فَقِيدُ العِلْمِ والقَضَاءِ
5 جمادى الثانية 1443
فهد بن يحيى العماري

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها المسلمون: فجعت الأمة بالأمس القريب برحيل عالم من العلماء وفارس القضاء من هذه الدنيا، وهي تفجع بين كل فترة وأخرى بفقد عالم من علمائها وبقية من بقايا السلف.

ومن المصائب والمصائب جمة موت العلماء.

لعمرك ما الرزية فقد مال  ***   ولا شاة تموت ولا بعير

ولكــن الرزيـة فقْــد حُــــرٍّ ***   يمــوت بموته خلق كثير

إن بقاء العلماء نعمةٌ من الله ورحمة، وذهابهم مصيبة تصيب الأرض وأهلها، ونقمة وثُلمة في الدِّين لا يسد شيء مسدها، بل إن مِن أعظم الرزايا التي تُرْزَأ بها الأمة الإسلامية ذهاب أهل العلم الربانيين، فبموت العلماء والدعاة وفقدهم تكمن المصيبة، وتعظم الرزية، وتخرب الدنيا، حين لا يجد الناس علماء ربانيين عاملين، فيبرز حينئذٍ أهل الجهالة والضلالة، ومَن يدعي العلم وليس من أهله، فحقّ للأرض أن تتصدع، وللسماء أن تحزن، وللأمة أن تبكي على موت العالم.

قال الحسن -رحمه الله-: "كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".

وقيل لسعيد بن جبير -رحمه الله-: ما علامة هلاك الناس؟ قال: "إذا هلك علماؤهم".

قال الإمام أحمد-رحمه الله-: (يدعون مَن ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم مِن قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم مِن ضال تائه قد هدوه).

                    رحل الشيخ: صالح بن محمد اللحيدان. العالم الفقيه والقاضي الحصيف.

- في صبيحة يوم الأربعاء الثاني من شهر جمادى الثاني لعام ألف وأربعمائة وثلاثة وأربعين من الهجرة استيقظ الناس لصلاة الفجر على فاجعة موته، غيّم الحزن على الناس وفي وسائل التواصل على فقده وموته، توافد الناس للصلاة عليه بعد صلاة العصر، امتلأ المسجد بالناس وخارج المسجد ما يقرب من عشرين ألف مصلٍّ، تقدمهم مفتي البلاد والعلماء وطلاب العلم، ومازالت الناس محبة للعلم والعلماء بفطرتهم السليمة وتدينهم، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء وهم قوارب النجاة، ولأنهم يحييون الدين والإيمان في القلوب، ويتوجعون وينفجعون لفقد العلماء والدعاة وطلاب العلم، فكم شوهد في جنائز العلماء تلك الأفواج تقبل من كل حدب وصوب، وكم شوهد ذلك التأثر والتألم في وسائل التواصل وتلك الدعوات، في مشارق الأرض ومغاربها، وإنا على فراقه لمحزونون، إنه فقيدة في ساحة العلم والقضاء والنصح والتوجيه، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.

وضجّوا بالدعاءِ لبحر علم  ***  خضمٍ لا حدود لشاطئيهِ

 مع ما يحاول بعض الناس من تشويه صورة العلماء بأساليب شتى، وهي ممارسات باءت بالفشل عبر التاريخ، قال الله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقال تعالى: (إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).

رثاه أهل الشعر والنثر ومما قيل:

مــات اللُحيدان فالأرواح تبكيهِ *** وذاك مسجدهُ ناحتْ نواحيهِ

ومجلسُ الدرسِ إذ طُلاب مسجدهِ *** فيه قــد اجــتمعوا للهِ مـافيهِ

الشرق والغرب في حزن لغيبته *** والدمع مزج دعاء من محبيه

حتّى العجائز في المذياع تفقدهُ *** قلوبهنُّ.. فكيف الشعر يرثيهِ ؟

شیخٌ جليل وما ضمت عباءته *** غــير المكارم في شتى مباديه

حر کریم نــــزيه زاهد ورع *** السمت عادته والبشـر يبديــه

عمر من العلم والتقوى يجملها *** صدق الفتاوی لشخص جاء يفتيه

ماتْ اللحيدان ركن العلم في بلدي *** قوموا إلى العلمِ يا قومي نُعزِّيه

- نقف على إشارات يسيرة من جميل ذكره وعبق سيرته ومسيرة عطائه.

١-خرج من القصيم في صغر سنه ليعمل في شركة أرامكو هو وصديق له فلما وصلا إلى منطقة الشرقية رجع ولم يتقدم للعمل في الشركة، أراد الله له أن يكون عالماً في الشريعة والقضاء.

 

٢-اتسم بالذكاء والفطنة والنباهة والحزم منذ صغره، فانتهز ذلك شيخه ابن إبراهيم- داهية القضاة والعلماء في وقته - فقربه منه وأدناه وجعله مديراً لمكتبه، وهكذا العالم يكون ديدنه مع طلابه يتوسم فيهم الخير ويدنيهم منه ويشجعهم ويحثهم على الخير والثبات عليه، وهكذا الطالب عليه أن يتلمس ذلك من شيخه وأستاذه ويطلب النصح والرأي والمشورة، لا يكون شططاً في القول والفعل والرأي، فالبركة في رأي الأكابر، والعلم ليس منتهى كل شيء.

 

٣-رشحّه شيخه ليكون رئيساً لمحكمة الرياض الكبرى، وتدرج في العمل القضائي حتى صار رئيساً لمجلس القضاء الأعلى.

 

٤- اكتسب من شيخه الحزم والدهاء والشجاعة والجد والمثابرة، فكان رجلاً مهيباً حازماً شجاعاً داهيةً، ومثالاً وقدوة في ذلك.

 

٥- اتسم بالجد والاجتهاد والتبكير في عمله وأتعب من معه ومن وراءه، ولم يأخذ إجازة طيلة فترة عمله، بل كان إذا مرض تأتيه المعاملات ويراجعها في المستشفى، وتأتيه المعاملات إذا جاء إلى مكة في رمضان ويدرسها ويوجه عليها، حتى قال لي مدير مكتبه يوماً من الأيام :

(لقد فاق شيخه ابن إبراهيم في الجد والتبكير في الدوام، وكان يأتي قبل الدوام وأول من يدخل المجلس هو، وكان يحضر قبلي وقبل جميع الموظفين والأعضاء).

وكان يداوم حتى يوم الخميس آنذاك، حينما كان يوم الخميس إجازة، وسئل الشيخ مرة لماذا لا تعدد في الزواج ؟ فقال: (إني متزوج القضاء والعلم).

وكان مما يتسم به قوة الذاكرة في معرفة القضاة وجودتهم ومشكلاتهم، والقضايا وأصحابها وما انتهت إليه وغير ذلك، ولو انتهت منذ سنين، ويطول المقام في ذكر سيره وغرائبه في ذلك رحمه الله، فهو خزينة قضائية، مليئة بالقضايا والأحداث.

 

٦-كان يرى في عمله القضائي العبادة والتقرب إلى الله والاحتساب في تحكيم الشريعة و نصرة المظلوم وردع الظالم، ولذا لا يحس بالضجر والملل، ولم يكن يبالي بأحد من شجاعته، ولكن شجاعة بعلم وحكمة دون مفاسد وشرور.

* ذات مرة كان للملك فهد رحمه الله قضية لدى الشيخ صالح فكان الحكم لخصم الملك فهد، وكان الملك فهد يقول الشيخ صالح حكم علي، لذا كان هذا من دواعي حبي له وثقته فيه، وكان يثق في الشيخ كثيراً، ولا يراجع الشيخ في أمر أو حكم تم تأييده من المجلس الأعلى للقضاء، ولا يطمئن إلا إذا رأى اسم الشيخ وختمه في الأحكام الصادرة من المجلس، وهذا ولله الحمد جار بين القضاة والقضاء في المملكة، فالجميع تحت القضاء الشرعي.

 

٧-كان محباً للقضاة مجلاً لهم، ينزلهم منزلة أولاده في الحفظ والتوجيه والرعاية والزجر والعطف والإصلاح للمخطئ، ولا يجعل لأحد سلطاناً عليهم غيره في معاقبة المخطئ منهم، حماية للقضاء والقضاة، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويسأل عن أحوالهم، ويقوم بإعانة من يحتاج إلى المعونة والشفاعة لهم ولأولادهم، وهذا كثير لا يسع المقام لذكره ؛ فكان إذا سمع بقاض حصل له حادث وتلفت سيارته، يعمّد الشركة بإعطائه سيارة مناسبة لمنزلة القاضي.

* حدثني أحد القضاة يقول لما رشحت للقضاء وفي فترة الملازمة تأخرت الرواتب، فذهبت أنا وثلاثة من الزملاء إلى الشيخ صالح اللحيدان وأخبرناه الخبر، فكتب لكل واحد منا شيكاً بخمسة عشر ألف ريال.

* كان يتعامل مع القضاة على أنهم قضاة وطلاب علم وأهل اجتهاد وفضل ويحسن الظن بهم، لا يمارس معهم في أخطائهم غير المقصودة أنظمة العمل في المعاقبة والمجازاة.

* حدثني أحد القضاة بأنه قد حصلت له مشكلة في محكمته وقمت بالعمل مكانه خارج محكمتي، وقد أخبر الشيخ صالح اللحيدان بمشكلته وأنه يصعب عليه الرجوع للعمل في المحكمة مرة أخرى ورصيده من الإجازات انتهى، فقال له الشيخ: (لا تداوم هذه الفترة حتى يتم حل المشكلة وتنقل إلى محكمة أخرى).

* وكان يحب من القضاة من يقوم بتعليم الناس وتدريسهم وبث العلم والسعي في العمل الخيري، وكان يقول لي :(كن إمام مسجد ودرّس الناس، فذلك أنفع لك وللناس، بدلاً من أن يكون لك دروساً في مساجد متنوعة، لأنه بهذا يقصدك الناس ويعرفوا مكانك، وتكون في سعة من أمرك  في مسجدك من حيث الدروس ونحوها، فلما كنت إمام مسجد في الرياض -أي الشيخ -كنت أقرأ على الناس كثيراً من الكتب وأنهيتها مثل رياض الصالحين وسنن النسائي وغيرها).

وكان يقول لي:(إن فلاناً تأخرنا في نقله، لأنه مجتهد في نشر العلم والدعوة في المحافظة التي هو فيها ولكن سننقله قريباً مادام أنه ملّح في النقل).

 

٨-كان رحمه الله يرى من الواجب صيانة القضاء والقضاة من التدخلات غير النظامية،  ويحمي جناب القضاء والقضاة من التكلم فيه وفيهم في المجالس والمنابر والصحف وحتى من قبل الخصوم، ومن حفظه كان حازماً مع القاضي المتكرر منه الخطأ غير المغفور بعد نصحه والتحري والتثبت، فحدثني مرة عن أحد القضاة :(بأنه كتب له نصيحة وسلمت له بيده وأرسلها له مباشرة بطريقة غير رسمية).

* كان جبلاً شامخاً وسداً منيعاً وهامة علياء وطوقاً حصيناً للقضاء والقضاة، ولو لم يكن من مآثره ومحاسنه سوى ذلك لكفى شرفاً وفضلاً ومحمدة ومنقبة.

لأنه على يقين إذا اهتزت ثقة الناس في القضاء والقضاة كانت الخسارة الفادحة.

لأنه على يقين لا يصلح حال الناس إلا بقضاء عادل وسمعة حسنة وثقة طيبة.

لأنه على يقين بأن ذلك يبعث في القضاة الثقة والطمأنينة والاستقلال.

* كان رحمه الله غصة و شوكة في حلوق المفسدين: المفسدين في الأرض وتخريباً للبلاد ومصالحها من ذوي الأفكار الضالة والمنحرفة، المفسدين للأخلاق المنتهكين للأعراض والأرواح والفطرة السوية، المفسدين للمال العام،بأحكام شرعية صارمة .

حدثني أحد الفضلاء أنه كان في مجلس الشيخ في مجلس القضاء الأعلى ودخل عليه رجل في مكتبه وله قضية في أرض فقال له الشيخ ليس لك فيها حق وألان له الكلام، فأبرز صكاً وأعطاه الشيخ فما كان من الشيخ إلا أن قطعه ومزقه، وقال ليس لك فيها حق.

* كان له مكانة في قلوب حكام البلاد وولاتها.

 

٩-كان مكتبه مفتوحاً لكل أحد من الأمراء والوزراء والأغنياء والفقراء والقضاة وأصحاب الحاجات والخصوم وأصحاب المظالم، فيعطي كل شخص وقته ويستمع منه ويوجهه بما يراه مناسباً، وكان مسجده كذلك يشفع لذوي الحاجات في سداد الديون والعلاج بالمستشفيات والتوظيف والدراسة، وكان إذا جاءه شخص يدخن ويريد أن يشفع له قال: (اترك الدخان ونشفع لك)، وكان يشفع لمن يعرف ومن لا يعرف، وكان لا يرد شافعاً في أي مكان أو مناسبة يراه، مستحضراً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري،  وقد قيل: (والبخيل من بخل بجاهه وماله)، وكان يحيل تلك الشفاعات لأولاده وبقية إجراءاتها، وكان يتابع بنفسه بعض الشفاعات، وإذا راجع أحد أصحاب الحاجات يقول له: (لم أنس موضوعك ولم يزل الأمر)، لم يكن يتضجر من كثرة أصحاب الحاجات حتى كانوا يصلون معه صلاة الفجر، وإذا سافر إلى مكة والطائف تقدموا بحاجاتهم، فكان يستقبلهم برحابة وابتسامة ولطافة، ما كان يتوارى عنهم، ولا يستتر دونهم، عليه سوابغ الرحمة والغفران، وهكذا كان سلف الأمة.

يذكرنا بحال الأسلاف والأئمة الكبار، ومن ذلك ابن باز وابن العثيمين عليهم سوابغ الرحمة والغفران.

* وكان إذا سمع بمظلمة وقعت على أحد، اتصل وشفع عند أصحاب الشأن، وكان سبباً في رفع تلك المظلمة، وورد في الحديث: (ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته) رواه أبوداود.

 

١٠- كان يستقبل على هاتفه كل متصل،  ولا يكاد يرن هاتفه الرنة الثالثة إلا ويرفع الهاتف،

وكنت أتصل عليه وأسأله عن ما يشكل في أمر القضاء والعلم، وأتعجب من سرعة فهمه  وجوابه واختصاره -مع كثرة المتصلين وأشغاله، مع نوع من المداعبة-، وسألته ذات مرة عن قضية في المجلس مرتبطة بقضية عندي فقال: (لا تتمنوا لقاء العدو).

 

١١- وكان يتحرى عن ما ينقل من بعض التهم عن بعض القضاة، وذات مرة اتصلت به فقال لي: (إن فلاناً عندي وذكر عنك كذا وكذا في قضيته والتعامل معه، فقلت له: الصواب كذا وكذا، فقال لي: مادام كذلك فالأمر انتهى، وأنا أعرفه سليط اللسان من قبل أن يولد فهد العماري) وذات مرة كنت عنده فسألني عن خلاف بين اثنين من القضاة، فلم أرغب أن أتحدث، فأصر رحمه الله أن أبين له الحقيقة، لأن أحدهما كان معتدياً ومخطئاً.

 

١٢-كان رحمه الله وقافاً عند الحق في العلم والقضاء، ولا يرى أنه أعلم ورأيه هو الأصوب إذا خالفه القضاة في حكم من الأحكام متى استبان له الحق، ويعزز الثقة والشجاعة في نفوس القضاة في أحكامهم واجتهاداتهم الصائبة، ولا ينتقم لنفسه، وهو صاحب سلطة حاشاه رحمه الله، وقال لي مرة: (لا عليك من أحد مهما قيل لك أو كتب لك من أي أحد حتى لو كان مسؤولاً، اعمل وفق النظام وأفد المسؤول بالنظام).

 

١٣-كان محباً للحرم ونفع الناس، فكان يأتي في موسم رمضان والصيف، وعرف بدرسه ونبرة صوته وفصاحته، وسهولة تعليمه وإجاباته المختصرة المفيدة.

تضلّع بالبيــان هُــدى وفكــرا *** كـدُرٍّ تنتقيهِ وتصطفيــهِ

لحيدانُ المهابة.. كم هفونا ***  لصوت الحاذقِ العَلَمِ الفقيهِ

 

١٤-كان محباً للعلم وأهله، مجلاً لهم، ويحب النقاش العلمي، وإذا جاء طالب علم وقال له عندي بحث في هذه المسألة يطلبه، ويشفع لطلاب العلم في قبولهم في الجامعات ودراستهم والتحاقهم بالدراسات العليا، وكان يحب الشعر والتاريخ، وأخبار العرب، إذا تكلم في ذلك كأنه متخصص في التاريخ والأنساب.

 

١٥- كان رحمه الله يحب أن يسمع أخبار المسلمين، وأحوال الناس في العالم الإسلامي، ويتألم لمصابهم، وكثيراً ما يدعو بصلاح أحوال المسلمين ونصرتهم، ولسان حاله :

إذَا اشْتَكَى مُسْلِمٌ فِيْ الصِيْنِ أرَّقَنِيْ *** وإنْ بَكَى مُسْلِمٌ فِيْ الْهِنْدِ أبْكَانِي

وَمِصْرُ رَيْحَانَتـِيْ وَالشَامُ نَرْجِسَتِيْ *** وَفِيْ الْجَـزِيْـرَةِ تَارِيْخِـيْ وَعُنْوَانِي

 

١٦- كان معرضاً عن توافه الأمور وضياع الأوقات والقيل والقال والتجريح في الناس والطعن في الظهور، حافظاً للسانه ووقته، فما سمع يوماً في درس أو محاضرة أو منبر أو مقال يطعن في أحد ويجرح أحداً رحمه الله بحجة الدعوة والإصلاح.

 

١٧- كان رحمه الله كريماً سخياً معطاء، وقد تقدم شيء من ذلك، وكان في يوم عيد الفطر يفتح بيته من بعد صلاة العيد حتى قبيل أذان الظهر يستقبل الناس ويسمع منهم من أسرته وغيرهم، ويعمل مائدة إفطار كبيرة، عليه سوابغ الرحمة والغفران.

 

١٨-كان نزيهاً في القضاء، ولا يستجيب للدعوات الخاصة، يقول لي :(لما توليت القضاء لم أستعزم لأحد إلا لبعض زملائي القضاة لما كنت قاضياً في محكمة الرياض، ولما صرت في مجلس القضاء حتى القضاة لم أستعزم لهم،  لأن لهم طلبات وحاجات عندي) ولكن كان يلبي الدعوات العامة كالزواجات ونحوها، وكان يقول لي: (إذا عرف الناس طريقة القاضي ارتاح وارتاحوا) أي في التعامل وعدم المجاملة.

 

19-كان رحمه الله يغار على دين الله ويتمعر إذا سمع عن ما يخل بالدين، ويقوم بواجب النصيحة، وكان الملك فهد رحمه الله أرسله لتقديم واجب النصيحة للرئيس معمر القذافي بخصوص الكتاب الأخضر.

كلماته مدوية في الآذان والفكر والعقول بالاعتزاز بالدين، نحن قوم أعزنا الله بالدين واتباع سنة سيد المرسلين وتحكيم شرعه وصفاء التوحيد، ولم يكن بكثرة المال وقوة الاقتصاد وجيوش جرارة، وأن النصر لمن نصر الدين.

كلماته موقظة للقلوب للاستعداد للدار الآخرة وكثرة ذكر الله والإقبال على الله والتجرد لله.

 

20-كان مؤازراً لإخوانه العلماء والقضاة ويعتضدون به لجزالة رأيه وحكمته وحنكته وشجاعته، فقد جمع بين العلم القضاء ومعرفة الواقع، عليه سوابغ الرحمة والغفران.

إِذا أَعْــجَـبَـتْـكَ خِـصـالُ امْـرِئٍ *** فَـكُـنْهُ يَـكُـنْ مِـنْـكَ مَا يُعْجِبُكْ

فَليسَ عَلى المَجْدِ وَالمَكْرُماتِ *** حِــجــابٌ إِذا جِــئْتَهُ يَـحْـجُـبُـك

* إن من أعظم البلاء ألا يجد العالم وطالب العلم والداعية والمسلم عموماً من يؤازره على الحق والثبات عليه ومشاريعه، وألا يجد من يؤازره حين البلاء بأنواعه وأصنافه، وأن يفقد من كان يؤازره ويعينه على الخير والحق.

 

أيها العظماء: ثبتوا بعضكم وتآزروا، وليشد بعضكم من بعض، ورد عن العباس الترقفي أنه قال :(خرج علينا سفيان بن عيينة، يوماً فنظر إلى أصحاب الحديث فقال: أفيكم أحد من أهل مصر؟ فقالوا: نعم , فقال: ما فعل فيكم الليث بن سعد؟ فقالوا: توفي , فقال: أفيكم أحد من أهل الرملة؟ فقالوا: نعم , فقال: ما فعل ضمرة بن ربيعة الرملي؟ قالوا: توفي  قال: هل فيكم أحد من أهل حمص؟ قالوا: نعم , قال: ما فعل بقية بن الوليد؟ قالوا: توفي  قال: هل فيكم أحد من أهل دمشق؟ قالوا: نعم , قال: ما فعل الوليد بن مسلم؟ قالوا: توفي , فقال: هل فيكم أحد من أهل قيسارية؟ قالوا: نعم , فقال: ما فعل محمد بن يوسف الفريابي؟ قالوا: توفي قال: فبكى طويلاً ثم أنشد يقول:

خلت الديار فسدت غير مسود *** ومن الشقاء تفردي بالسؤدد"

*  في حياة العلماء وموتهم دروس وعبر  للعامة ولطلاب العلم خاصة.

* يلزمنا أن نسمو بهممنا، وأن ننهض بمهماتنا، في نصرة دين الله -عز وجل-، بالإقبال على تحصيل العلم الشرعي، والتفقه في الدين، ثم القيام بالدعوة لهذا الدين على علم وبصيرة، يأخذ اللاحق راية الحق من السابق، ويجتهد أن تبقى مرفوعة ما كان فيه عين تطرف، وقلب ينبض، إلى أن يسلمها لمن بعده، فتستمر مسيرة العطاء والعمل لهذا الدين؛ كالشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن مسعود: "عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه هلاك العلماء، والذي نفسي بيده ليودن رجال قتلوا في سبيل الله أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم"، وقال النووي: (تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابهم، ومجيء قوم يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي).

* يلزمنا الاستفادة من أهل العلم حال حياتهم، مع ملازمة الصبر والمثابرة والاحتساب، والسير على منوالهم، والتشبه بحالهم، والعظة والاستشعار بالمسؤولية بموتهم.

* على طلاب العلم أن يأخذوا الرآية بعد العلماء بالعلم والحكمة قبل أن يتخذها رؤساء الجهل والضلال، فيبدلوا دين الله ويضلوا الناس.

* إن علينا أن نربي أجيالنا على العلم واحترام العلماء، ونقصّ عليهم من قصصهم وتاريخهم ما يكسبهم حب العلم وأهله والتأثر بهم، ونجعلهم في أعينهم نماذج وقدوات نيرة مشرقة مضيئة، تسترشد بتلك المنارات في طريقها في هذه الحياة وحين الأزمات والشهوات والشبهات.

قال الله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ..).

 

أيها العلماء والدعاة والجيل:

سير الرجال مدارس الرجال، همة سامية وعزيمة ماضية، ونية بإذن الله صادقة صافية، في سير الرجال تربية وتزكية وشحذ للهمم، ومصنع لتجارب الكبار، والعلم ليس منتهى كل شيء أيها الجيل فافهم وعه، وتأمل وتدبر حتى لا تضع دنياك وأخراك، وسر إلى الله في حسن سير ومسير وإقبال، فكثير من تلك الصراعات والمناكفات والبغي والبحث عن الرخص والأقوال الشاذة تتحسر عندها عندما توضع في القبر وربما قبل ذلك إذا نزل بك مرض الموت ونحوه.

* أعرض إعراض العقلاء والحكماء عن القيل والقال وضياع الأوقات وتجريح الناس وتصنيفهم والمناكفات وبيع المبادئ وانشغل بالعلم وتعليم الناس، حافظاً لسانه .

* كان عالماً عاملاً بعلمه، ثابتاً على فتاويه وعلمه ومبادئه طيلة حياته ومسيرته العلمية والقضائية، لم تزعزعه متغيرات الحياة وضغط الواقع، ما كان يفتي قبل ثلاثين سنة هو ما يفتي به بعدها.

المَرْءُ يَعْلُو بِالهُدَى فَإِذَا هَوَى *** عَاشَ الحَيَاةَ مُطَبِّلاً وَمُزَمِّرَا

* العلماء ورثة الأنبياء، وهم الحداة والهداة في كل عصر ومصر ومذهب ودين.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق وتنهى عن الظلم والفواحش ويعظمون أهل العلم والدين منهم".

ما من أمة إلا وهي تفخر بعلمائها وعظمائها، فبهم تعتز وتسمو وإليهم تطمئن وتهفو، ولن تفلح وتسعد وتثبت وتطمئن وتستقر بدونهم،  العلماء مرجع الأمة في الأزمات وسندها في الملمات..العالم وطالب العلم والداعية حارس وراع وربّان، فإذا ضاع وتلّون وزلّ فما الحال والمآل؟

بثباته يثبت خلق كثير، فها هو أبوبكر الصديق يوم الردة، وها هو أحمد بن حنبل يوم الفتنة والقول بخلق القرآن يثبتون على الحق والسنة فتثبت بعدهم الأمة.

هـــم شـــعلة في العلم هــم عـلــم لنـا *** في كل نازلة نهب ونفزع

إنمـــــا الــعــــالم في أمتـــه  قبـــــــس *** ينشر في السماء الضياء

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت *** والأسد أسد الشرى والبأس محتدم

* الحزم مع النفس، والحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم، والاستعداد للموت.

ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن، وسلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.

تَاللهِ ليس يَنفع الشخصَ غَدَا *** عندَ حُلولِ رَمْسِهِ غَيرُ الْهُدَى

     هلموا عباد الله، وقد نادكم الله فقال: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) وقال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).

أيها العلماء والدعاة وطلاب العلم والجيل الواعي :

إنها دروس في الأمانة وعظم المسؤولية والتعب والجهد..

إنها دروس في صدق الحب للوطن والبذل والعطاء لأجله..

إنها دروس في حمل هم رآية الإسلام ونصرته على كل ثغر من ثغور الإسلام..

إنها دروس في التقوى والورع والحكمة والسداد والنظر الثاقب وعدم الاستعجال والانتصار للنفس..

إنها دروس في اليقظة والجد والاجتهاد والمثابرة وترك الكسل والدعة..

إنها دروس في نفع الناس والسعي في قضاء الحاجات دون ضجر وملل واستتار..

إنها دروس في مؤازرة المسلم لأخيه المسلم ومعاونته ورفع الظلم عنه..

إنها دروس في العيش والحياة مع الله..

إنها دروس في تربية العلماء لطلابهم وإخراجهم للأمة مصابيح دجى ومنارات هدى وحملة رسالة..

يبني الرجال وغيره يبني القرى *** شتان بين قرىً وبين رجال

إنها دروس في التركيز في الأهداف..

إنها دروس في التناصح لا التفاضح والطعن في الظهور، وحسن الظن لا سوء الظن.

إنها دروس في الصدق والوفاء بالوعد والعهد..

إنها دروس في الثبات على البلاء وتبليغ دين الله، وعدم نقض العهد والميثاق..

(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

هكذا الحياة ونعمت الحياة !!

أروا الله من أنفسكم الجد والاجتهاد والثبات على دينه..

أروا الله من أنفسكم البذل والعطاء لله ومن أجل ابتغاء مرضاته ودينه..

كل ابـن آدم وإن طــــالت ســــــلامتــه *** يومـاً على آلة حدباء محمول

فإذا حمـــــلـــتَ إلى القبــــــور جنــــازة *** فاعلم بأنك بعـــدها محـــمول

*  هذه شذرات وصور مشرقة ذهبية مضيئة كأنها قطعة ترجمة لسيرة من سير أعلام النبلاء،  مختصرة من حياته، خشية الإطالة، لا توفيه حقه،كتبتها على عجل، محبة ووفاء له وبراً به.

لم يكن الحديث عن سيرة كانت في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من سلف الأمة وعلمائها وعبادها وزهادها، وإنما عن رجل كان بين أظهرنا وبين أيدينا، لأن بعض الناس يظن أن تلك النماذج العظيمة هي نماذج في الورق وكتب السير.

إذا أعجبتك خصــال امــرئ *** فكنه يكن منك ما يعجبك

فليس على المجد والمكرمات *** إذا جئتها حاجب يحجبك

* رحمه الله رحمة واسعة ورفعه في درجة المهديين وموتى المسلمين عامة ورزق أهله ومحبيه الصبر والأجر، وجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم وإنا على فراقه لمحزونون.

كتبه: فهد العماري.   

الخميس 3/ 6/ 1443هـ