيضا، لأن الجزائر لا تنتمي إلى فرنسا، و إلا ما كانت شنت ثورة عليها، و لأن الجزائر لا تتكون من النخبة الفاسدة التي تدير المواقع الحساسة، بل تتكون من البسطاء و الفقراء، و الذين كانوا يدافعون في مواقعهم عن خيار الشهداء المتمثل في دولة حقيقية و جزائرية و قادرة على أن تكون للجميع، و ليست للنخبة المتفرنسة الفاسدة التي أكلت الأخضر واليابس على مدى سنوات دون أن تمنح للشعب شيئا، و لا حتى "شبه دولة قوية" بدليل كل الفوضى التي تحققت بسرعة و كل النيران التي اشتعلت في هشيم بلاد قيل أنها قوية ليكتشف الناس أنها لم تكن كذلك و أن النخب التي تسببت في هذه الهشاشة استطاعت أن تأخذ من جديد مواقعها، و تغادر الجزائر لتسمي نفسها " ديمقراطية منفية" و لتعطي ل"نضالها" شرعية أخرى اسمها " مناهضة الظلاميين".
هؤلاء "الديمقراطيين الجدد" كانوا يطلقون على المعربين في الثمانيين مصطلح: الفلاقة، و في التسعينات وضعوا الإسلام كله في خانة الإرهاب، و فعلوا ما فعلوه ليدفع المسلم ثمن العنف، و ليتجرد المسلم من هويته ثانية، لأن الإسلام ارتبط دوليا بعدئذ ب" الإرهاب" وفق إيديولوجية المجرم الكبير "جورج دابليو بوش" بعد أحداث 11 سبتمر2001. فكيف يمكن الحديث عن قطع الطريق أمام استقلال البلاد الحقيقي دون الحديث عن قطع الطريق أمام التعريب؟
التعريب الذي مورس ضده كل أنواع الإرهاب الإداري و السياسي خوفا أن يخرج إلى الوجود جيل يجيد قراءة قرآنه قراءة صحيحة، ولهذا حولوا حربهم على المدرسة الجزائرية التي اتهموها بأنها تفقس الإرهابيين، لأن التعريب دخل إلى المدارس آليا، و اتهموا المنظومة بأنها منظومة " صالحة للحمير"، و استطاعوا النيل منها و كسرها، بحيث أنها لم تنجح في إخراج جيل متعلم بالمعنى الحقيقي، بل جيل ضائع، غير قادر على استيعاب المعارك الدائرة حوله، و غير قادرة على حب المدرسة أو إكمال دراسته فيها (لأنهم أفقروه و جوعوه و قالوا له إما الكتاب و إما الخبز و الحال أنه لم يحصل لا على الكتاب و لا على الخبز).. !
الأحزاب و القوى الإسلامية في الجزائر
أغلب القوى الإسلامية بعد الاستقلال لم تكن تتعدى جمعية العلماء المسلمين التي أسسها العلامة الراحل الكبير عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه، و التي لا يمكن أن ننسى دورها الرائع طوال سنوات على الرغم من أن العديد من الجهات حاولت إفراغها من مضمونها، لأنها كانت هيئة تشكل في النهاية الصور الأكثر حضورا و المتجسد في الإمام الكبير "بن باديس" الذي ترك أجمل بيت يقول: شعب الجزائر مسلم و إلى العروبة ينتسب.. سأدرج حادثة مهمة أطلقها بعض المغرضين عن الإمام "بن باديس" على سبيل المثال لا الحصر، ففي نهاية الثمانينات من القرن الميلادي الماضي، روجت جهات إعلامية أن الإمام الذي كتب عن العلم و دافع عنه و أراده لأبناء أمتهم حرم شقيقتيه من ذلك، و منعهما من متابعة دراستهما..!
هذه الإشاعة وجدت بسرعة من "يطبل لها" و حاولت النيل من سنوات طويلة من العمل و الجهد و النضال لإمام يبقى في نظر الجزائريين واحد من أهم مؤسسي جمعية العلماء المسلمين التي أرادت أن تمنح للجزائريين إبان الاحتلال فرصة للقراءة و للتعليم الديني و الثقافي.. جمعية علماء المسلمين كانت تنشط بالخصوص في مدينة قسنطينة بشرق البلاد، كانت محصورة في تلك البقعة، ليس لأنها عاجزة كهيكل تعليمي أو ديني، بل لأنها حرمت من التواجد الحقيقي في البلاد، ومورس عليها حصار حقيقي، بحيث أنها صارت مجرد "جمعية" تشريفية لإمام يتذكره الشعب كل شهر أبريل في يوم العلم.. مجرد يوم واحد في السنة يتذكرون فيها الإمام عبد الحميد بن باديس بشكل كرنافالي "يوم أشبه بالمسخرة"، بدليل أنهم حاربوا أبسط المطالب التي أسسها ألا و هي التعريب، و التقرب من الدين عبر التعليم...
لم يكن ثمة من يسمح بتأسيس مراكز إسلامية فاعلة، بالمعنى الحقيقي. كل ما كان يصنع "عنوانا" فقط لمراكز وجمعيات و مشاريع كانت تجهض بسرعة.. كأن الدين بعبعا يرعب "أبناء فرنسا" في البلاد، بيد أن سيطرتهم على كل شيء جعل الاعتقاد أنهم الأكثرية، ليكتشفوا هم أنفسهم أنهم ليسوا أكثر من كمشة من الخونة الجاهزين لكل شيء، بما في ذلك إلغاء صوت الآذان في التلفزيون، قبل أن يتم إعادته ـ سنوات من بعد إلغائه ـ اكتشفوا أنهم كمشة بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالأغلبية الساحقة في الانتخابات التشريعية و كانت قاب قوسين و أدنى من السلطة. فهل يبدو التنصير اليوم في الجزائر عملا فرديا، و أجنبيا فقط؟
هل يبدو عملا عفويا موجه إلى جهة دون غيرها؟ لا شيء عفوي و لا بريء في قضية التنصير لأنها قضية سياسية من الدرجة الأولى، و لأن الذين سربوا الأناجيل و أدخلوهم، يملكون مواقعهم و ليسوا ـ كأشخاص ـ مصبوغين بالحبر السري كي لا تحاسبهم السلطة..
إنها الجريمة في حق دولة مات ملايين الشهداء ليغسلوا فيها عار الظلم و العبثية..