مغزى نصيحة كيسنجر
26 شعبان 1429
طلعت رميح
 
فى الأزمات الصعبة ،أو لتحديد اتجاهات القرار الامريكى بشأن العراق، فى ظل حالات الارتباك فى التقدير أو لنقل حين يسود الانزعاج الصهيونى من نتائج انعكاس أوضاع القوات  الولايات المتحدة فى العراق على الكيان الصهيونى، يظهر هنرى كيسنجر، ليقدم رؤية استراتيجية أو لنقل إنه يظهر ليقدم مفهوما يحدد اتجاه القرار الأمريكي فى المرحلة التى يسود فيها الارتباك وتتصاعد فيها الخلافات والاختلافات إلى درجة الاضطراب داخل مؤسسات صنع القرار الأمريكية.
من قبل، وحيث كانت الاجهزة والمؤسسات الأمريكية فى حالة ارتباك شديد وصل حد تبادل الاتهامات بين أطراف السلطة السياسية والعسكرية ،_ أو كان الحال وصل حسب اعتراف كيسنجر نفسه إلى درجة الحديث عن الهزيمة الامريكيه فى العراق _، ظهر كيسنجر ليتحدث عن أن الحل فى العراق هو تقسيم هذا البلد، ومن بعد جرت التحركات الرسمية والمؤسسية فى الولايات المتحدة نحو تحويل أطروحة كيسنجر الى اتجاه وقرار، حيث جرى التقدم للكونجرس من أحد افراد اللوبي الصهيوني بقرار لتقسيم العراق.
كانت وصية كيسنجر باختصار أحرقوا العراق الذى هزمنا، وأنهوا وجوده حتى لا نعترف بالهزيمة أمامه.
وقتها كان الكيان الصهيونى هو الأشد خوفا من انسحاب القوات الامريكية من العراق، لما سيخلفه ذلك من ارتباك للأوضاع الاستراتيجية فى المنطقة، كما كان الكيان الصهيونى هو الأشد تحسبا لاحتمالات تطور معركة العراق باتجاه فلسطين.
واليوم أو لنقل فى هذه الأيام، وفى ظل الارتباك الأمريكى الحادث جراء ما يطرح خلال الحملة الانتخابية الأمريكية، دخل كيسنجر على خط محاولة إنهاء الارتباك الأمريكى بتقديم  نظرية جديدة تحكم القرار الأمريكى بشأن العراق, من المهم للغاية أن نفهم أبعادها, سواء لما تظهره من اتجاهات التفكير الجارية فى الولايات المتحدة الآن، أو باعتبار تأثير كيسنجر وما يطرح على صانع القرار او على مؤسسات التأثير فى صنع القرار فى الولايات المتحدة.
 
الارتباك  الأمريكى:
ما المشكلة التى يعالجها كيسنجر الآن. حسب وصفه فى مقال نشره مؤخرا تحت عنوان "فرضيات جديدة فى العراق "يوصف المشكلة الراهنة بالقول : إن المشكلة أن ما يصدر من أطروحات فى الانتخابات الامريكية (التى يراها طالت واحتدمت)، أنها تعمل داخل شرنقة ،بمعنى أنها غافلة عن التطورات التى جرت على الأرض العراقية ، و هو يرى أن معركة الانتخابات تجرى على أساس صورة قديمة عن الأوضاع فى العراق ،لا تدرك المستجدات التى جرت  على أرض الواقع هناك .
 
 أما طرحه للعمل فى معالجة تلك المشكلة وفى والخلاصة التى يراها , فهو يقوم على ضرورة إدراك أن الاوضاع  الحالية فى العراق , ليست هى ما يجرى الخلاف والاختلاف حوله داخل الشرنقة التى تجرى فى داخلها الخلافات فى تلك الانتخابات, هو يرى أن الأوضاع حدث بها تغيير وتقدم، ولذلك ووفق شروط محددة _ يذكرها كاتجاهات عامة_ فإن الوضع يسمح بالانسحاب، وبتحويل عدد من القوات الأمريكية الموجودة فى العراق إلى أفغانستان وإعادة الجزء الباقى إلى أمريكا شرط أن يجرى ذلك دون تحديد موعد.
 
وبغض النظر عن ادعاءات كيسنجر أو بغض النظر عن صحة الأساس الذى يبنى عليه  فكرته فى الانسحاب_ أى حدوث تقدم على الأرض _فالأهم فيما يقوله ،هو أنه يحدد خطا للحوار و اتجاه القرار فى أمريكا يربط بين ما يطرحه أوباما وماكين ، فى محاولة لنزع فتيل الصراع بين الاثنين وإنهاء امتداداته داخل الرأي العام الأمريكى بما يسمح بتوحيد الجبهة الداخلية فى الولايات المتحدة حول قرار ورؤية موحدة .أو هو يحاول نزع فتيل حالة الصراع بين أوباما وماكين التى تظهر من خلالها الصورة الحقيقية للهزيمة الامريكية فى العراق. كيف؟
 
هو يتحدث فى هذا المقال عن أن هناك تقدما حدث فى العراق (وهو ما يزعمه بوش وماكين والحزب الجمهورى ) ثم هو يؤسس على ذلك فكرة الانسحاب التى يطالب بها باراك اوباما والحزب الديموقراطى .
 
وفى ذلك يتحدث كيسنجر عن الانسحاب فيحدد شروطه وخطة التحرك بشأنه _بالإختلاف مع أوباما وماكين أو برسم خط يصل فكرتى أوباما وماكين ،فيقول تحديدا :ان الوجود الامريكى فى العراق ،يجب ان لا يطرح على انه لا نهاية له ،فهذا الامر لن يجد تاييدا من الراى العام الأمريكي أو الرأى العام العراقى .
وكذا هو ، يفصل بين الانسحاب المرتبط بهزيمة الولايات المتحدة والانسحاب البادى وكأنه ناتج عن تحقيق أهداف الاستراتيجية للولايات الأمريكية فى العراق، فيشير إلى ضرورة فهم أن الانسحاب وسيلة وليس غاية حسب نص حديثه أيضا.
لذلك هو يطالب "بعدم تحديد موعد للانسحاب" – النص له – و يضيف أن تحديد موعد للانسحاب هو أضمن طريقة لتقويض التوقعات المأمولة, لأنه يشجع الجماعات الداخلية على التخفى إلى أن تواتيهم فرصة الظهور مرة أخرى مع رحيل القوات الأمريكية. ويشير إلى أن تحديد موعد ثابت للانسحاب من العراق سيبدد مصادر القوة المطلوبة للمرحلة الأخيرة من التحرك الديبلوماسى بعد الانسحاب .
وبعد ذلك يشير كيسنجر, إلى أن نتيجة الإنسحاب يجب أن تجرى بتحريك بعض من القوات الأمريكيه إلى أفغانستان وعودة البعض الأخر إلى الولايات المتحدة ,وهو ما لا يمكن وصفه حينها بالهزيمة.
 
الفكرة الجوهرية :
والفكرة الجوهرية لكيسنجر هى أن يجرى الانسحاب دون إعلان هزيمة الولايات المتحدة فى العراق وهى ذات الفكرة الإستراتيجية التى عمل من خلالها خلال الحرب الفيتنامية فى إنهاء الحرب، قامت خطة كيسنجر بالأساس على فكرة أن يجرى الانسحاب من فيتنام ضمن صياغة لا تظهر أن الولايات المتحدة تنسحب من هناك نتيجة لهزيمتها أمام المقاومة الفيتنامية ،وهو ما سمى وقتها بالفجوة السحرية .
والفجوة السحرية التى خاض على أساسها كيسنجر ،رؤية و مفاوضات سحب القوات الأمريكية  من فيتنام؛ قامت على أساس أن يجرى الاتفاق  مع المقاومة من خلال المفاوضات على انسحاب القوات الأمريكية المعتدية من فيتنام الجنوبية خلال عام من توقيع الاتفاق، وأن يجرى خلال العام انتخابات واستفتاءات ومجموعة من الاجراءات فى فيتنام الجنوبية، كان القصد من ذلك أن تبدو المعركة وقد تحولت إلى معركة بين فيتنام الجنوبية وفيتنام الشمالية, دون أن تكون القوات الأمريكية فى حالة قتال فعلي.
كانت وجهة نظر كيسنجر والقادة العسكريين الأمريكيين أن الجيش الحكومى العميل الذي شكلوه هناك وبلغ تعداده قرابة المليون قادر على الصمود أمام المقاومة لمدة عام على الأكثر, وتلك الفجوة الزمنية تسمح بالفصل بين الانسحاب الأمريكى وهزيمة القوات الفيتنامية العميلة.أى بالدقة أن الولايات المتحدة باعت الحكم العميل والجيش المرتبط بها للمقاومة؛ لكى تنقذ نفسها من فكرة الهزيمة. لكن تلك الفجوة السحرية لم تنجح فى إظهار انسحاب القوات الأمريكية نصرا, إذ تحولت هزيمة القوات العميلة إلى يوم هزيمة للقوات الأمريكية، إذ ظهر العملاء الأمريكيون ومن بقى من قوات أمريكية, فى وضع المرعوب لا المهزوم فقط, تتخطفهم طائرات الهليوكبتر التابعة للجيش الأمريكي فى مشهد درامى أصبح عنوانا لنهاية الحرب الفيتنامية و للهزيمة الأمريكية.
والآن يطرح كيسنجر أمرا مشابها أو على نفس نمط وفكرة "الفجوة السحرية". والفجوة السحرية فى العراق ،تقوم على أن لا يتحدث القادة الامريكيين السياسيين القادمين الى البيت الأبيض عن الانسحاب (الناتج عن الهزيمة)، وبعدم تحديد موعد للانسحاب حتى لا تظهر الولايات المتحدة بمظهر المنهزم، لكنه ينصح فى الجانب الآخر بأن لا يبدو الاحتلال الامريكى أبديا فى العراق ،وذلك ما يلقى مزيدا من الأضواء حول الأحاديث التى سمعناها ونسمعها من المالكى وزيبارى حول انسحاب القوات الامريكية من العراق ،وفقا لاتفاق بين الحكومة الحالية وقوات الاحتلال والإدارة الأمريكية.
والأمر الثانى الذى يقدمه كيسنجر، هو فك الاشتباك بين أوباما وماكين وبين الحزب الجمهورى وأنصاره والحزب الديموقراطى وأنصاره، وبما يجعل المجتمع الأمريكى صاحب اختيار واحد بعدما مزقه الخلاف ، وذلك من أجل عدم ابلاغ العالم بهزيمة المجتمع الامريكى لا الجيش فقط .كيف ؟
 
هو يبرز فكرة الانسحاب ،لكنه مع ذلك , يرفض فكرتى ماكين واوباما ،ويعمل من أجل إيصالهم الى فكرة وقرار موحد ،لجعل الهزيمة تبدو نصرا ،.  فكرة كيسنجر تقوم على جعـل الانسحاب يبدو ناتجا عن تحقيق التقدم لا جراء الهزيمة .هو يأخذ من ماكين ما يشير إلى حدوث تقدم على الأرض حققته القوات الأمريكية ضد المقاومة، كما هو يأخذ من أوباما فكرة الانسحاب، ويرفض أن يكون الانسحاب مرتبطا بوقت معين, كما يطلب أو يطرح أوباما, حتى لا يبدو الانسحاب هزيمة وحتى لا تستعد المقاومة وتجهز نفسها إلى ما بعد الانسحاب , أي هو يشير إلى أن يجرى الانسحاب وفق نمط من الخداع الاستراتيجى هو هنا يعيد تجديد الدرس الذى تعلمه فى فيتنام من خلال الاصرار على عدم تحديد موعد للإنسحاب ؛حيث لم تفلح فكرة الفجوة السحرية الا وقتيا اذ لحظه هزيمه القوات الفيتنامية أعلنت هزيمة الولايات المتحدة.
 
خدعة كيسنجر
والأخطر يطرح فكرة "خداع الرأي العام الأمريكى والعراقى معا "، فيشير إلى ضرورة عدم إظهار أن الاحتلال سيستمر بلا نهاية، ويشير نصا إلى ذلك حيث الرأي العام العراقي والأمريكي لن يقبل ذلك ،وهو ما يدفع للتحذير من الخطة الخداعية الجارية الآن لاقرار أو اتفاق تأبيد الاحتلال ،من خلال الحديث عن الانسحاب من قبل الذين ارتكبوا جريمة الغزو ومن قبل الذين شكلوا سلطة الاحتلال.
 
يوم النصر
لكن ما لم يقله كيسنجر- وهذا طبيعى- هو أن ما يقصده هو بالدقة ، المواربة على الهزيمة التى تلقتها الولايات المتحدة فى العراق ,إذ إن من يقارن أوضاع قوات الاحتلال حين بدأت احتلالها مع أوضاعها الآن، ومن يراقب سير خطة الاحتلال لتشكيل سلطة محلية خاضعة له، يدرك نهاية وفشل الاحتلال ومشروعه.
هو يشير إلى وجود أقوال ترددت حول هزيمة الولايات المتحدة فى مرحلة سابقة ،لكنه يقول إن تغييرات حدثت تغير هذا القول.
لكن التقدم المزعوم الذى يرتكز اليه فى الحديث عن التغيير والخروج من الشرنقة  ليس الا حالة دعائية إذ إن هذا التقدم الذى يزعمه يراه القادة العسكريون الامريكيون أنفسهم مجرد وضع هش يمكن أن ينقلب فى أية لحظة.
وفى ذلك وفى كل الأحوال ،فإن أهم ما كشفه كيسنجر، هو أان الخطة الأمريكية الراهنة فى العراق، تقوم على فكرة واحدة: الانسحاب دون إعلان الهزيمة.
وهو ما يقرب يوم النصر, الذى حينه لن تفلح مواربات كيسنجر فى إنقاذ الولايات المتحدة من الهزيمة, لأنها تحققت فعلا على أرض العراق, ولأن يوم النصر فى العراق سيكون يوما لأمة كاملة لا يمكن لأحد حجب انتصارها بألاعيب وأساليب خداع .