من معوقات الاستقامة....الاغترار برحمة الله
13 جمادى الثانية 1439
د. عامر الهوشان

ليس عبثا تركيز القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم على العقيدة أولا فضرورة معرفة المسلم لربه حق المعرفة ولزوم الإحاطة بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى وفهم وإدراك معانيها أمر يتوقف عليه صحة إيمانه وحسن عمله والفوز بثواب وأجر طاعاته وعباداته .

 

 

لا شيء أضر على المسلم من الجهل بالله ولا أثر أكثر سلبية على مستقبل المؤمن الحقيقي من عدم علمه ومعرفته بأسماء الله وصفاته , فحصاد الجهل بالله ندم وخيبة وخسران , ومآل ترك التبصر بأسمائه وصفاته سبحانه نكسة وحسرة وهوان .

 

 

يسيء الجاهل بالله الفهم والسلوك من حيث يظن أنه يحسن , وينحرف الغافل عن إدراك معاني أسماء الله وصفاته عن جادة الصواب من حيث يخال أنه يستقيم , ويأثم ويغرم وربما يقع في المهلكات من حيث يتوهم أنه يُؤجر ويُثاب .

 

 

هذا حال من يتعلل بسعة رحمة الله تعالى حين يُطلب منه أن يقلع عن الذنوب والمعاصي ويجعل من عظيم عفو الله و واسع مغفرته ذريعة للاستمرار في الانحراف عن منهج الله والتنكب عن صراطه المستقيم .

 

 

جملة يرددها كثير من الشباب المسلم اليوم إذا دُعي إلى الإقبال على الاستقامة والإقلاع عن حياة الشرود عن منهج الله : إن رحمة الله سبقت غضبه وإن عفوه ومغفرته أوسع من ذنوبنا و إن الله غفور رحيم وهو سبحانه غني عن تعذيبنا ولا تضره معصيتنا......

 

 

عبارات هي بلا شك من أخطر معوقات الاستقامة وأكثرها انتشارا بين فئة الشباب الذين يظنون أن ما بقي من سنوات حياتهم أكثر مما مضى وأن في العمر متسع من الوقت لمزيد من الهفوات والغفلات قبل التوبة والإنابة والالتزام فضلا عن اغترارهم بسعة رحمة الله وعظيم عفوه ومغفرته إن أدركهم الأجل وهم على حالهم من الفسوق والعصيان .

 

 

غفل أمثال هؤلاء عن كثير من الآيات التي تؤكد أن الله تعالى يتصف بصفات الكمال وأن واسع عفوه وجميل ستره وعظيم مغفرته مقترن بمن تاب وأناب واستغفر وأحسن واتقى والتزم واستقام....لا بمن أصر على معصيته واستمر بتماديه واستهان بمآلات الذنوب وعاقبة الخطايا .....قال تعالى : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } الأعراف/56 , وقال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ } الأعراف/156 .

 

 

أمر آخر جهلته هذه الفئة من الناس ألا وهو أن عذاب الله أليم شديد كما أنه غفور رحيم وأن الأمن من مكر الله لا يقع فيه إلا الخاسرون قال تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } الحجر49-50 , وقال تعالى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } الأعراف/99 

 

 

نعم....حسن الظن بالله من طاعات القلوب وأعمالها المحمودة إلا أنه لا ينفصل عن حسن العمل بحال من الأحوال ومن هنا يمكن فهم قول الحسن البصري : "إن قوما أغرتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة يقول أحدهم : "لأني أُحسن الظن بربي" وكذب ...لو أحسن الظن لأحسن العمل" .

 

 

كما أن بين حسن الظن والاغترار بسعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فارق كبير وبون شاسع ذكره و أوضحه ابن القيم رحمه الله بقوله : " حسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة وأما على انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسان الظن . فإن قيل : بل يتأتى ذلك ويكون مستندُ حُسن الظن سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده وأن رحمته سبقت غضبه وأنه لا تنفعه العقوبة، ولا يضره العفو – قيل : الأمر هكذا والله فوق ذلك أجلُّ وأكرم وأجود وأرحم . وإنما يضع ذلك في محله اللائق به ؛ فإنه - سبحانه - موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش وعقوبة من يستحق؛ فلو كان مُعَوَّل حسن الظن على صفاته وأسمائه لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر والمؤمن والكافر و وليه وعدوه ؛ فما ينفع المجرمَ أسماؤه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه، وتعرض للَعْنَته، ووقع في محارمه، وانتهك حرماته ؟! بل حسن الظن ينفع من تاب، وندم، وأقلع، وبدل السيئة بالحسنة، واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة، ثم حَسَّن الظن بعدها؛ فهذا هو حسن الظن، والأول غرور والله المستعان . الجواب الكافي ص39

 

 

إن إقامة التوازن المطلوب بين حسن الظن والرجاء والتعويل على سعة رحمة الله وعظيم عفوه ومغفرته وبين الخوف منه سبحانه والخشية من أليم عذابه وهول عقابه هو ما دلت عليه نصوص القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , فما من آية عذاب في القرآن إلا وقد سبقتها أو تبعتها آية رحمة وما من وعيد وتحذير من عقاب الله للمتجاوزين حدوده في كتاب الله إلا وقارنه وعد وتبشير بنعيمه للملتزمين بتنفيذ أمره واجتناب نهيه .

 

 

تبدو معالم هذا التوازن وآثاره الإيجابية في الحديث الذي رواه أَنَس رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : ( كَيْفَ تَجِدُكَ؟) قَالَ : وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لاَ يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ ) سنن الترمذي وحسنه الألباني .

 

 

لقد وصف ابن القيم من يعتمد على رحمة الله وعفوه مع تضييعه لأمره ونهيه بالجهل , وأي جهل أعظم من ذاك الذي ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظرا من فضل الله أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة أو من آخر يتوقع النهب من الظلمة في بلده ثم يترك ذخائر أمواله في حصن داره وقد قدر على دفنها ولم يفعل !!!! إحياء علوم الدين 4/58