الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد(*) .
فرويت في هذا الصوم أحاديث، لكنها متعقبة، منها: ما أخرجه الشيرازي في الألقاب، والبيهقي في الشعب من حديث أنس رضي الله عنه: "إن في الجنة نهراً يقال له (رجب) أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر(1). ومنها: ما أخرجه الخلال في فضائل رجب من حديث ابن عباس بلفظ: "صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم كفارة شهر". ومنها: ما أخرجه أبو نعيم وابن عساكر من حديث ابن عمر بلفظ: "من صام أول يوم من رجب عدل ذلك بصيام سنة، ومن صام سبعة أيام أغلق عنه سبعة أبواب النار، ومن صام رجب عشرة أيام نادى منادٍ من السماء أن سَلْ تُعطَ". ومنها: ما أخرجه الخطيب من حديث أبي ذر بلفظ: "من صام يوماً من رجب عدل صيام شهر، ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه أبواب الجحيم السبعة، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية، ومن صام منه عشرة أيام بدّل الله سيئاته حسنات، ومن صام منه ثمانية عشر يوماً نادى منادٍ: إن الله قد غفر لك ما مضى، فاستأنف العمل". ومنها: ما أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أنس بلفظ: "من صام يوماً من رجب كان كصيام سنة، ومن صام سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم، ومن صام ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة، ومن صام عشرة أيام لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه، ومن صام خمسة عشر يوماً نادى منادٍ من السماء: قد غفرت لك ما سلف، فاستأنف العمل، قد بدلت سيئاتك حسنات، ومن زاد زاد الله، وفي رجب حُمل نوح في السفينة فصام نوح وأمر من معه أن يصوموا، وجرت بهم السفينة ستة أشهر". ومنها: ما أخرجه الطبراني من حديث سعيد بن أبي راشد بنحو حديث أنس السالف. ومنها: ما أخرجه الخلال من حديث أبي سعيد بلفظ: "رجب من شهور الحرام، وأيامه مكتوبة على باب السماء السادسة، فإذا صام الرجل منه يوماً، وجدد صومه بتقوى الله نطق الباب ونطق اليوم، قالا: يا رب اغفر له، وإذا لم يتم صومه بتقوى الله لن يستغفر له، وقيل له: خذ عنك نفسك". وأخرج أبو الفتح بن أبي الفوارس في أماليه عن الحسن مرسلاً أنه قال صلى الله عليه وسلم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي"(2).
هذا مجموع ما ورد في صيام رجب واختصاصه بالصوم، وهذه الأحاديث كلها باطلة لا أصل لها، والعلامة الرباني القاضي الشوكاني ذكر أكثرها في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"، وأورد ابن السبكي عن محمد بن منصور السمعاني أنه قال: لم ترد في صوم رجب على الخصوص سنة ثابتة، والأحاديث التي تروى فيه واهية لا يفرح بها عالم، انتهى.
وكما لم يصل الترغيب في صوم رجب على الخصوص إلى الصحة، هكذا لم يصح النهي عن صومه أيضاً، كما روى ابن ماجه من حديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب"(3)؛ إذ في إسناد هذا الحديث ضعيفان: زيد بن عبد الحميد، وداود بن عطاء، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه: "أن عمر كان يضرب أكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا إنما هو شهر تعظمه الجاهلية"، وأخرج هو أيضاً من حديث زيد بن أسلم قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال: أين أنتم عن شعبان"، وأخرج أيضاً عن ابن عمر ما يدل على أنه كان يكره صوم رجب.
أقول: في استحباب صوم رجب يكفي أن رجب من شهور الحرام، وروى أحمد(4)، وأبو داود(5)، والنسائي، وابن ماجه(6): "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من باهلة لما قال له: إنه ما أكل طعاماً بالنهار: من أمرك أن تعذب نفسك، فقال الباهلي: يا رسول الله إني أقوى، قال: صم شهر الصبر، وثلاثة أيام بعده، وصم أشهر الحرم"، وبعض أهل العلم ضعفوا هذا الحديث بناءً على الاختلاف في سنده؛ إذ راوي هذا الحديث عن الباهلي نجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها، كما في سنن أبي داود، وقال النسائي: نجيبة الباهلي عن عمه واعتبر راويه رجلاً، يقول الشوكاني: وأنت خبير بأن مثل هذا الاختلاف لا يعد قدحاً، وجهالة الصحابي لا تضر كما تقرر في علم الاصطلاح، وأيضاً قال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة: أن اسمه عبد الله بن الحرث وقال: سكن البصرة، وكذا قال ابن قانع في المستثناة، ورجب ليس من المستثناة، انتهى.
الحاصل: أن شهر رجب من أشهر الحرم، ولهذا الشهر حرمة ليست للشهور الأخرى، فيجوز الصوم في هذا الشهر، والأحاديث التي وردت في فضائل هذا الصوم كلها هباء في الهواء إلا الرواية الأخيرة التي تشير إلى استحبابه، كما أومى إليه شيخنا وبركتنا الشوكاني، والله أعلم وعلمه أتم وأحكم.
_____________________________________
(*) أصل المقال سؤال وجه له: هل ورد في صوم رجب حديث صحيح أم لا؟ فكان جوابه بهذا التفصيل.
(1) قال الشيخ الألباني: رواه الخلال في "فضل شهر رجب" 11/1، والديلمي: 1/2/281، والأصبهاني في "الترغيب": 224/1-2، وهو باطل"، الضعيفة/1989.
(2) ضعفه الشيخ الألباني، ضعيف الجامع/3094.
(3) ابن ماجه: الصيام/1743، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف جداً"، ضعيف ابن ماجه/339.
(4) مسند أحمد: 15/179.
(5) أبو داود: الصوم/2428.
(6) ابن ماجه: الصيام/1741. وضعّفه الشيخ الألباني، ضعيف ابن ماجه/338.