الانصياع للحق....سمة الأخيار
4 رجب 1439
د. عامر الهوشان

لا يتصف بها إلا الأخيار ولا يستطيعها إلا الكبار ولا تأتي إلا ممن زكت نفوسهم وسمت أخلاقهم ولا تصدر إلا عن أبعد الناس عن الجهل والرياء والسمعة وطلب الجاه و الدنيا ولا تنم إلا عن علم وفهم وإدراك واتزان .

 

 

لا تزيد صاحبها إلا عزة و رفعة بين الناس ولا تضفي على المتخلق بها إلا مزيد مدح وثناء واحترام و تقدير , ناهيك عن الخير الذي ينتظر من يتصف بهذا الخلق الكريم يوم القيامة والجزاء والثواب الذي يرجوه من ربه ومولاه .

 

 

تزداد أهميتها وضرورة التذكير بها مع ما نراه في عصرنا الحاضر من مشاهد التعصب والعناد والإصرار على الخطأ من بعض المسلمين رغم وضوح الحق وظهور معالمه , وتتضاعف الحاجة لدعوة عموم الناس للتخلق بها ومجاهدة النفس على تحصيلها بالنظر إلى ما يضج به الوقت الراهن من صور التكبر على الحق ورفضه والتعالي عليه والتمسك بالباطل اتباعا للهوى ورضوخا لوساوس الشيطان .

 

 

هذا أحدهم يأبى أن يعترف بخطئه ويرفض أن يتراجع عن غيّه رغم ظهور الحق جليا أمام عينيه , وذاك آخر يتشبث برأيه المجانب للصواب وينافح ويدافع عنه في الملأ مع يقينه بعواره واقتناعه في قرارة نفسه أن الحق بخلاف ما يراه .....الخ .

 

 

لا شك أن الرضوخ لشهوات الأنا والاستسلام لرعونات النفس واتباع الهوى و الاستجابة لوساوس الشيطان التي لا تدعو إلا إلى الباطل...هي أسباب تقف وراء ظاهرة التعالي عن الحق وعدم الانصياع له والتمادي في التشبث والتمسك بالباطل والدفاع عنه .

 

 

ولا عجب أو غرابة أن يكون هذا الداء منتشرا بين بعض طلاب العلم وفي مجالس التدريس وحلقات التعليم , فإن استصعاب الرجوع عن الرأي و استثقال الاعتراف بالخطأ والغلط وتوهم الفاعل أن ذلك قد يقدح بعلمه ويزري من شأنه وينقص من قدره ....قد يدفع البعض إلى العناد والتمادي بالباطل .

 

 

يقول الإمام الشوكاني في هذا الأمر : "ومن آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة ....ويشتهر ذلك القول عنه فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه وإن علم أنه الحق وتبين له فساد ما قاله , ولا سبب لهذا الاستصعاب إلا تأثير الدنيا على الدين فإنه قد يسول له الشيطان أو النفس الأمارة أن ذلك ينقصه ويحط من رتبته ويخدش في تحقيقه ويغض من رئاسته , وهذا تخيل مختل وتسويل باطل فإن الرجوع إلى الحق يوجب له من الجلالة والنبالة وحسن الثناء ما لا يكون في تصميمه على الباطل بل ليس في التصميم على الباطل إلا محض النقص له والإزراء عليه والاستصغار لشأنه .

 

 

الغريب في عناد بعض المسلمين اليوم وتشبثهم برأيهم وإصرارهم على باطلهم في أمور دنيوية هي أقل شأنا من أن تذكر في هذا المقام هو ما حفل به تاريخ سلفهم الصالح من مشاهد انصياع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للحق ونماذج تراجع الكثير من علماء الأمة الثقات عن بعض اجتهاداتهم بمجرد ظهور الحق فيها .

 

 

يمكن القول بأن رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما هي خير نموذج ومثال في هذا الباب حيث ورد فيها :… ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تعود فيه إلى الحق فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التمادي بالباطل .

 

 

بل إن الجملة الأخيرة في الرسالة العمرية الفريدة أضحت منذ ذلك الحين وحتى يومنا الراهن مثالا وعنوانا لبيان فضيلة هذا الخلق الكريم وشدة ارتباطه وتلازمه بدين الله الإسلام . 

 

 

كما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية في هذا الصدد ما نصه : " كان عمر بن الخطاب وقافا عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه ... وربما يرى رأياً فيذكر له حديث عن النبي فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة وكان يقول القول فيقال له أصبت فيقول والله ما يدرى عمر أصاب الحق أم أخطأه" .

 

 

وقد أفرد الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية في علم الرواية" بابا عنون له بــ " باب فيمن رجع عن حديث غلط فيه وكان الغالب على روايته الصحة أن ذلك لا يضره" ,  و أورد رحمه الله فيه بعض النماذج منها عن هارون قال : " كان يزيد بن هارون يقول في مجلسه الأعظم غير مرة حديث كذا وكذا أخطأت فيه" .

 

 

لا يمكن حصر أمثلة تراجع علماء الأمة وأئمتها الثقات عن اجتهاد أو رأي ترجح عندهم خطأه أو ظهر لهم ما هو أصح وأصوب منه تمسكا بالحق وانصياعا له , فهلّا تأسّى الخلف بأخلاق وسمات السلف ؟ وهلّا تخلو عن آفة التعصب والعناد والتشبث بما ظهر جليا أنه خطأ ؟ .