أنت هنا

خواطر حول قضاء الإجازة الصيفية
15 شوال 1439
د. عامر الهوشان

سؤال يؤرق الآباء والأمهات ويشغل بال المربين والمصلحين و تكثر حوله التحليلات وتزداد ضمن دائرته الاهتمامات..... ألا وهو : كيف يقضي أبناء الأمة وشبابها إجازتهم الصيفية ؟! وبماذا يمكن أن نفيدهم في استثمار هذا الوقت الطويل الثمين ؟! وما هي الطريقة الأنجع في اقتلاع متلازمة العطلة وإضاعة الوقت بما لا يفيد من أذهان أبنائنا ؟! وكيف يمكن تحويل الإجازة إلى فرصة للارتقاء بنفوس أبناء الأمة روحيا وعلميا وثقافيا وأخلاقيا ؟!!

 

 

لم يبخل الدعاة والعلماء والمربون والمصلحون بإسداء النصيحة وتقديم الآراء وتدوين المقترحات حول كيفية قضاء العطلة الصيفية بما يعود بالنفع والخير على المسلمين - آباء وأبناء - ويجنبهم إهدار أثمن ما يملكون وأعظم ما يكنزون , فالشبكة العنكبوتية مليئة بالمقالات والدراسات والبرامج والاقتراحات حول هذا الموضوع , ووسائل التواصل الاجتماعي تغص بالتغريدات والتعليقات على هذه القضية .

 

عادة ما تكون دورات تحفيظ القرآن الكريم و النوادي الرياضية والمراكز التدريبية ومكاتب الأعمال التطوعية و المكتبات العامة و..... ملاذ وملجأ الكثير من الآباء  والأمهات الغيورين على مصلحة أولادهم والراغبين في استثمار عطلتهم وعدم صرفها بطولها باللهو و اللعب فحسب , دون أن يحرموا أولادهم متعة الترويح عن النفس لبعض الوقت في المتنزهات والمصايف والحدائق والملاعب .

 

لا شك أن توجيه الأبناء نحو هذه الأماكن و تعويدهم على التنقل بينها خلال وقت فراغهم هو أمر مشكور ومحمود ولا يمكن أن يقارن بسلوك من يهمل توجيه ولده خلال الإجازة الصيفية ويترك له الحبل على غاربه فيجعله فريسة سلهة لشياطين الإنس والجن و لقمة سائغة للفراغ القاتل .

 

ولكن......ما زال الآباء والمربون يعانون من مشكلة استهتار الأولاد بقيمة الوقت وعدم اكتراثهم بتضييعه وقتله فيما لا يفيد خلال العطلة الصيفية بل ربما بما يضرهم ويعود عليهم بالأذى النفسي والجسدي في بعض الأحيان كما هو الحال في استغراق بعضهم بهواتفهم المحمولة وإسرافهم في إدامة النظر في وسائل التواصل الاجتماعي .

 

أصل المشكلة وجذورها يكمن في عدم تَمكُّن عظيم قيمة الوقت في نفوس الأبناء وغياب حقيقة كون الوقت هو رأسمال الإنسان الحقيقي وكنزه الثمين الذي لا يعدله قيمة ومكانة في الحياة شيء عن مداركهم ....وهو الأمر الذي يجعل من مهمة ملئ وقت فراغ الأبناء بما يفيد وإبعادهم عن مظان قتل الوقت وتضييعه في أيام الإجازة من الصعوبة بمكان .

 

لا شك أن التذكير بآيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم و حال سلف الأمة مع حفظ الوقت وشدة حرصهم على اغتنام كل دقيقة من حياتهم وضنهم بالدقيقة أن تضيع من أعمارهم دون ملئها بذكر لله أو طاعة أو علم أو عمل صالح ....من الأمور التي تسهم في يقظة الأبناء من غفلتهم وتساعد في إعادة اعتبار قيمة الوقت في حياتهم إلا أن ترسيخ ذلك في نفوسهم وتحويل قضية تقدير قيمة الوقت واستثمار الفراغ الناجم عن العطلة الصيفية أو حتى الأسبوعية إلى ملكة متأصلة وعادة ثابتة وسلوك ذاتي...لا يمكن أن يتم إلا بالقدوة الصالحة والنماذج المشاهدة في البيت والمدرسة والشارع والمجتمع بأسره .

 

نعم قد يتأثر الأولاد بالحديث النبوي الذي يؤكد على قيمة الوقت وعظيم مسؤولية الإنسان عن كيفية التعامل معه يوم القيامة ( لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ...... ) وقد يتفاعلوا مع بيان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يقول فيه : (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) ........ إلا التأثر والتفاعل سرعان ما يزول ويتلاشى أمام الواقع المشاهد والقدوات السلبية التي لا يرى فيها الأبناء أي امتثال أو اقتداء لما ترشد إليه أو تحذر منه تلك النصوص الشرعية .

 

و ربما ينبهر الأبناء بقول ابن القيم - رحمه الله - : "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأنَّ إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها" وقد يندهشوا من فعل ابن الجوزي - رحمه الله – الذي كان إذا دخل عليه مَن يظن فيه تضييع وقته يشغل نفسه بالقيام ببَرْيِ الأقلام وقص الأوراق حتى لا يضيع وقته.....إلا أن ذلك الانبهار والاندهاش سرعان ما يصطدم بالبيئة التي لا تساعد على تجسيد عشر معشار ما انبهر به داخل الأسرة أو المجتمع .

 

ليس من السهل تربية أبناء الأمة على تعظيم شأن الوقت و تشريب قلوبهم حب استثماره وتنفير طباعهم عن تضييع أيام فراغهم في العطلة حتى تغدو طبيعة لهم لا تكلف فيها ولا تزلف في زمن تكثر فيه مصادر إضاعة أوقات المسلمين وتتضاعف فيها منابع إغوائهم وإفسادهم وإبعادهم عن كنوز وجواهر دينهم الحنيف..... إلا أنه ممكن بشيء من الصبر والمصابرة إذا توفرت البيئة الصالحة والقدوة الحسنة والمتابعة المستدامة والدعاء المستمر لهم بالهداية والرشد وحسن التعامل مع أثمن وأعظم منحة وهبها الله لهم .