الهدي النبوي في التربية ... (٣) الموعظة
21 شعبان 1439
سليمان بن جاسر الجاسر

للموعظة أثرها البالغ في النفوس، ولم يكن المربي الأول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله، وصفه أحد أصحابه وهو ابن مسعود رضي الله عنه قائلًا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا»( 1).
 

ويحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية رضي الله عنه عن موعظة وعظها إياهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إليها يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ»( 2).
 

وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولًا، وألا تكون بصفة دائمة. فعن أبي وائل قال: «كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي غ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا»(3 ).
 

والموعظة كلام ذو طابع خاص يشتمل على الترغيب والترهيب، والنفوس فيها الليِّن والقاسي، وقريب المنال وبعيده، وليست على سن واحد، ولا مستوية، فلا بد من ضربها بسياط من الوعظ.
 

وفي ذلك ما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» قال: فغطى أصحاب رسول الله غ وجوههم ولهم خنين(4 ).
 

ومن أحاديث الرجاء والترغيب ما حدَّث به أبو ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر»، وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر(5 ).
 

وكذلك ما حدث به أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعودًا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ عليناوخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابًا فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة ـ والربيع الجدول ـ فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبو هريرة؟» فقلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما شأنك؟» قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تُقْتَطَع دوننا، ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: «يا أبا هريرة ـ وأعطاني نعليه ـ اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة»(6 ).
 

والمتأمل في الواقع يلحظ أننا كثيرًا ما نعتني بالترهيب ونركز عليه، وهو أمر مطلوب والنفوس تحتاج إليه، لكن لا بُدّ أن يضاف لذلك الترغيب، من خلال الترغيب في نعيم الجنة وثوابها، وسعادة الدنيا لمن استقام على طاعة الله، وذكر محاسن الإسلام وأثر تطبيقه على الناس، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المسلك فقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف:96]، ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾ [المائدة:66].
 

_______________________________

(1 ) رواه البخاري (68).
( 2) رواه الترمذي (2676) واللفظ له، وابن ماجة (42).
(3 ) رواه البخاري (70)، ومسلم (2821).
( 4) رواه البخاري (4621) واللفظ له، ومسلم (901).
(5 ) رواه البخاري (5827)، ومسلم (94).
( 6) رواه مسلم (31).

 

* للاطلاع على الحلقة الثانية..
الهدي النبوي في التربية والتعليم.. (2) .. القصة

* للاطلاع على الحلقة الرابعة..
الهدي النبوي في التربية ... (4) الإقناع