حوار مدريد ومكانه من أصول الحوار وغاياته
10 رجب 1429
إبراهيم الأزرق

لعل من التقرر أن الحوار قد يجب وجوباً كفائياً أو عينياً على بعض المسلمين في قضايا الدعوة والتعليم وغيرهما وضابط ذلك أن يترتب على تركه حصول باطل، وفيما عدا ذلك قد يندب وقد يجوز وقد يكره وقد يحرم، وضابط هذا أن يشتمل في نفسه على باطل لم تدع إليه ضرورة ولم ترجح مصلحته، أو يستراب ترتب باطل عليه لاعتبارات مرضية.

 

ويغلط من يجعل الجدل الدائر حول حوارٍ ما بأنه فرعٌ عن جواز الحوار لغير غرض الدعوة، ويغلط كذلك يوم يقرر أن الحوار يجوز ولو لم يكن لغرض الدعوة هكذا بإطلاق.

 

بل الحوار ولو كان لغرض الدعوة فقد يسوغ وقد لايسوغ، وهكذا لو كان غرضه غير الدعوة.

وإذا أردت أن تعرف حال حوار ما، فانظر إلى:

موضوعه وغرضه أولاً.

ثم انظر إلى مشروعية ذلك الموضوع وإمكان ذلك الغرض.

فإن كان موضوع الحوار مشروعاً، وغرضه الذي يزمع العمل عليه ممكناً شرعاً وقدراً.

فانظر بعد ذلك في المتحاورين، وتأمل هل هم أهل للحوار في ذلك الموضوع، وهل هم أهل لتحقيق ذلك الغرض الذي ربما كان ممكناً لغيرهم غير ممكن لهم.

 

وحتى لا يُعْمِي الهوى ناظري الناظر في هذه الثلاث فعليه أن يتحرز من أمور:

فعند نظره إلى موضوع الحوار وغرضه، فعليه أن لا يكتفي بقول أحد المتحاورين من أجل تحديده، بل الواجب أن ينظر بإنصاف إلى أقوال من نظمه ودعا إليه، وإلى ما أعلنه المدعوين المختلفين إليه.

ثم عليه أن يعرف مرامي المجملات التي ربما اكتنفت موضوع الحوار وما يراد بها، ولا ينبغي له أن يحمل الموضوع المجمل على معنى صحيح يرتضيه، بينما يحمله المحاور على معنى باطل يأباه.

فإن تقرر أن موضوع الحوار ممكن مشروع فانظر في المتحاورين هل هم أهل لإقامة ذلك الغرض، أم أن الاجتماع بهم ضرب من العبث.

 

وإذا بدا هذا عرفت لماذا يستريب بعضهم ويتوجس خيفة من حوار مدريد؟

ولعل من أن أسباب زيادة تنامي هذا الشعور أن ثمة خطوات معلنة متسارعة نتيجة الانسياق وراءها قد تكون وخيمة، فالناظر في مبدء الإعلانات واللقاءات يجد التصريح بنية الإقدام على ثلاث خطوات:

الأولى مؤتمر إسلامي يدعو للحوار، فعقد في مكة، وحضره من الصالحين والطالحين جم غفير، وأحجمت عنه ثلة رأت أن مجرد اجتماع من اجتمع لإرساء أسس الحوار محل إشكال، فالمجتمعون أنفسهم في حاجة إلى حوار دعوي وسياسي واجتماعي مع بعضهم ابتداء لإرساء أسس تفاهم لايمكن أن ترسى إن اختزل الحوار بينهم في قضية ضيقة.

 

ثم الخطوة الثانية: الحوار الدولي الذي يزمع عقده في مدريد قريباً، وهذا أحجم عنه بعض المشاركين في المؤتمر الأول، ويرى بعض المراقبين أن سبب الإحجام بدء التقوّل عليهم.

 

والثالثة: توصيات إلى الأمم المتحدة سوف يُجتهد في تبنيها والإلزام بها، ويخشى إن هي جاءت أن يقرع سن الندم بعض من أقدم على الخطوة الثانية من الطيبين إن لم يتحرزوا.

 

فبعد الالتقاء بوفد اليابان في المملكة وإعلان بعض أهداف الحوار إذ ذاك غير المرضية، جاءت الخطوة الأولى متمثلة بالتقاء مكة، ثم تتبعها قريباً خطوة صُرِّح بحاصلها في افتتاح مؤتمر مكة، وهي  التي عرفت اليوم بمؤتمر مدريد، والناظر في غرض الحوار المزمع وموضوعه يجد اختلافاً في التصريحات، وذلك وفقاً لما أُعلن عند لقاء وفد اليابان وكذلك في افتتاح مؤتمر مكة، ومع وجود هذه التصريحات توجد تصريحات أخرى من نحو ما أدلى به بعض الفضلاء المعنيين بالحوار وحاصلها أن غرض اللقاء المدريدي العمل ضمن إطار المشترك بين أتباع الديانات الثلاث، لكن صرح آخرون بأن غرض الحوار إنما هو: "التقريب بين الأديان العالمية لمواجهة التحديات المشتركة" كما نص على ذلك بعض الحاخامات.

 

وعلى هذا فموضوع الحوار ومقرراته التي يخدمها وفقاً لتصريحات المعنيين المعلنة تصب في قالب التقارب المتمثل بالتسامح بين أتباع الديانات من أجل مواجهة تحديات مشتركة متمثلة في التطرف والإرهاب بالإضافة إلى القضايا الأسرية والأخلاقية.

 

وفي هذا الغرض كما لا يخفى من الإجمال القابل لتفسيرات شتى شيءٌ كثير وذلك لا يخفى على بصير حدد النظر فيه وفي ملابساته المختلفة.

فالتسامح قد يراد به –ولاسيما عند دعاة التقارب بين الأديان- إقرار الأديان المختلفة على باطلها، واجتناب إبطالها بل إعلان تصحيحها، وهذا المفهوم للتسامح كان غرض الحوار السابق مطلع هذا العام في مدريد نفسها.

 

وبالإضافة إلى هذا الإجمال إجمال آخر فيما يتعلق بحرب التطرف والإرهاب إذ يدخل الغرب ضمن ما يذم من هذه الألفاظ طوائف ممن يناضلون لنيل حقوقهم، أو يجاهدون ذوداً عن بلادهم.

وأما ما في المؤتمر المزمع من الخير المتمثل في تعزيز المشترك الإنساني بين أصحاب الديانات الثلاثة، فثمرة الحوار فيه قليلة، إذ أن المشترك المتقرر لا يحتاج الناس إلى مثل هذا الحوار فيه بقدر حاجتهم إلى اتصال الجمعيات والمؤسسات العاملة المختصة مع بعضها لتعزز تعاونها في المشترك الذي لا خلاف بينها حوله.

فهذا ما يتعلق بموضوع حوار مدريد وغرضه، ولعل فيه غبشاً وإجمالاً يستدعي الاحتراز.

وإذا بدا هذا فيقال: يا فضلاء أهل الإسلام المتوجهين إلى مدريد: الله الله في ثوابت دينكم، إياكم ثم إياكم أن يمرر أعداؤكم من خلالكم ما يزعزعها، احذروا التوصية بالمجملات كحذركم من المصادقة على الباطل، فما أقرب أن يضرب أهلكم وإخوانكم وعلماؤكم بتلك المجملات إن هي أُقرت، لأن التفسير حينها سوف يكون بيد هيئات أممية لا يد لكم عليها أو فيها.

 

والله أسأل أن يلهمكم رشدكم، ويفتح على قلوبكم، وأن يثبتكم بالقول الثابت في هذه الحياة وبعد الممات، والله المستعان.