الحق والباطل في أساس اتفاق عباس مع "الإسرائيليين"
25 رمضان 1429
طلعت رميح
في الأيام الأخيرة ، كرر محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية فى رام الله ، مقولة انه لا اتفاق مع "إسرائيل" (الكيان الصهيوني) إلا إذا كان شاملا لكل قضايا الحل النهائى ، أي القدس والمستوطنات واللاجئين والمياه والحدود، وأنه لا يمكن إتمام وتوقيع الاتفاق ما بقيت قضية واحدة من تلك القضايا دون اتفاق عليها.
 
ومن قبل شدد رئيس وفد السلطة فى المفاوضات وكذا المتحدث باسم الوفد، نفس المقولة، حتى أصبح المتابع للإعلام يشعر وكأنه ثمة تشددا فى الموقف التفاوضى وإصرارا على أن يكون الحل شاملا، بينما الطرف الصهيونى هو من يحاول الاتفاق على بعض القضايا مع ترك بعضها الآخر، لوقت آخر، باعتبار ان الوقت الباقى لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش فى الحكم، لا يسمح بانجاز اتفاق حول كل تلك القضايا المعقدة والصعبة ، حسب التعبيرات المستخدمة فى وصف تلك المفاوضات على لسان المشاركين فيها، وهو ما يعنى بوضوح أن الطرف الفلسطينى المفاوض هو من تمسك بأطروحات الرئيس الامريكى جورج بوش، أكثر مما يتمسك بها الطرف الصهيونى. وفى تفسير ما يطرحه عباس والطاقم الذى يتعاون معه فى إنفاذ استراتيجيته الراهنة ، يبدو أن المغزى الجوهرى الذى يروج من خلاله فكرة أن يشمل الاتفاق - الجارى التفاوض حوله - ، كل قضايا الحل النهائي، هو أن " شعب فلسطين " قد جرب فكرة أو استراتيجية التفاوض " المرحلى " فى المرات السابقة ، وكانت النتيجة ان الحلول الجزئية اصبحت بمثابة الحل النهائى ، حيث لم ينفذ الكيان الصهيونى اية التزامات تم الاتفاق عليها كما بقيت الاتفاقات الجزئيه بلا تطوير نحو الحل النهائى . كما يمكن القول ايضا ، ان هذا الطرح " الفلسطينى " يرتكن الى فكرة ان الحلول الجزئية قد سمحت للكيان الصهيونى - من قبل - باستمرار سياسة تهويد القدس وتوسيع المستوطنات .. الخ ، أي فرض الأمر الواقع على الأرض.
 
 وكذا يرتكن هذا الفهم والطرح فى ترويجه الى ان الاتفاق على قضايا الحل النهائى هو ما يسمح بوجود ضمانات دولية لتنفيذ مثل هذا الاتفاق بما يحوله الى حقيقة قابلية التطبيق ، باعتباره سينفذ تحت اشراف ادارة ورقابة وربما قوات " دولية " ايضا ، وفى ذلك من وجهة النظر الطرف الفلسطينى المفاوض مكسب على حساب الطرف الصهيونى ، الذى يرفض كل تدخل ذو صفة دولية فى المفاوضات والاتفاقات.
 
لكن، ومن قال أن مصلحة الشعب الفلسطينى تتحقق بعقد مثل هذا الاتفاق حول قضايا الحل النهائي الآن؟ وكذا من قال بأن موازيين القوى الراهنه تمكن الشعب الفلسطينى حتى من إنجاز اتفاق يحقق إمكانية ميلاد " دولة " فلسطينية ضمن حدود عام 1967 ، بل، ومن هذا الذى يمكن ألا يتصور أن الكيان الصهيوني، هو من يسعى الآن الى "انتزاع موافقة من طرف فلسطينى " بانتهاء " القضية " وفق مثل هذا الاتفاق حول قضايا الحل النهائى ؟!
 
الاستراتيجية الصهيونية
فى الأصل، يمكن القول بأن الاسترايتجية الصهيونية الجارى انفاذها منذ اتفاق أوسلو وحتى الآن، تتلخص في الحصول من طرف فلسطينى على " وثيقة " بإسقاط الحقوق التاريخية الاصلية والأساسية للشعب الفلسطينى ممثلة فى قضايا القدس واللاجئين والحدود والمياه والمستوطنات، وأن تلك الوثيقة فى حد ذاتها هى تحقيق للرؤية الصهيونية، بشكل عام، باعتبارها خطوة استراتيجية كبرى لهذا الكيان فى تثبيت وجوده وسيطرته، لينتقل إلى مرحلة إستراتيجية أخرى، وباعتبار أن قضايا الحل النهائى هى المتعلقة بالضفة باعتبارها هى محور الصراع استراتيجيا خلال مرحلة الصراع الراهنة ، الى درجة يمكن القول معها ان الصراع على الضفة ، يلخص الصراع حول فلسطين حاليا.
 
لقد جرى التحرك باتجاه اوسلو، لقطع الطريق " استراتيجيا " على التحول الذى كان يجرى خلال الانتفاضة الفلسطينية، باتجاه التأصيل لأسس الصراع ، وتحويل المعركة الى "استراتيجية صفرية" لإدراك الكيان الصهيونى أنها لن تكون فى صالحه بما يدفعه إلى تحويلها إلى نمط آخر من الصراع .
 
كانت الخطوة الأولى في أوسلو، تتمحور حول "اقامة حوائط عازلة بين قطاعات ومكونات الشعب الفلسطينى والجغرافيا السياسية لانتشاره ، من خلال الفصل بين غزه والضفة من جهة ، والشعب الفلسطينى داخل الارض المحتلة فى عام 48 من جهة اخرى ، وبين من هم على الارض الفلسطينية وبين الفلسطينيين فى مناطق اللجوء او الشتات. وهو ما يتحقق من خلال اقامة سلطة الحكم الذاتى التى تفصل بين غزة والضفة والفلسطينيين فى اراضى 48 والفلسطينيين فى اراضى الشتات ، باعتبارهذه السلطة كيان قانونى يقوم على حالة حكم ذاتى ( او حتى دويله فلسطينية ) و يمثل سكان الضفة وغزة وحدهما ، ولتكون تلك السلطة هى المطالبة بحل مشكلات فلسطيني الشتات ، كما هى بتشكيلها وقيامها تكون منبتة الصله مع فلسطينى 48 باعتبارهم داخل حدود دوله( اخرى ) .
 
وتلى ذلك الفصل بين الضفة وغزة – من ناحية الفعليه وعلى صعيد التمثيل السياسى – اذ جرى الدفع بالصراع الداخلى الفلسطينى الى ما وصل اليه الحال الان. وفى كل ذلك كانت اوسلو هى "الاساس" للتحرك او للتطوير باتجاه " الاجهاز التاريخى " على " ثوابت القضية الفلسطينية " وهو ما يحدث الان من خلال تحقيق فكرة " الاتفاق النهائى حول قضايا القدس واللاجئيين والمستوطنات و المياة و الحدود " ، فالقصد هو تحقيق الفصل والعزل النهائى لفلسطيني الضفة عن كل مكونات الشعب الفلسطينى ، وانهاء القضية " قانونيا " من خلال وثيقة يوقع عليها طرف فلسطيني.
 
الحل النهائي
وفى مواجهة ما يطرحه عباس حاليا ، وخط السير لعمليات التفاوض ، وطبيعة الواقع الراهن للصراع فاننا نجد انفسنا امام وضع معقد ومتشابك . فمن ناحية يمثل استمرار الوضع الراهن – وفق رؤية ما يجرى على الارض صهيونيا – يمثل تحقيقا للاستراتيجة الصهيونية فى فرض الوقائع على الارض ، كما نجد فى المقابل ، ان الاتفاق حول قضايا الحل النهائى ، هو بالدقة تحقيق للاستراتيجية الصهيونية فى الحصول على " اعتراف فلسطينى "بحق الكيان الصهيونى فى الوجود والسيطرة على الارض والقدس ،و وعدم عودة اللاجئيين ..الخ . وفى ذلك ، يبدو "لبعض قطاعات الراى العام " ان عباس ومن معه يحاولون انقاذ ما يمكن انقاذه ، كما يجعل ما يجرى وكأنه صورة من صور السعى لتحقيق اختراق استراتيجى " يمنع الكيان الصهيونى من التوسع والاجهاز على باقى الاراضى الفلسطينية .. الخ .ومن ناحية اخرى ، فاننا امام موازنة يقايض فيها الطرف الفلسطينى المفاوض ، كل الحقوق التاريخية فى فلسطين ، بمحاولة بناء كيان فلسطينى لا هو دولة فى حدود 67 ولا هو قادر على مواصلة الصراع ، ولا هو يحقق تحولات في قدرة الشعب الفلسطينى على الحفاظ حتى على ما يحصل عليه ( مع ضآلته ) ، بمعنى ان مثل هذا الاتفاق لا يمكن الطرف الفلسطينى من ايقاف المخطط الصهيونى الجارى بفرض الوقائع على الارض ، بحكم موازيين القوى على الصعيد الفلسطينى والعربى والدولى . لكن الفكرة الجوهرية فى النظرلهذا الذى يبدو مازقا ، تكمن اساسا فى الدوران فى داخل دوامة اوسلو، وعدم الخروج " الاستراتيجى " على اطار اوسلو الذى هو السبب فى المازق . المازق، هو فى النظر للقضية الفلسطينية من منظار اوسلو وتحدياتها.
 
فالمأزق فى مثل هذا الحل النهائى الذى يجرى الحديث عنه وفقا لمجريات المفاوضات وشروطها وآفاقها ، يأتي تحديدا ، من الاستمرار فى خطة اوسلو ، التى قامت على فكرة تشكيل سلطة فلسطينية بلا اراضى محررة ، بما جعل الطرف الصهيونى يعتمد خطة تقوم على مساومتها على البقاء ، فى مقابل التوقيع على اتفاق ينهى القضيه الفلسطينيه .
 
والخروج من أسر أوسلو ، يكمن أساسا فى رؤية أن الحل النهائى للقضية ، لا يكون بمناقشة قضايا اللاجئيين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه، وفقا لتلك المساومة التى تأسست فى أوسلو ، وإنما يكون بالرجوع الى ثوابت القضية واصلها واسسها ، حيث الحل النهائي لا يأتي من النظر لظروف واوضاع راهنة أو وفقا لأوضاع تشكلت فى مرحلة قصيرة من عمر صراع ممتد إلى نحو قرن من الزمان .
 
 وكذا لا يمكن التفكير فى الحل النهائي وفق أسلوب واحد (المفاوضات) دون اعتماد المقاومة والصراع العنيف أساسا لفرض الحل النهائى ، من وجهة نظر تتمسك بالثوابت الاصلية للشعب الفلسطينى ، باعتبار الطرف الآخر يعتمد اسلوب القوة العسكرية لتحقيق استراتيجيته.
 
وبمعنى آخر ، فان المأزق الجارى الترويج للحل النهائى انطلاقا منه ، هو مأزق ناتج عن اعتماد خطة أوسلو وبناء سلطة أوسلو ،ومن جعل المفاوضات وسيلة وحيدة وضمن الاطار القانونى لأوسلو ، التى كان طبيعيا أن تصل إلى مرحلة يجرى خلالها عرض مقايضه الثوابت الفلسطينية ببعض المكاسب الجزئية – ان تحققت اصلا – ، ولذ فان التعامل مع الحل النهائى يجب ان يقوم على الخروج من مازق اوسلو ، لا على الانحشار فى ذات الاطار الذى انتج المازق . يجب الخروج من دائرة برواز اوسلو واعتماد خطة اخرى بديلة عند التفكير فى الحل النهائى .
 
الخطر الراهن
وفى ذلك، يبدو ضروريا التأكيد على أن ثمة أمرا خطيرا للغايه يجرى الآن ، تحت غطاء من مقوله "الاصرار على حل جميع قضايا الحل النهائى " . ثمة أمر خطير يجرى ، يتطلب تشكيل اوسع اطار لمواجهته ، إذ نحن الآن أمام نقلة فى خطة أوسلو أو أمام إحكام سيطرة أوسلو على المصير الفلسطينى كله .
 
الجارى الآن هو تحقيق الأهداف الصهيونية التى جرى تحديدها منذ بداية التحول الصهيونى إلى استراتيجية " استيعاب " الحركة الوطنية الفلسطينية وتطويع إرادتها، وتقسيم الشعب الفلسطينى بصفة قانونية ووفق أطر واتفاقيات تتحكم فيه، وعزل الضفة عزلا شاملا عن كل مكونات الشعب الفلسطينى. والحصول من سلطة اوسلو الموجودة فى الضفة المعزولة والمحاصرة والمنهكة ،على اعتراف بانتهاء القضية .
 
والجارى الان هو اننا امام " لعبة خلط الحق بالباطل " اذ يجرى الانطلاق من فرض الكيان الصهيونى للوقائع على الارض – وهو حاصل – الى مقايضة الثوابت والمستقبل ، بمجرد وقف شكلى لتلك الخطط الصهيونية ، اى اننا امام تطوير اوسلو من تشكيل سلطة على امل مواصلة الصراع ، الى مقايضة بقاء تلك السلطه بانهاء الصراع او بالاقرار بانتهاء الصراع ،والرضى بحل نهائى ،يحقق المصلحة الصهيونية كاملة فى هذه المرحلة ويفتح الباب لانتقالها الى مرحلة استراتيجية جديدة فى الصراع الاغلب سيكون عنوانها الاول هو طرد عرب 48 الى اراضى السلطة الفلسطينية !
 
وهنا تطرح الكثير من الاسئله ، حول موقف المقاومة الفلسطينية من سلطة عباس بعد توقيعها على مثل هذا الاتفاق ، واحتمالات اندفاع الوضع الداخلى الفلسطينى الى وضعية الصراع الشامل ، واحتمال حدوث انعطافة فى الاوضاع حين تجد المقاومة الفلسطينية نفسها -من مختلف الفصائل- فى مواجهة مع قوات دولية-غربية بطبيعة الحال- تحرس سلطة عباس واتفاقها والكيان الصهيونى وحدوده ، فى ظل الانباء المتواترة عن ان الاتحاد الاوربى يجرى دراسات حول ارسال قوات اوروبيه الى الضفة وغزة ، للاشراف على انجاز ترتيبات الاتفاقات التى ستوقع وحمايتها ، او لضمان تنفيذها ، وهو ما ياتى تكرارا لذات الافكار التى طرحها بعض مسئولى حلف الاطلنطى حول انزال قوات اطلسيه فى فلسطين المحتلة .
الوضع خطر . . للغاية .