عبادة القلة
3 صفر 1429

خلق الله تعالى الخلق لعبادته فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فالعبادة هي الغاية من الخلق، ومن الخطأ الفادح أن نحصر الغاية من خلقنا في بعض الأفعال التعبدية كالصلاة وصيام رمضان وحج البيت فقط، فالعبادة أوسع وأشمل من أن تحصر فيما ذكر، ومن العبادات التي يغفل كثير من الناس عنها عبادة الشكر بمعناها العام والذي بعضه تلك العبادات الجليلة المذكورة.

ولمحل الشكر في دين الله تعالى حرص الأنبياء عليهم السلام وهم أئمة الدعاة وقدواتهم على تذكير أقوامهم بشكر نعم الله عليهم وذكروا لهم بعض ثمار الشكر التي تصيبهم في الدنيا والآخرة إن هم قاموا بواجب الشكر، قال الله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الأعراف:74).

قال الطبري رحمه الله: "قوله: (فاذكروا آلاء الله) يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم"(1).
قال الألوسي رحمه الله: "فاذكروا آلاء الله أي نعمه التي أنعم بها عليكم"(2).
وقال القرطبي رحمه الله: "الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ومن شكر فقد أفلح"(3)، وفي هذه الآية الكريمة موعظة بليغة من صالح عليه السلام حيث أمر قومه بالشكر لما في الشكر من إرضاء لله تعالى فعبادة الشكر تدل على أن المتعبد بها راض عن المنعم رضا دفعه إلى مقابلة الإنعام بالشكر والعرفان، كما تدل على صحوة القلب فالغافل لا ينتبه لنعم الله تعالى فيشكرها.

وقال الله تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً) (نوح: 17-20)، وقال هود عليه السلام لقومه: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف: من الآية69)، وقال شعيب عليه السلام: (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف: من الآية86)، وقال موسى عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 6-7)، وغيرهم من الأنبياء كثير كلهم يذكر قومه بما أنعم الله عليهم من النعم وينبههم إلى أهمية شكرها.

وقد أمر الله تعالى أنبياءه الكرام بهذه العبادة الجليلة من ذلك أمره نبيه الكريم موسى عليه السلام بعبادة الشكر، مما يد على أن غيره بهذا الأمر أولى فقال الله تعالى لموسي عليه السلام : (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الأعراف: من الآية144).
وقال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (البقرة:152)، وقال تعالى عن سبأ: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: من الآية15)، وقال تعالى لنبينا الكريم وأصحابه: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال:26)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة:172)، وقال تعالى: (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت: من الآية17)، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) (لقمان: من الآية12)، وقال تعالى: ) أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)(لقمان: من الآية14).

والشكر صفة من صفات الله تعالى، وقد تضمنها اسم من أسمائه فقد سمي نفسه الشكور، وذلك لأن صفة الشكر صفة كمال وحسن، والله تعالى متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، قال تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) (التغابن:17)، وأبان أنه يشكر للصالحين أفعالهم، ويجازيهم عليها بالحسنى، قال الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) (الأنبياء:94)، وأوضح أنه يعرف من تعبده بهذه العبادة العظيمة عبادة الشكر، فالشاكر معروف بهذه الصفة الفاضلة لدي ربه تعالى، ومن عرف الله منه ما يحب من الصفات أكرمه وقربه، قال الله تعالى مقرراً: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام: من الآية53)، وبين أن عباده في مأمن من عذابه إن هم امنوا وشكروا، فقال تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء:147).

فإن كانت عبادة الشكر بتلكم الأهمية التي دعت هؤلاء الأنبياء الكرام للتأكيد عليها والحث على التقرب إلى الله تعالى بها فهي إذا جديرة بالوقوف معها، والتأمل فيها، والتذكير بها, ولنعلم أن هذه العبادة الجليلة ليست ذكراً باللسان فقط بل تمام تحقيق هذه العبادة لا يكون إلاّ بلزوم شرع الله والتعبد له به قولاً وفعلاً واعتقاداً، فالموفق من أعانه الله على ذلك ويسر له أسبابه، اللهم إنا نسألك أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

________________
(1) جامع البيان، 5/537.
(2) روح المعاني، 8/164.
(3) الجامع لأحكام القرآن، 2/317.