الضوابط الشرعية للإعلانات التجارية
17 ذو الحجه 1439
د. ماھر الحولي و أ. سالم أبو مخدة

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

لا يكاد الواحد فينا ينظر إلى أي مكان يسير فيه إلا ويجد لوحات لإعلانات مختلفة في أشكالها وأحجامها، تلك الإعلانات أصبحت تشكل نمطاً مهماً في حياة التجار لا غنى لهم عنها في واقعنا المعاصر، والتي أصبحت الآن شركات مختصة في إنتاج تلك الإعلانات، مستغلة كل الوسائل الحديثة من مجلات وإذاعات مرئية ومسموعة وانترنت حتى خدمات الجوال وغيرها لإظهار إنتاجها، ولكل من هذه الشركات فلسفتها الخاصة بها، فمنها ما يراعي الضوابط الشرعية في إعلاناته، ومنها مالا يهمه من ذلك إلا كسب المال بغض النظر عن مدى ملائمة تلك الإعلانات للضوابط الشرعية فيها، ونحن بدورنا في هذا البحث نريد أن نسلط الضوء على أهم تلك الضوابط، التي لا بد وأن يلتزم بها عند تصميم تلك الإعلانات التجارية.

أولاً: طبيعة الموضوع:

الموضوع في طبيعته ناقش مدى مشروعية الإعلانات التجارية والتي أصبحت تمثل مرتكزاً مهماً للدخل المادي في وسائل الإعلام المختلفة، كما تناول أهم الضوابط التي لا بد وأن يلتزم بها عند عرض تلك الإعلانات.

ثانياً: أهمية الموضوع.

تكمن أهمية الموضوع فيما يلي:

1- تسليط الضوء علي قضية هي من أكثر القضايا عرضاً ومشاهدة على وسائل الإعلام المختلفة، حيث أصبحت لها مجلات وقنوات فضائية مختصة، مع إظهار مدى مشروعيتها.

2- إظهار أهم الضوابط التي لابد وأن تراعى عند تصميم الإعلانات التجارية.

 

المبحث الأول: حقيقة الإعلانات التجارية

المطلب الأول: الإعلان في اللغة

جاء الإعلان في اللغة بعدة معان متقاربة، هي: -

1- الظهور: يقال: أَعْلَنَ يُعْلِنُ إعلاناً؛ إذا أظهره (1)، وجاء في معجم المقاييس في اللغة: العين واللام والنون أصل صحيح يدل على إظهار الشيء والإشارة إليه وظهوره (2). ويقال: أمره عَالِن: أي ظاهر (3).

والإعلان: إظهار الشيء بالنشر عنه في الصحف ونحوها (4).

2- الجهر: عالَنه به معالنه وعِلاناً: جاهره (5). ويقال: أعْلَنَه أي جهر به(6).

3- الذيوع والانتشار: يقال عَلَنَ الأمر عُلُوناً؛ إذا شاع وظهر (7).

المطلب الثاني: الإعلان في الاصطلاح

الإعلان عند الفقهاء موافق لمعناه اللغوي سواء بسواء (8).

وأما تعريفه عند أهل السوق والتجار فهو: "ما ينشر في الصحف أو الإذاعة أو نحوها في نشرات خاصة مما يهم المُعْلِن أن يطلع الناس عليه ويستجيبوا له"(9).

ولقد عرفته جمعية التسوق الأمريكية تعريفاً عاماً وهو: " مختلف نواحي النشاط التي تؤدي إلي نشر أو إذاعة الرسائل الإعلانية المرئية أو المسموعة المختلفة على الجمهور؛ بغرض حثه على شراء سلع، أو خدمات، أو من أجل استمالته إلي التقبل الطيب للأفكار أو الأشخاص أو منشآت معلن عنها"(10).

ولقد عرَّف أحمد عيساوي الإعلان من وجهة نظر إسلامية بأنَّه: " علم وفن التقديم المشروع إسلامياً للسلع، أو الخدمات، أو التسهيلات، أو المنشآت الشرعية؛ وذلك لخلق حالة من الرضا النفسي والقبول لدى الجمهور مقابل أجر مدفوع، يقوم بها وسيط إعلاني إسلامي، يتخذ من وسائل الإعلام والاتصال مفصحاً فيه عن شخصية وطبيعة المعلن"(11).

المطلب الثالث الألفاظ ذات الصلة:

1- الإظهار: وهو مجرد الإبراز بعد الخفاء (12).

وعلى هذا فإن الفرق بين الإظهار والإعلان: أن الإعلان هو المبالغة في الإظهار. ومن هنا قالوا: يستحب إعلان النكاح، ولم يقولوا إظهاره؛ لأن إظهاره يكون بالإشهاد عليه فحسب.

2- الإفشاء: يكون الإفشاء بنشر الخبر من غير مجاهرة ولا إعلان، وذلك ببثه بين الناس.

3- الإعلام: وهو إيصال الخبر مثلاً إلى شخص أو طائفة من الناس، سواء أكان ذلك بالإعلان، أم بالتحديث من غير إعلان، وعلى هذا فهو يخالف الإعلان من هذه الناحية، ومن ناحية أخرى فإنه لا يلزم من الإعلان الإعلام، فقد يتم الإعلان ولا يتم الإعلام؛ لسفر أو حبس أو نحو ذلك (13).

المبحث الثاني: أنواع الإعلانات التجارية وأهدافها

عرف الناس منذ القدم أنواع من الإعلانات التجارية، وإن كانت بدائية في ذاتها، فهي بذلك قديمة حديثة، ولكن مع تقدم العصور وظهور الحاجة لهذا الجانب؛ بدأت: تتطور تلك الأنواع بتقدم التكنولوجيا الحديثة ودخلت بقوة في المجتمعات مما أبرز تلك الأنواع بشكل واضح.

ونحن بدورنا في هذا المبحث سنعرض لأهم أنواع الإعلانات التجارية مع التعريج على أهم خصائصها وأهدافها ومقاصدها.

المطلب الأول: أنواع وخصائص الإعلانات التجارية:

الناظر والمتتبع لواقع الإعلانات التجارية في القديم والحديث يجدها كثيرة متعددة وسيتم تسليط الضوء على أهمها وهي في التالي:

1- المنادي: وهو من يوفده الحكام أو الملوك أو الأمراء ليتجول في الأسواق والطرقات ثم يجمع الناس حوله ليبلغهم برسالته.

2- الدلال: وهو من كان ينادي قديماً على السلع في الأسواق؛ لترويجها، ولعل هذين الأسلوبين من أقدم الأساليب، بالإضافة لعرض البضاعة أمام البائع وإظهارها بمظهر جميل؛ ليتم الإقبال عليها من قبل الناس.

3- الإعلانات المطبوعة: وهي الأقدم على الإطلاق بين فنون الإعلان الحديث، وهي: إعلانات الصحف، والمجلات، والدوريات، والمنشورات، والملصقات.

4- الإعلان غير المباشر: ومنها الكتيبات والمطويات التي ترسل بالبريد وغيره لأشخاص بعينهم.

5- الإعلانات الخارجية: وهي إعلانات الشوارع والمعارض، والإعلانات على جوانب الحافلات العامة.

6- الإعلانات المسموعة: وهي الإعلانات الإذاعية التي تبث على موجات الأثير الإذاعي.

7- الإعلانات المسموعة/المرئية: وهي إعلانات التلفاز، وهي الأكثر انتشاراً الآن، وكذلك إعلانات دور السينما.

8- الإعلانات على شبكة (الإنترنت): وقد زادت أهميتها بازدياد أهمية شبكة المعلومات العالمية كوسيط إعلامي هائل، وتطورت إعلاناتها حتى وصلت إلى المستوى المتقدم الذي نراه اليوم.

9- الإعلانات على شاشة الهاتف الجوال (رسائل sms): ولقد أصبحت من الوسائل الهامة بعد أن ازداد مستخدمو الجوال حول العالم، بحيث تستطيع أي شركة أو مؤسسة إيصال إعلاناتها من خلال شركات الاتصال المختلفة المنتشرة حول العالم بكل يسر وسهولة (14).

المطلب الثاني: أهداف ومقاصد الإعلانات التجارية:

أولاً: الأهداف العامة للإعلانات التجارية:

من الممكن عرض مجموعة من الأهداف العامة للإعلانات التجارية متمثلة فيما يلي:

1. تغيير سلوك المستقبلين؛ كلي يصبحوا مستهلكين.

2. تعريف الجمهور بالسلعة ومميزاتها مع وصف استعمالاتها.

3. إيجاد جو من الثقة بين الجمهور والسلعة المعروضة.

4. تسويق أكبر كمية من السلع المعروضة، مع تحقيق الأرباح.

5. حث المستهلكين على زيادة مشترياتهم من السلعة.

6. تصحيح المفاهيم نحو السلعة المعرض عنها.

7. دعم مجهودات رجال البيع.

ثانياً: أهداف ومقاصد الإعلان التجاري الإسلامي:

يضطلع الإعلان التجاري الإسلامي بعدة تستطيع والتي يحقق بواسطتها تحقيق جملة من: الوظائف، والأهداف، والمقاصد، لعل من أهمها:

1. تعريف جمهور المسلمين وغيره بأهم خصائص ومميزات السلع، والخدمات، والتسهيلات، والمنشآت الإسلامية.

2. تقديم المنتجات الإسلامية للجمهور المسلم ولغيره، مع تدعيم وجودها في السوق، والتشجيع على الإقبال عليها دون غيرها من السلع والمنتجات المستوردة، والمسارعة لاقتنائها.

3. تهيئة مناخ طيب من الألفة والإقبال؛ لاقتناء السلع الإسلامية المنتجة محليا، والتعامل مع الخدمات والتسهيلات والمنشآت الإسلامية، وتفضيلها على غيرها.

4. تحرير الفرد والمجتمع المسلم من قيود التبعية الاستهلاكية، ومن قابليات الاستهواء النفسي والمعنوي للسلع والخدمات والمنتجات والتسهيلات القادمة من الغرب، مع تحريره كذلك من حالة الخوف الداخلي القائمة في نفسيته حيال المنتجات والخدمات الوطنية والإسلامية، التي أقامتها وما زالت تقيمها الهيمنة الاقتصادية والثقافية والحضارية الغربية.

5. تحرير الاقتصاد المسلم من الهيمنة الاقتصادية العالمية، مع إيجاد مناخ من التوافق الاجتماعي والاقتصادي بين السلع والخدمات والمنشآت والتسهيلات الإسلامية، والفرد والمجتمع المسلم.

6. تنبيه الجمهور المسلم وغيره لبعض السلع الدخيلة المستوردة، التي تكون موضع شبهة من الناحية الشرعية، كالشحوم، واللحوم، والمشروبات، وبعض مراهم التجميل، التي يدخل في صناعتها شحم الخنزير أو الكحول أو غيرها من المواد المحرمة، والتي يوجد لها نظير في السوق المحلية الإسلامية. وكذلك الخدمات والتسهيلات المشبوهة التي قد تغرر بالجمهور المسلم وبالسوق الإسلامية.

7. توفير جو من الراحة النفسية، مع بعث مناخ من الطمأنينة الداخلية الفردية والجمعية للفرد والمجتمع المسلم، من خلال عملية النشاط الإعلاني الشرعية، وذلك بإشاعة ثقافة الترفيه، والمرح، والتسلية المشروعة عن طريق الإعلانات.

8. تجنيب الفرد والمجتمع المسلم حالة الاحتقان العاطفي والاحتباس النفسي، التي يتلقاها بقوة من سيل المضامين والرسائل الإعلانية الغربية. وذلك بتقديمه للجرعات العاطفية المتزنة والمشروعة، والتي تضمن له توافقه الاجتماعي النفسي والعاطفي.

9. تزويد الفرد والمجتمع المسلم: بالقيم والأفكار والمعارف الصحيحة، التي تزيد من مستواه المعرفي، وترفع من معنوياته، وتثبت نفسيته.

10. ترسيخ القيم الفاضلة في نفسية وسلوك الفرد والمجتمع المسلم، ونبذ كل ما عداها من القيم الهابطة، وذلك بإبراز القيم الدينية والأخلاقية الفاضلة في الإعلان عن السلع والمنشآت وغيرها، مع الإغراء باستعمالها: سلوكياً وأخلاقياً وجمالياً.

11. المساهمة في خفض تكاليف السلعة أو الخدمة، بحيث يوجه الجمهور إلى أماكن توافرها، وتوقيت مبيعاتها، وطرق الإقبال عليها، فيوفر عليه بذلك جهداً ووقتًا وتكلفة تكفيه مؤونة البحث والتفتيش والانتظار، مما يحفزه للقيام بنشاطات أخرى تعود عليه وعلى الأمة بالخير.

12. ضبط ظاهرة الاستهلاك المشروع، وذلك بتنمية حركية الإنتاج المحلي، وتشجيع الدورة الاقتصادية، وحركية السوق، والرفع الإيجابي من المستوى الاقتصادي والمعيشي للجمهور المسلم، بما يتوافق ومقاصد الشرع في الاستخلاف والاستعمار المشروع لثروات الأرض.

13. تشجيع حركة المنافسة الاقتصادية المشروعة، لا سيما بين المنتجات المحلية والإسلامية؛ لتقف في وجه المنتجات الغربية المهيمنة.

14. العمل على إيجاد علامات فارقة إسلامية (ماركة إسلامية) خاصة، مع تدعيمها في مخيلة الفرد والمجتمع المسلم؛ لمواجهة (الماركات) الغربية العالمية المهيمنة على النفسيات والأسواق.

15. تشكيل قوة قيمية؛ وثقافية، وحضارية إسلامية متحدة ومهيمنة، هدفها الرئيس خدمة التوجه العربي الإسلامي الاقتصادي والمالي: المحلي والإقليمي والعالمي(15).

المبحث الثالث: مشروعية الإعلانات التجارية

المطلب الأول: أدلة مشروعية الإعلانات التجارية:

تعتبر الإعلانات التجارية وسيلة ترويجية؛ لإنفاق السلع المختلفة، فهي بذلك تقع تحت إطار البيع والشراء أو مقدماتها، وبما أن الإعلانات عبارة عن معاملات تجارية، فإن الأصل فيها الإباحة والجواز ما لم يرد دليل يحظرها؛ لقوله تعالي: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (16)، وجاء في القاعدة الشرعية: "الأصل في الأشياء الإباحة"(17).

ولقد جاءت الأدلة الشرعية بإباحة وجواز هذا الأمر ضمن ضوابط محددة، فإذا خرج الأمر عن ضوابطه أصبح ممنوعاً وخارجاً عن إطار الشرع ومن هذه الأدلة على مشروعية الإعلانات الكتاب والسنة والمعقول.

أولاً: القرآن الكريم:

قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(18).

وجه الدلالة: دلت الآية الكريمة على أن البيع في مجمله مباح، ولا يدخل التحريم إليه أو إلى تفصيلاته إلا بدليل(19)، وقال ابن حجر العسقلاني: "والآية أصل في جواز البيع، وللعلماء فيها أقوال أصحها أنه عام مخصوص، فإن اللفظ لفظ عموم يتناول كل بيع فيقتضي إباحية الجميع، لكن قد منع الشارع بيوعاً أخرى وحرمها فهو عام في الإباحة مخصوص بما لا يدل الدليل على منعه"(20).

وبالنظر إلى صورة الإعلانات التجارية لم نجد دليلاً خاصاً أو عاماً على منعه وتحريمه، بل كانت الحوادث والشواهد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تدلل على عدم منعه، وذلك ما سيظهر من الأدلة القادمة.

ثانياً: السنة النبوية:

1. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبْرة(21) طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابَتْه السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلْتَه فوق الطعام كي يراه الناس مَن غَشَّ فليس منِّي(22).

وجه الدلالة: بين الحديث طريقة من طرق عرض البضاعة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهي الصبرة، حيث تعتبر بذلك وسيلة من وسائل الإعلانات التجارية، وإن كانت في حد ذاتها وسيلة بدائية، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على صاحبها طريقته في العرض أو الإعلان عن البضاعة، ولكن كان النهي والإنكار على الرجل؛ كونه أعلن عنها بطريقة الغش والخداع، حيث أظهر البضاعة بغير مظهرها الحقيقي، حيث جعل المبتل منها غير ظاهر للمشتري.

ويفهم من هذا: أن الإعلان عن البضائع بالطرق البعيدة عن الغش والخداع مشروعة.

2. "قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بُرّ ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، وضرب بالطبل؛ ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا، وقيل: أحد عشر رجلا، قال الكلبي: وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها"(23).

وعن مجاهد ومقاتل: "كان النبي- صلى الله عليه وسلم -يخطب فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس"(24).

وفي رواية: "فدخل رجل _ أي المسجد _ فقال: إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدِّفاف، فخرج الناس"(25).

نرى من الروايات المختلفة أن الناس كانت لها أساليبها الخاصة في الإعلان عن قدوم التجارة؛ كي يتجمع الناس ويأخذوا ما يحتاجون إليه ألا وهو قرع الطبول أو استخدام الدفوف، وتلك في عصرهم كانت عبارة عن وسائل إعلانية، ولم يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن تلك الوسائل فتكون مشروعة.

3. كان الصحابة - رضوان الله عنهم- يعرضون بضائعهم في سوق المدينة، ثم ينادون عليها إما بأنفسهم وإما عن طريق عبيدهم وغلمانهم، وتلك الطريقة وهي العرض والمناداة نمط من أنماط الإعلانات التجارية على الرغم من بدائيته، ولم نعلم من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاره لذلك؛ فيكون إقراراً منه صلى الله عليه وسلم على جواز الإعلانات التجارية(26).

ثالثاً: المعقول:

جاءت الشريعة الإسلامية بالتيسير ورفع الحرج؛ قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(27).

ولقد أصبحت الإعلانات التجارية بالوسائل المختلفة من الضرورات الملحة؛ لإنفاق البضائع المختلفة، وخاصة أن العصر الحديث قد كثرت فيه الشركات المصنعة للبضائع بمواصفات مختلفة فأصبح من الملح أن تعرض كل شركة لبضائعها؛ لتظهر ما فيها من تلك المواصفات، وإن مُنع التجار من ذلك؛ دخلوا في مشقة وحرج.

ولكن نقول: إن الوسائل التي تعرض من خلالها البضائع لابد وأن تكون ملتزمة ومنضبطة بضوابط الشرع الحنيف.

المطلب الثاني: حكم الإعلانات التجارية:

قلنا إن الإعلانات التجارية جائزة ومشروعة، والأصل فيها الإباحة، إلا أنها بالرغم من ذلك:

قد تكون واجبة: إن دخل في الإعلان ترويج لما يجب على المسلم اقتناؤه مثل المصحف، أو كان وسيلة متعينة لترويج أمر يكون به قوام الأمة الإسلامية كالترويج لموقع إسلامي تعليمي أو دعوي على شبكة (الإنترنت) مثلاً، أو الترويج لقناة دعوية تبث أفكاراً إسلامية على إحدى الفضائيات...، يمكن أن يساهم في تحقيق مصلحة شرعية أو واجب.

وقد تكون مندوبة: إن كان فيها ترويج لشيء مندوب، مثل الترويج للسواك فإنه بذلك يروج لسنة قد استننها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي أو على الناس؛ لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"(28).

وقد تكون حراماً: إن دخل في تصميم الإعلان شيء محرم، مثل ظهور النساء سافرات، أو كانت الإعلانات تشتمل على شيء محرم مثل إعلانات الدخان أو الخمور أو لباس الحرير للرجال والشرب من آنية الذهب والفضة، فعن ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بالمداين، فاستسقى فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: هن لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة(29).

وقد تكون مكروهة: إن دخل في تصميم الإعلان شيء مكروه، مثل أن يظهر فيه رجل يأكل أو يشرب بيده اليسرى، فعن إياس بن الأكوع، أن أباه حدّثه: أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت ما منعه إلى الكِبْر قال: فما رفعها إلى فيه(30).

وقد تكون مباحة: وهي الإعلانات التجارية التي تكون خالية من المحرمات والمكروهات وتحقق مصلحة للتاجر والمستهلك على أن تكون وفق الضوابط الشرعية.

المبحث الرابع: الضوابط الشرعية للإعلانات التجارية

تبين لنا مما سبق أن الشريعة الإسلامية قد نصت على مشروعية الإعلانات التجارية، ولكن هذه المشروعية منضبطة بمجموعة ضوابط نستعرض أهمها بعد التعرض لحقيقة الضوابط في اللغة والاصطلاح.

المطلب الأول: حقيقة الضوابط الشرعية:

أولاً: الضوابط في اللغة:

ضوابط جمع ضابط، وقد جاءت في اللغة بمعان متعددة، وهي:

1- الحفظ: نقول: ضبط الشيء، أي حفظه حفظاً بليغاً، ومنه قيل ضبطت البلاد وغيرها: إذا قمت بأمرها قياماً ليس فيه نقص(31).

2- اللزوم: ضبط الشيء، أي: لزمه لزوماً شديداً(32).

3- الحزم: ضبط الشيء، أي: حفظه بالحزم، ورجل ضابط: أي حازم(33).

الضوابط في الاصطلاح:

لقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، ولكن من أقرب تلك المصطلحات لما نريد، أنها: "قضية كلية تنطبق على جزئياتها التي هي من باب واحدة" ويمكن أن يقال الضابط هو: " كل ما يحصر جزئيات أمر معين"(34).

المطلب الثاني: الضوابط الشرعية للإعلانات التجارية:

عرفنا مما سبق أن الإعلانات التجارية مشروعة بأدلة مختلفة من الكتاب والسنة وغيرها، ولكن لا تكون هذه المشروعية على إطلاقها، بل لا بد لمن يعمل في مجال تصميم الإعلانات التجارية أن يراعي بعض الضوابط متمثلة فيما هو تالٍ:

1- الصدق:

طالبت الشريعة الإسلامية المسلم بأن يكون صادقاً في كل أقواله وأفعاله، وقد جاءت الأدلة الكثيرة حاثة على الصدق، ولكن سنقتصر هنا على بعضها في مجال المعاملات التجارية.

عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التاج الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"(35).

ولعل هذه المرتبة العالية التي وصل إليها التاجر الصدوق، لما في التجارة من مغريات كثيرة تجعل الأغلب منهم يخرج عن دائرة الأمانة والصدق، فتركها _ أي المغريات _ وسعى لأن ينال الدرجات العليا، ومن هذا يفهم أن صفة الصدق هي صفة أصلية في التاجر، ومصمم الإعلانات هو تبع للتاجر فلا بد وأن يلتزم بهذه الصفة كذلك.

وعن إسماعيل بن عُبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: "يا معشر التجار، فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فُجَّاراً إلا مَن اتقى الله وبَرَّ وصَدَق"(36).

وعن حكيم بن حِزام رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال: حتى يتفرقا فإن صَدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا، مُحِقت بركة بيعهما"(37).

إذاً من صفات التاجر، أو من الصفات التي لا بد أن تتوافر في التاجر الصدق والبيان، لتتحقق بذلك البركة وكثرة الرزق، وقد بين هذه المعاني الإمام الغزالي فقال: "إن من واجب من يعرض سلعة ما، أن يظهر جميع عيوب المبيع: خفيها وجليلها، ولا يكتم منها شيئاً، فإن أخفاه؛ كان ظالماً غاشاً والغش حرام، وكان تاركاً للنصح في المعاملة والنصح واجب، وليس أدل على ذلك ما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبْرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابَتْه السماء يا رسول الله قال: أفلا جعلْتَه فوق الطعام كي يراه الناس مَن غَشَّ فليس منِّي"(38).

ويدل على وجوب النصح بإظهار العيوب ما روي عن زياد بن عِلاقة سمع جرير بن عبد الله يقول: بايعتُ النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم(39). فكان جرير إذا قام إلى السلعة يبيعها؛ بصَّر عيوبها ثم خيَّره وقال: إن شئت فخذ وإن شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم(40).

ولم يقف الحد إلى هنا من البيان من التاجر، بل كان على كل من علم بذلك العيب أن يبينه ويظهره ولو كان من غير المتعاقدين، فقد جاء عن يزيد بن أبي مالك قال: حدثنا أبو سباع قال: اشترتُ ناقةً من دار واثلة بن الأسقع فلما خرَجْتُ بها أدركَنا واثلة وهو يجُرّ رداءه فقال: يا عبد الله اشتريتَ قلتُ: نعم قال: هل بيَّن لك ما فيها؟ قلت: وما فيها؟ قال: إنها لسمينة ظاهرة الصحة قال: فقال أردتَ بها سَفَراً؟ أم أردتً بها لحماً؟ قلت: بل أردت عليها الحج قال: إن بخُفِّها نَقْباً قال: فقال صاحبها أصلحك الله أي هذا تفسد عليَّ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد يبيع شيئاً إلا يبين ما فيه ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا يبينه"(41).

وقد تحدث العلماء في هذه المسألة بالقول: بأنه إذا حصل البيع وقبض المشتري المبيع ولم يذكر العيب، ثم علم به بعد ذلك؛ كان البيع صحيحاً، وكان للمشتري حق الخيار، بين أن يرضى بالمبيع على ما فيه من عيوب أو يرده للتاجر فيفسخ البيع ويسترد بذلك الثمن، طالما أنه لم يكن على علم بهذا العيب لا عند العقد ولا عند القبض(42).

وذلك للحديث الذي روت السيدة عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ثم وجد أو رأى به عيباً فردّه بالعيب فقال البائع: عَلّة عبدي(43) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغلة بالضمان"(44)(45).

ومما سبق يتبين أن الآمر بتصميم الإعلانات التجارية لا بد وأن يكون صادقاً في عرضه لذلك الإعلان؛ كي لا يقع فيما نهت عنه الأحاديث السابقة، ولكن نقول: إن كثيراً مما يقع فيه مصممو الإعلانات التجارية هو ليس عدم الصدق فقط، بل المبالغة عند عرض تلك الإعلانات.

مثال: يتم عرض إحدى منظفات أواني الطبخ وقد استخدم قطرة واحدة من ذلك السائل المنظف لينظف فيها كميات كبيرة من الأواني وذلك من المبالغات التي تحدث في تلك الإعلانات ومما يكون مخالفاً للواقع.

ومثال آخر: عند عرض نوع من منظفات الشعر (الشامبو) يذكر بأنه مزيل للقشرة وعند الاستعمال يكون على خلاف ذلك، فيقع بذلك التاجر ومصمم الإعلان فيما نهت عنه الشريعة الإسلامية.

2- عدم الإعلان عن المحرمات

جاءت الشريعة الإسلامية المطهرة بكل ما فيه مصلحة وخير، كما نهت وحرمت كل ما فيه مضرة لهم، والإعلانات التجارية كما فيها المصلحة من جانب قد يساء استخدامها بالإعلان عن المحرمات، وقد نصت الشريعة الإسلامية على حرمة الإعلان عن المحرمات بجملة أدلة منها:

* قول الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}(46).

أحل الله تعالى كل طيب؛ لنفعه، كما حرم كل خبيث؛ لضرره، وكل ما يوصل إلى الخبيث فهو خبيث فالإعلانات هي وسيلة ترويجية لسلع مختلفة، فإن اشتملت على محرمات اعتبرت بذلك مروجة لما هو محرم.

* قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(47).

نهى الله تعالى أن نتعاون فيما فيه إثم وعدوان، وإن تصميم الإعلانات التجارية بما يشتمل على ما حرم الله تعالى فيه تعاون على الإثم والعدوان.

ومن صور الإعلان عن المحرمات:

- حرمة تصميم إعلانات فيها ترويج للخمور والدخان أو تشتمل على هذه الأمور أو غيرها من الأمور المحرمة.

- حرمة تصميم وترويج إعلانات لبنوك تتعامل معاملات ربوية.

- الحفلات الموسيقية الماجنة، وتصميم بطاقات فيها دعوة لتلك الحفلات.

- التصميم والإعلان عن المواقع الإباحية والمحرمة على (الإنترنت)، أو الإعلان عبر تلك المواقع.

- هناك شركات ومتاجر تتعامل بمعاملات مخالفة للشريعة الإسلامية، فينبغي عدم مساعدتها على ما هي فيه بالإعلان لها وتصميم الإعلانات المروجة لبضاعتها.

3- ألا يكون في الإعلان ما يثير الغرائز والشهوات:

أمرت الشريعة الإسلامية: بالفضيلة والعفاف وحسن الخلق، فلقد مُدح أطهر الخَلق محمد صلى الله عليه وسلم في كتاب الله تعالى؛ لأخلاقه، حيث قال الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(48).

ومن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام: عدم الخلوة والاختلاط بين الجنسين أو كشف العورات وإظهار المفاتن أو الخضوع في القول أو فعل ما من شأنه أن يثير الغرائز والشهوات، وذلك كله أجمع لما فيه من مفاسد وإشاعة للفاحشة وتدمير للمجتمعات وأخلاقها.

وإن المتطلع إلى وسائل الإعلانات الحديثة سواء أكانت المرئية أم المسموعة أم المقروءة يرى فيها مدى الانحطاط والفجور، كونها لا تخلو في الغالب من استغلال لجسد المرأة استغلالاً سلبياً للترويج للبضائع المختلفة، وقد ارتقت الشريعة بالإنسان ارتقاء فاضلاً سواء أكان مسلماً أم كافراً، ذكراً أم أنثى.

وذلك بالتكريم لهم حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(49).

إن استغلال جسد المرأة في الإعلانات التجارية المختلفة من شأنه أن ينزل بها من تلك المرتبة التي وضعها فيها الإسلام من التشريف والتكريم، وكان المصمم لذلك الإعلان يفضل ذلك المنتج المُعلن عنه على المرأة، كونه استخدم المرأة كوسيلة من أجل تحقيق هدف من الأهداف ألا وهو الترويج لتلك السلعة.

فترى من يأمر بتصميم الإعلانات إذا أراد أن يعلن عن (الملبوسات) كان المرتكز على المرأة بإظهار مفاتنها وزينتها، وإذا أراد أن يعلن عن (البراهم وشامبو الشعر) تجد ميدان الإعلان مليئاً بالكاسيات العاريات، وإن نظرت للذهب للعطور أو المشروبات الغازية حتى الأحذية وجدت نفس الصورة، وكأنه لا يمكن لأي تاجر أن ينفق أي سلعة له إلا من خلال إظهار المفاتن!.

وإن هذه الصور لهي صورة غريبة عن المجتمعات العربية والإسلامية والتي اشتهرت على مدار العصور والقرون بالحشمة فكانت من العادات والتقاليد الأصلية في هذه المجتمعات العفة وحسن الخلق.

وكما أن هذا الفعل من شأنه أن ينقص من كرامة المرأة أو الإنسان، كذلك من شأنه أن يشيع الفاحشة في المجتمع المسلم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(50).

وإن الخضوع في القول من شأنه أن يثير الغرائز والشهوات فما بالك في التبرج والسفور؟! قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى...}(51).

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(52).

4- ألا يكون في إعلانه ذم لسلع الآخرين وخدماتهم:

إن من الأخلاق التي دعا إليها الإسلام وشجع على إيجادها الإيثار، قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(53).

فتقديم الغير على النفس هو من الأشياء المحمودة والمراتب العليا، والتي لا بد وأن يسعى إليها الإنسان.

كما شجعت الشريعة على: الترابط والتكافل وحب الخير للآخرين كما نحبه لأنفسنا فعن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال بجاره ما يحب لنفسه"(54).

فمن هذا يتبين: أن الشريعة جاءت بالحب والإيثار؛ لما يترتب عليهما من الترابط والتلاحم بين أفراد المجتمع الواحد.

إن التنافس في الشريعة الإسلامية هو شيء محمود وغير مذموم، ولكن هذا التنافس لا بد وأن يكون وفق منظومة صحيحة مستمدة من الشريعة الإسلامية.

ولكن من ينظر إلى وسائل الإعلان المختلفة يرى: أن كثيراً من تلك الإعلانات قد خرج عن هذا الخلق، فلا يكاد التاجر يعرض بضاعته حتى ينعتها بمواصفات يبين من خلالها بأنها الأحسن أو الأفضل أو الأقوى.

فمثلاً: إذا عرض لمسحوق غسيل أظهر مسحوقين، مسحوقه وآخر؛ ليظهر أن مسحوقه هو الأقوى، ينظف وبأقل التكاليف، في حين يظهر الآخر بأنه مع استخدامه إلا أن البقع قد بقيت كما هي، أو خفت شيئاً يسيراً، وذلك مما يتنافى مع ما ذكرناه من الإيثار، وحب الخير للآخرين.

ونجد مثل هذه الأمثلة في: منظفات الجلي والشامبو ومنظفات الأرضيات والحمامات حتى في قاتل الصراصير والذباب وحتى في الأحذية كذلك...

وهذا الأسلوب من أساليب عدم الإيثار وحب الخير للآخرين لذا فيه إضرار بالآخرين، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"(55).

وكان الأولى لذلك التاجر أو المُعلِن عن تلك البضاعة أن يظهر ما في سلعته من محاسن دون إجراء مقارنة مع بضائع الآخرين؛ كي لا ينطبق عليه ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَبِيع بعضكم على بيع أخيه"(55).

5- تجنب الإعلانات التي تتعارض وعقيدة الأمة الإسلامية:

أرسل الله تعالى رسله وأنزل كتبه؛ لترسيخ العقيدة في نفوس المسلمين، وبذلك يكون كل ما من شأنه أن يؤثر على عقيدة المسلم لا يجوز نشره والإعلان عنه.

مثل: الإعلان عن محاضرة تدعو إلى مخالفات شرعية أو شركيات، أو لقاءات شعرية فيها تعدي على: ديننا وقرآننا ومعتقداتنا، أو البرامج التي تبث أحياناً أو تنشر على صفحات الجرائد والمجلات وتتحدث عن الأبراج وما فيها من مخالفات شرعية واضحة، أو عمل إعلان لمنجمين وفتاحين وسحرة وغير ذلك.

6- أّلا تكون الإعلانات باهظة التكاليف:

الناظر إلى واقع الإعلانات في عصرنا يجد أنها تخرج بأشكال وصور مختلفة، ويجد المتبصر والمتفحص فيها كم هي تكاليف تلك الإعلانات! والتي فيها نوع من الإسراف والتبذير.(وقد جاء الإسلام لينهانا عن ذلك فقال الله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(57).

وقال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(58).

وقد يقول قائل صحيح أن التاجر ينفق على إعلان بضاعته لكنه يعوض ذلك بكمية البيع والربح، فنقول: إن التاجر اليوم يفعل ذلك ويدفع المال الطائل على الإعلانات وللأسف يكون ذلك المال على المستهلك وذلك بالزيادة في سعر المنتج؛ مما يزيد من الأعباء على كاهل المستهلك؛ لذلك كان من الواجب الاقتصاد في الإعلانات بما يحصل فيه التعريف بالسلعة دون أن يجر ذلك إلى رفع أسعارها.

الخاتمة:

تشتمل على أهم النتائج والتوصيات التي تم التوصل إليها:

أولاً النتائج:

توصل البحث إلى العديد من النتائج من أهمها:

1- الفقه الإسلامي كان له السبق في ضبط الأنشطة الإعلانية، وتبين ذلك من الأدلة التي سقناها في البحث.

2- حكم الإعلانات يأخذ حكم الوسائل المستخدمة في ذلك، فإن كانت الوسائل مشروعة؛ كانت الإعلانات مشروعة، وإن كانت الوسائل محرمة؛ كانت الإعلانات محرمة؛ وإن كان فيها شبهة؛ كان الحكم فيها فيه موضع الشبهة كذلك.

3- أصبحت الإعلانات التجارية في العصر الحديث من الأشياء التي لا يمكن أن يستغني عنها التاجر أو المشتري؛ لكثرة البضائع وتشابهها؛ لذا كان لا بد من التمييز بينها عن طريق عرض الإعلانات.

4- تتمثل ضوابط الإعلانات فيما يلي: الصدق، عدم الإعلان عن المحرمات، ألا يكون في الإعلان ما يثير الغرائز والشهوات، ألا يكون في الإعلان ذم لسلع الآخرين وخدماتهم، كما لا بد من تجنب الإعلانات التي تتعارض وعقيدة الأمة الإسلامية، وألا تكون الإعلانات باهظة التكاليف.

ثانياً التوصيات:

توصل البحث إلى العديد من التوصيات، من أهمها:

1- وضع قوانين وأنظمة منظمة للإعلانات التجارية وفق ضوابط شرعية محددة لا يمكن تجاوزها، حيث تظهر للعيان المخالفات الشرعية واضحة في الإعلانات المعروضة في الوسائل المختلفة.

2- من أكثر الوسائل المستخدمة في ترويج الإعلانات التجارية هو (المرأة)؛ لذا كان من اللازم إصدار قانون من شأنه أن يمنع ذلك.

3- ضرورة إيجاد بدائل للشركات الإعلانية المخالفة للشريعة، وذلك بإيجاد أو المساعدة على إيجاد شركات إعلانية إسلامية تلتزم بالضوابط الشرعية، أو تعيين مستشارين شرعيين في الشركات الإعلانية القائمة.

وفي الختام:

نسأل الله سبحانه وتعالى: أن يتقبل منا هذا الجهد المتواضع، الذي بذلنا فيه وسعنا لإنجازه، راجين أن نكون قد وفقنا فيه حتى خرج على هذه الصورة، فإن كان صواباً فمن الله وحده، فالكمال المطلق له، وإن كان من خطأ فمن أنفسنا ومن الشيطان.

راجين المولي عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعله في ميزان حسناتنا يوم القيامة إنه سميع مجيب.

____________________

  1. جماعة من كبار اللغويين العرب: المعجم العربي الأساسي، ص 862.
  2. ابن فارس: معجم المقاييس في اللغة، ص 689.
  3. الزمخشري: أساس البلاغة، ص 518.
  4. مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، 2/ 631.
  5. مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، 2/ 630.
  6. المرجع السابق.
  7. المرجع السابق.
  8. الموسوعة الفقهية الكويتية، 5/ 261.
  9. المعجم العربي الأساسي، ص 862.
  10. سلامة: فن الإعلان الإذاعي www.k128.com/books/showbook.php
  11. عيساوي: الإعلان من منظور إسلامي www.islamweb.net/newlibrary/display-ummu.php
  12. الفيومي: المصباح المنير، ص 230.
  13. الموسوعة الفقهية الكويتية، 5/ 261.
  14. إعلان: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة http: //ar.wikipedia.org/wiki
  15. عيساوي: الإعلان من منظور إسلامي www.islamweb.net/newlibrary/display-ummu.php
  16. سورة الأعراف، من الآية 32.
  17. عزام: القواعد الفقهية، ص 109.
  18. سورة البقرة: من الآية 275.
  19. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 2/ 306.
  20. ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، 4/ 357.
  21. الصبرة: الكومة المجموعة من الطعام، سميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض، النووي: شرح صحيح مسلم، 2/ 109.
  22. مسلم: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب من غش فليس منا، ص 97 رقم (102).
  23. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 352.
  24. ابن عاشور: التحرير والتنوير، 11/ 228.
  25. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 9/ 253، ابن عاشور: التحرير والتنوير، 11/ 228.
  26. الصلاحين: الإعلانات التجارية، أحكامها وضوابطها في الفقه الإسلامي، ص 35.
  27. سورة الحج: من الآية 78.
  28. البخاري: صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب السواك يوم الجمعة، 2/ 5، مسلم: صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب السواك، ص 195، رقم (252)، واللفظ للبخاري.
  29. البخاري: صحيح البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب في آنية الذهب، 7/ 146.
  30. مسلم: صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامها، ص 902، رقم (2021).
  31. الرازي: مختار الصحاح، ص 211، الفيومي: المصباح المنير، ص 213.
  32. الزمخشري: أساس البلاغة، ص 440.
  33. الرازي: مختار الصحاح، ص 211.
  34. يعقوب الباحسين: القواعد الفقهية، ص 58 - 67، نقلاً عن المصلح: الحوافز التجارية التسويقية، ص 13.
  35. الترمذي: سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، ص 288، رقم(1209) وقال حديث حسن، وحكم عليه الألباني بأنه ضعيف.
  36. الترمذي: سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار، ص 288، رقم(1210) وقال حديث حسن صحيح، ابن ماجة: سنن ابن ماجة، كتاب التجارات، باب التوقي في التجارة، ص 30، رقم (2146)، وقال عنه الألباني: حديث صحيح.
  37. البخاري: صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكنما ونصحا، 3/ 67، مسلم: صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان، ص 647، رقم (1532).
  38. سبق تخريجه.
  39. مسلم: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، ص 84، رقم (56).
  40. الغزالي: إحياء علوم الدين، 2/ 69.
  41. أحمد: مسند الإمام أحمد، باب: حديث واثلة بن الأسقع من الشاميين رضي الله عنه، 394/25، رقم (16013) وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد.
  42. الخن وآخرون: الفقه المنهجي، 3/ 22.
  43. أي كسبه وأجرة ما قام به من عمل، الخن وآخرون: الفقه المنهجي، 3/ 22.
  44. بالضمان: أي يستحقها ويملكها من كان ضامناً للسلعة حين حصلت، الخن وآخرون: الفقه المنهجي، 3/ 22.
  45. أحمد: مسند الإمام أحمد، حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، 41/ 59، رقم (24514)، الترمذي: سنن الترمذي، كناب البيوع، باب في من اشترى عبداً فاستعمله ثم وجد به عيباً، ص 305، رقم (1285)، وقال حديث حسن صحيح، وحكم عليه الألباني بأنه حسن، واللفظ لأحمد.
  46. سورة الأعراف: من الآية 157.
  47. سورة االمائدة: من الآية 2.
  48. سورة القلم: الآية 4.
  49. سورة الإسراء: الآية 70.
  50. سورة النور: الآية 19.
  51. سورة الأحزاب: الآية 32 - 33.
  52. سورة الأحزاب: الآية 59.
  53. سورة الحشر: من الآية 9.
  54. البخاري: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، 10/1، مسلم: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، ص 80، رقم (459) واللفظ لمسلم.
  55. مالك: موطأ مالك، كتاب الأقضية، باب القضاء في المَرْفِق، ص 435، رقم (1424)، ابن ماجه: سنن ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، ص 400، رقم (2340)، وقال عنه الألباني حديث صحيح.
  56. البخاري: صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب لا يبيع على بيع أخيه، 3/ 90، مسلم: صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، ص 605، رقم (1412).
  57. سورة المائدة: من الآية 31، وسورة الأنعام: من الآية 141.
  58. سورة الإسراء: الآية 27، 26.