أتمنى أن يحبني ربى
22 رجب 1440
أميمة الجابر

وقف ولدي الصغير بجانبي أثناء صلاتي وظل يقلد ما أفعل بحب بالغ , وأصر هذا الصغير أن يحافظ على صلاته منذ فترة طويلة , يقلد أباه في الوضوء ثم يصر على الذهاب إلى المسجد ثم يعود مصرا على الصلاة في البيت .. أراه مشدوها عند سماعه القرآن , وأراه يذكر ربه بحب بالغ ويترك لعبه مع الأطفال الآخرين ليصلي ..والآخرون لايفعلون ذلك ..

 

إن محبة الله سبحانه يدعيها كل إنسان بل ربما يشعر إنها واجب إيماني واعتقاد قلبي , لكن ما يفعله صغيري دل أنها فطرة فطر الإنسان عليها فرغم أن الكل يحب ربه لكن لماذا يكرم الله سبحانه بنعمة حبه بعض العباد دون الآخرين ؟ فبم تميز العبد الذي اختاره الله سبحانه عن غيره لتلك المحبة ؟

 

إن كانت كل الألسن تنطق وتقول أنا أحب الله فينبغي أن يعلم أصحاب هذه الألسن أن محبه الله سبحانه لابد ان تظهر على جوارح المؤمن حين يقدم براهين صادقة لتلك المحبة التي يكنها في قلبه لخالقه , إنها البراهين التي تميز المؤمن صادق الإيمان عن غيرة في محبة الله تعالى .

 

بل ينبغي على الإنسان أن يمتحن نفسه ويطالبها بالبراهين على تلك المحبة ليعلم أنها حقيقة واقعية .. ولنحاول أن نذكر أنفسنا بتلك العلامات والسلوكيات التي تقربنا لها ..

 

 فمن تلك العلامات إلتي تدل على صدق المحب , تفريغ القلب للمحبوب فلا يشرك معه أحدا في حبه , فلا يتبع هواه إذا كان ذلك الهوى مخالفا لما أمره الله به سبحانه , فقد فتراه ينطق بلسانه انه يحب الله تعالى لكن كل أفعالة وجوارحه متعلقة بما تهواه نفسه , إنما المحبة هي البذل للمحبوب وطاعته والانصياع لأمره فالإنسان إذا أحب فإنه يبذل كل ما يستطيع من اجل أن يرضي من أحبه فليس عجبا منه ذلك .

 

نعم إن حب الله ليس قولا باللسان بل لابد أن يصاحبه الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على هداه , ولحقيقة منهجه في الحياة , فالإيمان ليس هياماً بالوجدان , وليست كلمات تقال ولا مشاعر تجيش فحسب ولكنه طاعة لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بمنهج الله سبحانه الذي يحمله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم , فمن أراد أن يعرف صدق محبته لربه فلينظر كيف إتباعه لرسوله صلي الله عليه وسلم ومنهجه وكيف عطاؤه لرسالته ودعوته .

 

ولنسأل أنفسنا كيف أحوالنا مع سنته صلي الله عليه وسلم هل عملنا بها وهل حرصنا عليها ؟ فقد قال صلي الله عليه وسلم " إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه , وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "رواه البخاري ,  فإنه صلي الله عليه وسلم لم يشدد علينا بل يقول فأتوا منه ما استطعتم لكنه صلي الله عليه وسلم شدد باجتناب كل ما نهى عنه لما فيه خير لمن يجتنبه , ذلك الخير لا يعلمه العصاة بل تسول لهم أنفسهم إتباع أهوائهم .

 

وعلينا أن نعلم انه لابد أيضا لقبول أي عبادة لله تعالى من ركنين أساسيين هما: كمال الحب لله تعالى , وكمال الذل له , لهذا قال ابن القيم رحمة الله : " حقيقة العبودية : كمال الحب, وكمال الذل " , ومن أدله كمال حب الله تعالى والذل له الانقياد والتسليم لنبيه صلي الله عليه وسلم فنطيعه فيما أمر وننتهي عما نهى وزجر ..

 

 فحينما امرنا باتباعه في الصلاة قال صلي الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " رواه البخاري , وقال صلي الله عليه وسلم في اتباعه أيضا " لتأخذوا عني مناسككم " رواه مسلم .

 

وإن كان إتباع سنه النبي الكريم صلي الله عليه وسلم يعد محبه للواحد الأحد فقد أهدى الله تعالى حبه لكل من اتبع نبيه صلي الله عليه وسلم بل وبلغه المغفرة جزاء له على طاعته وانقياده " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " آل عمران 31 .

 

يقول الإمام ابن كثير في تفسيره " فهذه الآية حاكمة على كل من ادعى محبه الله تعالى وليس على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله حيث إنه يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم , فهذا قد يكون أول الطرق لكسب محبة الله تعالى لنا .

 

ومن الأسباب الجالبة لتلك المحبة أيضا :
• قراءة القران بالتدبر والتفهم لمعانيه , قال تعالى " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء"

 

•  التقرب إلى الله بالنوافل ففي الحديث القدسي :" إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحب إلىّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلىّ  بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته و لئن استعاذني لأعيذنه " رواه مسلم

 

• كثرة التوبة لله عز وجل , يقول الله تعالى " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " فالتوبة والطهارة والنظافة باب لجلب حب الله تعالى لنا

 

• على العبد أن يتق الله سبحانه في الصغير والكبير فلا يفعل أي عمل إلا ويعلم أن له ربا يراه ويسجل له كل أفعاله في ذلك السجل الذي سوف يعرضه أمامه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه , فقد قال تعالى " والله يحب المتقين " فالتقوى باب لجلب حب الله تعالى لنا

 

• أيضا الإحساس بالإحسان , ذلك الإحسان الذي ذكره الرسول صلي الله عليه وسلم في حديثه مع جبريل عليه السلام حينما سأله عن الإحسان فقال له " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فالمحسن يحبه الله ويحب الإحسان في كل شيء يقول الله تعالى " والله يحب المحسنين "

 

• الزهد في الدنيا من الصفات التي أحبها الله تعالى وأحب فاعلها فتلك الدنيا الزائلة بكل مفاتنها تلهينا بملهياتها وتنسينا في كثير من الأوقات أنفسنا فتهلكنا بكثرة المشاغل وتضعف قوانا حتى نعجز على إتمام العبادة بما يليق بخالقنا فقد أهدى الله سبحانه محبته للزاهد في تلك الدنيا حينما قال صلي الله عليه وسلم " ازهد في الدنيا يحبك الله " اخرجه الترمذي
• أيضا فضّل الله تعالى أناسا على غيرهم في المحبة بل وصفهم سبحانه بأنهم أحب الناس إليه في قوله صلي الله عليه وسلم " أحب الناس إلى الله انفعهم للناس, وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم وأن تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً "

 

• صنف أخر من الناس ينزل الله تعالى عليهم حبه وهم المتحابون في الله , ذلك الذي يحب أخاه أو صديقه محبه يرتضيها الله خالية من جلب مصلحة أو منفعة فيساعده دون انتظار مقابل ويزوره بدون دافع مصلحة فقد قال صلي الله عليه وسلم " حقت محبتي للمتحابين فيّ وحقت محبتي للمتناصحين فيّ وحقت محبتي للمتزاورين فيّ وحقت محبي للمتباذلين فيّ " رواه أحمد ,  والمباذلة أي أن يبذل كل منكما ما لديه في سبيل الله وليس لغرض من أغراض الدنيا .

 

• أيضا نصحنا رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم بصنف يحبه الله تعالى حين ذكر " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم , ثم ليؤمكم أحدكم , فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قولوا آمين يحبكم الله " أخرجه مسلم , فذلك فضل التأمين خلف الإمام في صلاة الجماعة وهو كسب حب الله تعالى لذلك العبد .

 

• إن نحاول أن نتواصل مع الله عز وجل فالتدبر في نعمه الظاهرة والباطنة قد يعمق الإيمان في قلوبنا وبكثرة ذكره تعالى على كل حال باللسان والقلب معا وأيضا بمناجاته والخلوة في أوقات النزول الإلهي أي وقت السحر في الثلث الأخير من الليل والدعاء لهم وانكسار القلب بين يديه سبحانه.

 

• أيضا التدبر في أسماء الله تعالى وصفاته ومعرفتها واستشعارها فهو القادر بما رأته أعيننا في كل شيء حولنا وهو المنعم بكل ما انعم علينا من خيرات وهو القيوم السميع البصير الخالق المصور البارئ الرازق ... إنها لصفات حقا تليق بالإله .

 

• ولمحبه الله للعبد  دلائل , فمنها أنه تعالى إذا أحب عبدا ابتلاه لقوله صلي الله عليه وسلم " لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يمشى على الأرض وما عليه ذنب " رواه الترمذي ,  فذلك الحب طهره من ذنوبه

 

• أيضا من دلائل حب الله للعبد حديث النبي صلي الله عليه وسلم " أن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض, وإن الله إذا ابغض عبداً دعا جبريل فقال يا جبريل إني ابغض فلاناً فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناَ فابغضوه قال فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في الأرض " رواه مسلم والبخاري

 

إن كسب محبه الله للعبد منزله عظيمة ودرجة رفيعة .. قال ابن القيم رحمه الله " المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون , وإليها شخص العاملون , وإلى عملها شمَّر السابقون , وعليها تفانى المحبون , وبروح نسيمها تروح العابدون , وهي قوت القلوب , وغذاء الأرواح , وقرة العيون , وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات , والنور الذي من فقده في بحار الظلمات , والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام , واللذة التي من لم يظفر بها فعيشة كله هموم وآلام , تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب "
 

إنني تمنيت أن يكرمني ربي بتلك المنة لكنني أعاود وأتذكر تقصيري فسرعان ما يتجدد عندي حسن الظن بخالقي أنني كما أحبه وأخاف من يوم لقائه سأظل أسعي كي يحبني ربي .