هل يُخَلِّد الرحيمُ في النار عبداً!
8 محرم 1440
إبراهيم الأزرق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فقد وجدت بعض المشَكَّكِين في الدين يتساءل: الله رحمن رحيم فكيف يقال ذلك مع ما يقرر في القرآن من خلود الكافر في النار؟ وهل يتفق ذلك مع صفة الرحمة! بل كيف تكون الرحمة مع ما نشاهده في الدنيا من الآلام؟! ولماذا نخفف المصاب وقد رضيها له الرحمن!

وجواب الأخير أن تعلم أن الله تعالى رحيم حكيم، يضع رحمته مواضعها ويرفع بحكمته منها شيئاً عن بعض خلقه في الدنيا ليتم قصد الاختبار والابتلاء الذي من أجله أوجد البشرية.. وله سبحانه مع ذلك علوم وحكم أخرى نجهلها، ثم هو مع ذلك يعوض المصاب أضعافاًإن عمل بطاعة الله تعالى حال مصابه، فرضي بحكمه أو صبر عليه، فتكون المصيبة سبب رحمة له أعظم! وقد جاء في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه -وجاء عن غيره وجاء مرفوعاً- قوله: "يود أهل البلاء يوم القيامة حين يعاينون الثواب لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض"! هذا مع ما يكتنف المصاب من رحمات حال مصابه لو تدبر! ومن ذلك أمره لك بالرحمة والإحسان إلى من افتقر إلى رحمتك وإحسانك!

ولاينافي ما تقدم أن ترحم أنت برحمة الله تعالى من يستحق الرحمة فذلك فرضك، ولست مكلفاً بما طوي في الغيب من أمر العاقبة ولا أن تحيط بحكمة القدر فذلك سر الله في خلقه. والمهم أن تعلم أن جهلك لا يسوغ لك الطعن في ما لم تحط بعاقبته وأسراره علماً، ما دام أنه قد جاء من حكيم عليم! يضع الأمور مواضعها، ولو كانت للناس قُدَرٌ تنكشف لهم بها أسرار القدر وترتفع لهم بها سجف الغيب لرأوا أعاجيب، ولكنه ابتلاء الإيمان!

يقرب لك ذلك خبر يروى عن بعض بني إسرائيل وهو أن بعض أنبياء الله تعالى كان مشرفاً من ناحية جبلٍ على فلاة، وفي تلك الفلاة عين ماء، فجاء فارس وبين يديه بَدْرَة (كيس كبير يجعل فيه المال الكثير)، فلما انتهى إلى العين نزل فشرب من الماء وسقى فرسه، ثم مضى وقد نسي الكيس مكانه! فلمّا ذهب، أقبل راع بغنم يسقيها، فسقاها ووجد الكيس فأخذه! ومضى، ثم بعد مدة أقبل رجل عابر سبيل، فلما انتهى إلى العين شرب وجلس يستريح، فما لبث أن رجع الفارس وقد تذكر كيسه الذي نسيه! فلما رأى الرجل لم يشك أن الكيس معه فطالبه به، فأخبره أنه لم ير شيئاً! فسلّ السيف يحذره ويوعده ولم يزل ذلك ينكر حتى أضجره! فهجم عليه الفارس وقتله! فاشتغل فكر ذلك النبي بما رأى: فاز الراعي بالبدرة وما فيها! وقتل هذا البريء بغير جرم، وخسر الفارس ماله! فأوحى الله تعالى إليه: "مالك والفكرة في أحكامي وتدبيري وتقديري! هذه البدرة كانت وديعةً لوالد هذا الراعي عند والد ذلك الفارس، وماتا ولم يعلم الراعي ما كان لأبيه عند والد الفارس، ولا علم الفارس أن المال ليس له من أبيه، فقد رددت الحق على صاحبه بقدرتي ورأفتي، وإن هذا الرجل العابر كان قد قتل والد ذاك الفارس! فأنصفته منه وأخذت بثأره على يد وليّه"! والمقصود من الخبر أن تعلم أن الله أعلم، وأن له في أقداره حكم، وله في ثناياها ألطاف، وله بعد ذلك في الآخرة مجازاة ومكافآت وعواقب تظهر بها حكمته في أقداره المؤلمة وكذلك أقداره المسعدة.. نحن لجهلنا بكثير من الحيثيات قد لا ندرك حقيقتها فنعجب! والمهم أن لا نطعن بالجهل في قدر الحكيم الخبير، وأن نؤمن بأنه لم يخلق شراً محضاً، ولم يقض مكروها إلاّ لحكمة اقتضته.

وحرف المسألة أن الشر الكائن له أسباب وحكم، لا يصح الاعتراض ممن لم يطلع عليها! فالجهل لا يصلح أن يكون سبباً للطعن!

وأما كون ذلك لايكون رحمة على المقضي عليه فنعم! ومن ذلك تخليد الكافر في النار، وهو أصل السؤال، فمن قال: إنّ من رحمة الله تعالى تخليده الكافر في النار؟! كلا! بل ذلك مقتضى غضبه وسخطه وقهره وجبروته عز وجلَّ!

والله تعالى كما أنه الرحيم الرحمن، فهو القهار الجبار شديد العذاب، وكما أنه يحب ويرضى فإنه تعالى يغضب ويسخط، وهو شديد المحال، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) [الحجر]، ولكل ذلك مواضعه الجارية على مقتضى الحكمة، فهو يرحم من العصاة من كان أهلاً لرحمته وفق حكمته، ويعذب من شاء بعدله وكل ذلك لحكمة وإن جهلناها.

فتعذيبه الكافر وهو مقتضى صفاته التي ذكرتُ ونحوها لا مقتضى الرحمة، ولا ينافي ذلك كونه رحمناً رحيما.

ولا يمنع أن يكون الشخص متصفاً بالرحمة ومتصفاً بشدة العذاب والبأس.. وفي نفسك أنت عبرة! فأنت ترضى وتغضب، وتعاقب وتثيب، ترحم وتؤاخذ، ولا تنافي بين ذلك إذا أنزلت كل ذلك موضعه! لكن الكمال هو أن يغلب عليك جانب الرحمة، وأن تكون مؤاخذتك وعقوبتك لسبب وحكمة، وبضد الكمال أن تكون رقيق القلب رحيماً خوّاراً ضعيفاً ترحم من لا يستحق الرحمة من المتجبرين والمجرمين العتاة! أو أن تكون قاسياً شديداً عنيفاً لا ترحم أحداً!

والله تعالى متصف بالكمال سبقت رحمته غضبه، فهو يرحم من يستحق الرحمة، ويمهل وينعم ويتفضل ويحلم كثيراً، أنزل من رحمته جزءاً يتراحم به الناس مسلمهم وكافرهم في الدنيا، في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه).

لكنه عز وجل أيضاً يغضب ويؤاخذ ويعاقب من يستحق العقاب من المجرمين، وقد قال الله تعالى في الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [العنكبوت: 23]، وقال قبلها: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)، وقال: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران: 74]، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 147].

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن عذابه شديد، وأنه أعده للكافرين، وذلك عدل منه سبحانه كما تقدم، ولئن كنت تقر بأن من العدل قتل قاتل متوحش قَرَّض ألفاً من الناس بالمقاريض أو حرَّقهم بالنار، وأن رحمته ضعف في العقل وخور، فقد أثبت أن من الجرائم ما حقه العقاب الأليم، وأن ذلك لا ينافي الاتصاف بالرحمة تفضلاً وإحساناً أو عدلاً مع من يستحقها.

وإذا ثبت الأصل فإن جرم الكفر بالله العظيم الذي ما خلق العبد إلاّ ليوحده أشد من كل جرم، ولذلك كانت عقوبته النار خالداً مخلداً فيها عدلاً من الله تعالى، وقد كتبت مقالة قبل هذه تبين أن العدل لا ينافي تخليد الكافر في النار فلتنظر، فإن غرض هذه المقالة بيان أن التعذيب في الجملة مؤاخذة بالجريرة لا ينافي الاتصاف بالرحمة، وقد حصل بيانه،ومن أيقن بأن الله تبارك وتعالى أعلم وأحكم، انقشعت عنه شبه كثيرة، والحمد لله رب العالمين.