أنت هنا

وقفة مع مفهوم "العطلة الصيفية"
15 شوال 1439
د. عامر الهوشان

شأنها شأن الكثير من المصطلحات الوافدة لا يخلو مفهوم "العطلة الصيفية" في أذهان كثير من أبناء الأمة وبناتها من الخطأ في فهمه والجنوح نحو الإسراف والمبالغة في التعامل معه بما لا يتوافق في كثير من الأحيان مع تعاليم الإسلام .

قد تكون أصل الفكرة وجوهرها عموما مما يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية وقيمها وثوابتها السمحة التي تنأى بالمسلم عن إرهاق نفسه وتحمليها ما لا تطيق من الأعمال والتكاليف وتبيح له الترويح عن النفس بين الفينة والأخرى كي تستعيد نشاطها و تستأنف ما كُلفت به من أعمال بروح جديدة.....إلا أنها – العطلة - تبقى في دين الله ضمن إطارها المحدود ومفهومها البسيط وضوابطها التي تحفظها من الخروج عن هدفها وغايتها .

كثيرة هي المشاهد والظواهر التي تشير بشكل جلي إلى الخلل الجسيم الذي يعتري مفهوم العطلة الصيفية في أذهان كثير من أبناء الأمة في العصر الحديث أولها وأبرزها : التعامل المشين مع الكتب المدرسية ومواد التحصيل العلمي في نهاية العام الدراسي وكأن بينها وبين الطالب عداوة , ناهيك عن الإفراط في إظهار الفرح بانتهاء أيام الدراسة بما يشي بأن أيام الإجازة ستكون خالية تماما من المعارف والعلوم وتطوير المهارات وتنمية الخبرات و .....الخ .

العمل على تصحيح مفهوم الإجازة والعطلة في أذهان أبناء الأمة أمر في غاية الأهمية والخطورة , وهو في الحقيقة أول ما ينبغي العناية به والتركيز عليه إن أردنا بحق إحداث تغيير حقيقي وجذري في كيفية قضاء أبنائنا وبناتنا لتلك الإجازة الطويلة بشكل ينسجم ويتناسب مع ضوابط دين الله و أحكامه .

ليس من المبالغة في شيء القول : إن معظم السلوكيات السلبية التي نراها في كيفية قضاء كثير من أبناء الأمة للعطلة الصيفية اليوم بدءا بتضييعها فيما لا يعود عليهم وعلى أسرهم ومجتمعهم بأي نفع او فائدة وصولا إلى إسراف البعض وتوغلهم في باب المباحات الذي قد يفضي بهم إلى ولوج باب الشبهات وليس انتهاء بجنوح البعض نحو استباحة ارتكاب المحرمات والخوض في المنهيات وربما الكبائر بدعوى الترويح عن النفس والاستمتاع بالعطلة .......ناجم عن الفهم الخاطئ لمفهوم الإجازة ذاتها .

يحلو للبعض تبرير ما سبق من أخطاء وتمرير تجاوزاته في قضاء عطلته الصيفية بالاستشهاد بالحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِىِّ قَالَ - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ - لَقِيَنِى أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ : قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ . قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ ؟! قَالَ قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( وَمَا ذَاكَ ) . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِى وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ). ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ........

 

وعلى الرغم من وضوح معنى مفهوم "ساعة وساعة" في الحديث وانصرافها باتفاق شراح الحديث إلى ساعة الانشغال بأعمال الدنيا ومتطلبات الحياة اليومية والقيام على شؤون الزوجة والأولاد بعد ساعة الطاعة والعبادة والذكر....إلا أن البعض يصر على فهمه الخاطئ لها وتبرير انحرافاته وتجاوزاته من خلالها .
من الخطورة بمكان استقرار ذلك التلازم الغريب في أذهان طلاب المدارس والجامعات في بلادنا العربية والإسلامية بين العطلة الصيفية وبين اللهو واللعب الخالي من أي فائدة وتضييع وقتها الطويل دون استثمار ناهيك عن اقتحام البعض للشبهات فيها واقتراب آخرين من الحرام أو مقارفته والخوض فيه أحيانا خلال أيامها ولياليها .

 

من هنا تبدو ضرورة تصحيح مفهوم العطلة الصيفية في أذهان أبناء الأمة من الأولوية بمكان , فمن المعروف أن إدراك حقيقة المفاهيم واستيعاب مضمون وجوهر المصطلحات الحديثة بما يتناسب وينسجم مع تعاليم الإسلام هو مفتاح الوصول إلى حسن التعامل معها .

 

وضمن هذا الهدف تبدو الحاجة ملحة لإطلاق حملة توعية لطلاب المدارس والجامعات ومن ورائهم الآباء والأمهات والمعلمون......تركز على مضمون مفهوم الترويح علن النفس في الإسلام , وتشرح حقيقته وضوابطه ووقته ومدته , وتؤكد على أن قضاء ذلك الوقت لا يمكن أن يكون في غير المباحات وضمن الحدود المقبولة التي لا تودي بصاحبها نحو الشبهات والحرام , وتُذكّر بسيرة وقصص بعض علماء الأمة ممن كان يجد في التحصيل العلمي متعته وراحته و في الاستزادة من المعارف والعلوم وحل معضلاتها وفهم مسائلها لذته وبهجته حتى قال أحدهم – وهو الزمخشري على الأرجح كما ذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غُدَّة - رحمه الله - في كتابه : "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل" - :
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي *** من وصل غانية وطيب عناق

وتمايلي طربا لحل عويصة *** أشهى وأحلى من مدامة ساقي

وصرير أقلامي على أوراقها *** أحلى من الدوكاء والعشاق

وألذ من نقر الفتاة لدفها *** نقري لألقي الرمل عن أوراقي