الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فبعض المشككين في الدين يقولون: إذا كان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فما ذنب الكافر! يريدون بل يصرحون بأن مؤاخذته ظلم! وغرضهم هو تشكيك المؤمنين في الدين، فكثير ممن يثيرون هذه الشبهات لا يؤمنون برب ولا دين أصلاً!
أما أهل الشرائع الربانية، فكفرق المسلمين أجابوا على هذا التشكيك بأجوبة شتى، اعتقد كل فريق منهم جواباً، ورأوا المصير إليه ولم يروه محتملا التشكيك في أصل الدين الثبات بالأدلة القطعية!
فمنهم من قال الخلْقُ خلقه والملك ملكه والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، فلو كُنتَ زرعت زرعاً لم يرقك! ثم قررت إحراقه فليس لأحد أن يعارضك في حقك! وهؤلاء في أهل الإسلام هم القدرية المثبتة، أو الجهمية المجبرة.
ومنهم من قال هو غير خالق لأفعال العباد، والعباد يأتون ما يأتون بمحض مشيئتهم وإرادتهم ومؤاخذة الله لهم بما كسبت أيديهم، وما جنوه بمخالفتهم لأمره وعصيانه لمشيئته وخروجهم عن دلائل العقل، وهؤلاء في المنتسبين إلى أهل الإسلام هم القدرية النُّفاة.
فهاتان طريقتان قال بهما بعض الإسلاميين في جواب هذا الإشكال، ولا شك أن سلوكهما على ما فيهما خير وأقرب إلى العقل من الإلحاد بتعطيل الخالق!
أما الحق الذي عليه أهل السنة فهو أن الله تعالى خالق لأفعال العباد، وأن مشيئته نافذة، وهو مع ذلك حكم عدل لا يؤاخذ بغير جريرة، ومن آمن بمراتب القدر على ما يقرره أهل السنة انكشف له جواب الإشكال مع إثباته لله الكمال، وكان قائلاً بمقتضى جميع النصوص الشرعية.
وبيان ذلك أن مراتب القدر عند أهل السنة أربع:
1.الإيمان بعلم الله تعالى، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14]، بلى! فالله هو علاّم الغيوب، وأدلة علمه تعالى متظاهرة من الكتاب والسنة والمعقول، ولهذا قال من قال من السلف: ناظروهم بالعلم –يعني نفاة القدر- فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا! لو صنعت آلة وضغطت على زر التشغيل علمت ما يمكنها فعله فكيف بالخالق العظيم! وما في الموجودات من إحكام وإتقان يشهد بأن خالقها عليم حكيم، لايمكن صدورها عمن ضعف علمه أو قلت حكمته.
2.الإيمان بكتابة ذلك، كما أخبر الله تعالى في نحو قوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].
3.الإيمان بمشيئة الله عز وجل النافذة في خلقه، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال موسى كما قص الله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) [الأعراف: 155]، (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الإنسان: 30]، وفي سورة التكوير: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، فأثبت للمكلفين مشيئة، وبين أنها داخلة تحت مشيئة الله.
4.الإيمان بخلق الله تعالى للعباد ولأفعالهم في آونتها، كما قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات: 96]، فلو لم يمد الله العامل بالحياة والقدرة وتيسير الأمور واجتماع الأسباب لما أنتج عمله بل لما عمل.
ومن آمن بهذه المراتب زال عنه إشكال الجبر، وإشكال الظلم، وإشكال استبداد الخليقة بمشيئتها، فللمكلف مشيئة وله اختيار قد علم الله عز وجل ذلك منه بسابق علمه، فشاءه وكتبه –ولو لم يشأه لم يكن- فالله تعالى في مشيئته غير ظالم بل عالم بالاختيار وما يناسب صاحبه ويستحقه، ثم خلقه ومده -بحكمته وعدله- بما يلائم اختياره وإرادته، وإن خالفت تلك الإرادة إرادة الله الشرعية التي جاءت ببيانها الرسل، لكنها وافقت إرادته الكونية المرادفة لمعنى المشيئة النافذة، فكان ما شاءه الله تعالى، واختارَه عبدُه وإن خالف إرادة الله الشرعية، ومن تمام عدله أن جعل الحساب بعد ذلك –بعد عمل المكلف- لا بما ثبت في سابق علمه، حتى تنقطع الحجة.
فإن قلت هو قدَّر ذلك في الأزل قلنا: نعم قدره بعلمه، وإن قلت ما ذنب الذين كفروا! قلنا ذنبهم أنهم كفروا بمشيئتهم واختيارهم لم يجبرهم على الكفر أحد، ولم يظلمهم من علم حالهم وما يستحقون فقدر ذلك عليهم! ثم تفضل فلم يعذبهم إلاّ بعد بعث النذر إليهم، واختيار الكافرين لعصيانهم: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15]، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) [الكهف: 29]، قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد]، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان].
بل من آمن بالقدر على طريقة أهل السنة علم مع عدل الله، رحمَتَه وإحسانَه إلى خلقه مسلمهم وكافرهم! أما المسلم فقد تداركه بهداية الإرشاد وهداية القلب، فأرسل إليه رسولاً ثم وفقه لاتباع الرسول، ولم يكن إرسال الرسل عليه واجب سبحانه، فالعباد بمقتضى الفطرة والعقل قائمة عليهم الحجة، لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن أوجب على نفسه ألا يعذب أحداً قبل بعثة الرسل، وأن يثيب الممتثل المؤدِّي لواجب العبودية!
ومن تمام عدله إمهاله الكافر وإقامته الحجج عليه من نفسه، إذ لم يؤاخذه بسابق علمه، بل أكرمه ونعَّمه، ومدَّه بالحياة والقوة، ومتَّعه في الدنيا بما سخر له من النِّعم، وهو مقيم على معصيته، ومخالفة أمره، والله قادر على أن يأخذه في طرفة!
فالقضية ليست قضية وجود محظوظين اعتباطاً! ومعذبين اعتسافاً! تعالى الله الحكيم العليم عن العبث!
وبما تقدم من جواب تظهر رحمة الله ويظهر عدله، وتظهر حكمته، فرحمته رحمة حكيم؛ يضع الأمور مواضعها، يرحم بفضله من يستحق الفضل، ولا يرحم من لا يستحق الرحمة، لكنه يعدل معه فيمهله ويرسل إليه النذر كونيةً بما يخلقه فيه من أطوار ضعف وكبر ومرض أو آفات وحوادث تدعوه للمراجعة، وكذلك شرعيةً تقيم عليه حجج الرسل، فلله الحجة البالغة، والحكمة الظاهرة، والرحمة الواسعة، والعدل التام، والفضل العظيم.