مجتمعنا....وقطيعة الرحم
20 جمادى الأول 1439
د. عامر الهوشان

لم يعد خافيا على أحد ما تعانيه بعض المجتمعات الإسلامية من ظاهرة قطيعة الرحم وما تعتريه من شيوع سلوكيات خاطئة من قبل بعض المسلمين تجاه ذويهم أدت في كثير من الأحيان إلى زعزعة استقرار الأسرة المسلمة وتشويه الصورة النموذجية  التي اشتهر بها ذلك النظام الإسلامي الفريد ذو المصدر الإلهي .

 

 

لا تعود آثار تلك الظاهرة الدخيلة على المجتمع المسلم والبعيدة كل البعد عن تعاليم الدين الخاتم على القاطع فحسب بل تتجاوزه إلى المجتمع بأسره من خلال الخلل الذي يصيب لبنة المجتمع الأولى "الأسرة" جراء مخالفة أوامر الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم .

 

 

لن أتحدث هنا عن ضعف التواصل بين ذوي القربى وقلة الزيارات العائلية و ربما ندرتها وفتور المشاعر والأحاسيس بين أخوة الدم والنسب فضلا عن أولاد العم والخال ....فالحديث عن هذه الأمور التي عمت بها البلوى – إن صح التعبير – قد يطول....وإنما ستكون كلمات هذا المقال موجهة إلى تلك الظاهرة الخطيرة التي بدأت ملامحها ومظاهرها تظهر على أرض الواقع في مجتمعاتنا الإسلامية ألا وهي "قطيعة الرحم" .

 

 

أخوة أشقاء قد مضى على خصامهم وخلافهم وهجر أحدهم للآخر سنوات طوال لا يتزاورون فيما بينهم حتى في الأعياد , بل ولا يكلم أحدهم الآخر إن رآه في الطريق قدرا أو جمعه وإياه مجلس أو مكان , و ربما ورّث الإخوة ذلك الخلاف وتلك القطيعة لأبنائهم لينتقل الداء من الآباء إلى الأبناء وربما إلى الأحفاد !!!

 

 

ابن أخ يقاطع عمه وابن أخت يجافي خاله وأعمام وأخوال لا يصلون أبناء وبنات إخوانهم وأخواتهم وأفراد عائلة واحدة لم يجتمعوا بأبناء عمومتهم أو خؤولتهم منذ سنوات بسبب انتقال عدوى قطيعة الرحم إليهم من الآباء والأمهات .

 

 

كثيرة هي الأسباب التي يمكن إرجاع انتشار ظاهرة قطيعة الرحم إليها إلا أن القاسم المشترك بينها هو مخالفة أحكام الإسلام وآدابه وعدم الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه وترك التأسي بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح .

 

 

يمكن القول بأن موضوع "الميراث" هو أبرز وأهم أسباب الخلافات الأسرية والمشاحنات والخصومات العائلية التي ينجم عنها قطيعة الأرحام في مجتمعاتنا الإسلامية , إذ إن حرمان بعض العائلات للإناث من الميراث رغم ثبوت حقها الإرثي في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , إلى جانب محاولة الأخ الأكبر الاستئثار بالنصيب الأوفر من الميراث أو أخذ ما ليس من حقه على حساب إخوته وأخواته , ناهيك عن سلوكيات بعض الآباء في حرمان بعض أبنائهم من الميراث بغير وجه حق أو تفضيل بعض الأبناء في العطاء على إخوته دون سبب مشروع.....يمثل معول الهدم الأبرز في العلاقات الأسرية والسكن والتواصل الأسري .

 

 

ضعف الإيمان وشدة التعلق بالدنيا وتراجع تذكر الآخرة وغلبة المقياس المادي الدنيوي على القيم والأخلاق والنواحي الروحية ...دفعت بعض المسلمين إلى مقاطعة ذويهم وهجر أقربائهم ومجافاة أرحامهم لأسباب ما أنزل الله بها من سلطان .

 

 

أتيت إليه عدة مرات و زرته في أكثر من مناسبة ولم يأتني أو يزرني في بيتي مرة واحدة !! لم يستقبلني بالشكل اللائق حين زرته آخر مرة في بيته !.....أعذار وأسباب يتذرع به بعض المسلمين لهجر أرحامهم وقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل .

 

 

أول ما يلفت النظر في هذه الأسباب أنها غير شرعية ولا تبرر بأي حال من الأحوال قطيعة الأرحام , فهناك من الأحاديث النبوية الصريحة التي تتناول أمثال هذه الحالات وتبين بوضوح من هو الواصل لرحمه بحق .

 

 

ففي صحيح البخاري عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها ) ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻄﻴﺒﻲ : ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻟﻴﺴﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻮﺍﺻﻞ ﻭﻣﻦ ﻳﻌﺘﺪ ﺑﺼﻠﺘﻪ ﻣﻦ ﻳﻜﺎﻓﺊ ﺻﺎﺣﺒﻪ ﺑﻤﺜﻞ ﻓﻌﻠﻪ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﻳﺘﻔﻀﻞ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻪ .

 

 

وفي مشهد آخر لم يأذن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لرجل بقطع رحمه وهجر ذويه رغم ما ذكره من سوء معاملتهم له وقبيح ما يردون به على وصله لهم والإحسان إليهم وحلمه على أذيتهم ...

 

 

ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : ( لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ ) صحيح مسلم برقم/2558

 

 

يقول الإمام النووي في شرحه على مسلم : المَل : الرماد الحار . ويجهلون أي يسيئون . ومعناه كأنما تطعمهم الرماد الحار ، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم ، ولا شيء على هذا المحسن بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته ، وإدخالهم الأذى عليه . وقيل : معناه أنك بالإحسان إليهم تخزيهم وتحقرهم في أنفسهم لكثرة إحسانك وقبيح فعلهم .

 

 

فإذا كان كل هذا الهجر والإيذاء ومقابلة الإحسان بالإساءة لم يشفع للرجل عند الرسول صلى الله عليه وسلم لتبرير قطع رحمه فكيف يمكن أن يبرر البعض اليوم قطعهم لأرحامهم لأسباب واهية أو ربما دون سبب في كثير من الأحيان ؟!!!