ما كل ما يعلم يذاع!
24 شعبان 1439
إبراهيم الأزرق

الحمد لله وبعد فمما يروى عن بعض السلف قوله: "ما كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أوانه، ولا كل ما حضر أوانه حضر إخوانه، ولا كل ما حضر إخوانه حضرت أحواله، ولا كل ما حضرت أحواله أُمِن عواره، فاحفظ لسانك ما استطعت والسلام"، ويذكر عن الإمام مالك أنه  لما خرج محمد بن عبدالله بن حسن لزم بيته، فلم يكن يأتي أحدا لا لعزاء ولا لهناء، ولا يخرج لجمعة ولا لجماعة، ويقول ما كل ما يعلم يقال وليس كل أحد يقدر على الاعتذار!
 

وهذه المعاني ثابتة عن من فوق هؤلاء الأجلة من الأئمة ففي البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله! بوب عليه الإمام: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا!  وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنة. وفي المرفوع الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: "لا تبشرهم فيتكلوا"!
 

وقد ذكر ابن عدي في ترجمة شريك بن عبدالله القاضي الكوفي أبي عبدالله بسند جيد خبراً فيه عبرة، وهو أن نصر بن زيد المُجَدَّر قال: كنت شاهداً حين أدخل شريك ومعه أبو أمية، وكان أبو أمية رفع إلى المهدي أن شريكاً حدثه، عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم".
فقال المهدي لشريك: حدثت بهذا الحديث؟

قال: لا.

قال أبو أمية: عليَّ المشيُ إلى بيت الله، وكل مالي في المساكين صدقة إن لم يكن، حدثني!

فقال شريك: عليَّ مثلُ الذي عليه إن كنت حدَّثته.

قال: فكأن المهدي رضي.

فقال أبو أمية: يا أمير المؤمنين عندك أدهى العرب! إنّما يعني عليه مثل الذي عليّ من الثياب، قل له فليحلف مثل الذي حلفتُ!

فقال [أي المهدي] :صدقت أحلف كما حلف.

فقال شريك: قد حدثته.

قال [المهدي]: ويلي على شارب الخمر؛ يعني: الأعمش؛ وذلك أنه كان يشرب المُنَصَّفَ [قلت: يريد عصير العنب إذا طُبخ حتى ذهب نصفه، وهذا يشتد قد يسكر كثيره]، لو علمت موضع قبره لأحرقته بالنار!

قال شريك: لم يكن يهودياً كان رجلاً صالحاً مولى لبني كاهل.

قال [المهدي] : زنديق!

قال [شريح] : للزنديق علامات بتركه الجماعات، وجلوسه مع القيان، وشربه الخمر.

قال له: والله لأقتلنك!

قال [شريح] : ابتلاك الله بمهجتها [كذا ولعلها بمهجتي تصحفت الياء، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى نفسه على طريق الالتفات إلى الغيبة].

قال [المهدي] : أخرجوه.

فأخرج، فجعل الحرس يشقصون ثيابه، ويخرفون قلنسوته، [كذا وقع ولعل الصواب يخرقون].

فقلت لهم [الراوي نصر بن المجدر] : أبو عبد الله! [أي: هذا شريك! كأنه على سبيل التنبيه إلى مكانه].

قال [يعني المهدي] : دعهم! أردت أن تقرب مني، ما ازددت مني إلاّ بعداً!

 

قلت مما يستفاد من هذا الخبر أمور منها:
1-            ليس كل أحد يصلح أن يُحدَّث وإن كان فاضلاً طالباً للعلم، ألا ترى ما جر إلى شريك تعليمه أبا أمية!

 

2-            من الأحاديث ما تقتضي المصلحة عند العلماء ألا يحدث به كل الناس، وإذا كان هذا في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغيره أحرى.
 

3-            من الحكمة نفي المرء بعض الحق عنه بالمعاريض ما استطاع، فلا يقرَّ عند كل أحد بكل ما فعله، إذا كان الإقرار مما يعرضه إلى الخطر ظلماً.
 

4-            على الفاضل أن يتلافى الكذب الصريح وإن رأى الصدق يعود عليه بالأذى.
 

5-            امتحنت الأمة في عصور متقدمة حتى إن العالم ليهاب أن يحدث بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعه من الثقة، فلا يعجب بعد ذلك من هيبة كثير من الناس التحدث في موضوعات شتى! لعوارض تطرأ.
 

6-            الذب عن عرض الفاضل ولاسيما إن كان له فضل على المرء كشيخ الرجل من المهمات التي لا يبالي من أخذ بالعزيمة من أهل الفضل من أن تذهب مهجهم فيها، ولذا لم يحتمل أبو عبدالله طعن الخليفة في الأعمش.
 

7-            التهود من أقبح الذنوب لهذا لما ذكر الحرق قال: لم يكن يهودياً!
 

8-            ترك الجماعات، والجلوس للمغنيات، وشرب الخمر من علامات زندقة من اجتمعت له، وظهرت عليه، هكذا اشتهر عندهم.
 

9-            عَرَض الأذى للأفاضل والأكابر قبل من ترى! وقد قيل إن الأُسى تدفع الأَسى وليست كذلك لكنها تواسي.
 

10-       من المروءة أن تذب عن الفاضل إن نيل منه، وأن تنوه بمكانه، وإن حط ذلك من قدرك عند بعض الناس، فإن ذلك مما يرفع شأنك عند رب الناس، وما ضر ابن المجدر أن نزلت منزلته عند الخليفة إن كانت نيته صحّت في زجره الحرس عن تناوش أبي عبدالله.

 

وفي الخبر غير ذلك من العبر، أقتصر على ما سلف منبهاً على أنه لايثبت من جهة الصناعة، فقد أعله أئمة الشأن وعلى رأسهم الإمام أحمد، فابن أبي الجعد لم يسمع من ثوبان رضي الله عنه، وما جاء من روايته الخبر عن أبيه عن ثوبان غير محفوظ، وما ذكر من الشواهد له لا تشفعه، لضعفها مع ما فيها من مخالفة المتظاهر من النصوص في الباب، والله الموفق.