- استيقظت قبيل الفجر وإذا برسالة واتصال من أخي وصديقي ؛ لقد توفي والدي رحمه الله قبل قليل، ضجت وسائل الإعلام (مات شيخ الحرم).
- توجهت بعد طلوع الشمس إلى مغسلة الأموات، وتدور في ذهني أجمل السير والذكريات، تسابقني قدمي وتختلج الذكريات والعبرات في عيوني وخيالي، وصلت وإذا بأولاد الشيخ وبعض طلابه الأوفياء البررة أمامي، انتظرنا قليلاً حتى أذن لنا بالدخول عليه، للسلام عليه وتوديعه، فقبلت رأسه وجبينه الطاهر الزاكي.
دهى القلب أحزان على العالم الحبر
تعجل للرحمن في ليلة العشر
- ودّع الحرم و مكة.. لا بل ودع العالم اليوم عالماً من علمائه وفقيهاً من فقهائه
العالم المبجل والقاضي الفقيه والمفسر الفرضي. الشيخ عبدالرحمن العجلان..
كأنّ بني عجلان يوم وفاته
نجومُ سماء خر ّمن بينها البدر
- تسابق الناس من مكي وآفاقي، ازدلف الناس من بدو ومن حضر.
توجهوا إلى المسجد الحرام ليودعوا الشيخ، انسكبت العبرات، حزنت القلوب، وإنا على فراقه لمحزونون، اجتمع الطلاب لتوديع شيخهم في أسمى وأوفى حب وبر ووداع.
- قدم العلماء وأئمة الحرم والدعاة وطلابه ومحبيه والكبار والصغار لتوديع العالم الجليل والفقيه العابد، وكتبت في سيرته المقالات، وقيلت في رحيله الأشعار والأبيات.
فلتَبك جدرانُ بيت اللهِ مَجْلِسه
الزاهـــدُ العــابدُ المخمـومُ عَجــلانُ
أسقى بعلمٍ لهُ، الأَسماعَ في حَرمٍ
وسالَ مِن فضلهِ في الخَلقِ ريانُ
مضى فقيدُ الحجازِ صَوبَ بارئهِ
واهتزَّ من بعدهِ في القَلبِ أركانُ
لمثــلهِ تَغـــرقُ الأجفــانُ دامِـعة
ويصدَع الأمرُ بينَ النــاسِ والشَّـانُ
دها المَسامِعَ موتُ الشيخ وآأسفاً
عليــهِ مِن ربِّنــا فَيـــضٌ وغُفــــرانُ
- ها هو المسجد الحرام يودعه بعد ملازمة دامت ٣٥ سنة..!!
- ها هي جنبات المسجد الحرام وأروقته تفقد صوته !!
- سيفقد الطلاب شيخهم وأستاذهم بعد ٣٥عاماً، أي فقد أعظم..!!
- صبراً صبراً فقدوا جسده وروحه ولكن لم يفقدوا علمه وتوجيهه..
وهكذا أهل العلم يبقى ذكرهم مادام علمهم في العالمين يذاع وينشر.
دفناه لكن القلوب ضريحه
يقيم بها حباً إلى أبد الدهر
يقيم بها علماً وبراً وحكمة
ودرساً ببيت الله يلهج بالذكر
أيا رب فاجعل قبره روض جنة
لشيخ التقى العجلان أُنساً إلى الحشر 1
- دخلت عصر هذا اليوم إلى المسجد الحرام وإذا أحد العمال دعاني ومعه مجموعة من العمال ينظرون إلى صورة الشيخ في جوالاتهم ويقولون هذا الشيخ مات اليوم فقلت نعم فجلسوا متأثرين يدعون له.
- ها هم الناس يتناقلون علمه وينشرون ميراثه.. لم يمت ذكر من خلف علماً وميراث النبوة، والذكر بعد الموت ذكر ثاني.
لعمرك ما الرزية فقد مال
ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم
يمــوت بموته بشـر كثـيـر
- نقف سوياً على شذرات من عبق سيرته وجمال مسيرته، ليهتدي الجيل مسيرته من تلك السيرة.
عمله القضائي:
كان قاضياً في الإمارات ومكة والقصيم، متواضعاً حكيماً يغلب الصلح في أحكامه، كان لطيفاً ودوداً رحيماً، بابه مفتوح للناس، على طريقة قضاة السلف والأوائل منهم.
- دخلت عليه إبان رئاسته لمحاكم القصيم وأنا طالب في الكلية للسلام عليه فقام من كرسيه ورحب وهلل، ولم أجد بواباً يمنع من الدخول أو يسأل ماذا تريد أو انتظر!! ثم زرته مرة في مسجده أنا واثنان من زملائي في الكلية فكان أباً مربياً ومعلماً موجهاً غيوراً على دين الله، وكان من أراده يصلي معه المغرب ويستقبل الناس ويقضي حاجاتهم حيث كان يجلس في مسجده بين العشائين تالياً للقرآن، وهكذا ديدنه إن لم يكن عنده درس جلس في مسجده للقرآن، وكنت أمر به للسلام عليه في هذه الأوقات.
- دخل عليه أربعون طالباً من الطلاب المتميزين بالقصيم لزيارته في مكتبه في المحكمة وألقى عليهم بعض التوجيهات، ولكنه لم يغلق باباً، واستقبل المراجعين، وقام بتوقيع أوراقهم، ولم يتعطل العمل، فجمع بين الأمرين.
- كان إذا دخل عليه المتزوج ليختم عقد النكاح له يقوم فيسلم عليه ويبارك له ويدعو.
- تنقل في التدريس في أكثر من مكان ثم صار مفتشاً في المعاهد العلمية في زمن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهم الله ثم قيل له اذهب إلى الإمارات لافتتاح محكمة الفجيرة وتكون إدارياً فيها فذهب وافتتحها ورفض أن يبقى فيها لأنه رفض أن يكون قاضياً ثم عاد مباشرة ثم صدر له أمر من الملك فيصل بافتتاح محكمة عجمان ويكون قاضياً فيها وباشر فيها وعمل فيها من عام 1393هـ حتى 1405 ثم انتقل إلى قضاء مكة، فكان هو الأب والمفتي والداعية والمربي والمعلم والقاضي لأهل عجمان، كان ماء عذباً زلالاً سقى الله به أهلها بالعلم والدعوة والقضاء، غرس في قلوبهم حب الخير والتناصح والتعاون على الخير، فكان غرساً وثمراً طيباً مباركاً، يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، مشاهد في الدنيا، والناس شهداء الله في أرضه، وقدم اليوم ورحل ليرى أثر ذلك الغرس الطيب المبارك عند أكرم الأكرمين ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، والمؤمن كالغيث أينما وقع نفع.
- علمه:
كان متفنناً في العلم على طريقة القدامى من العلماء: فقيهاً من فقهاء الحنابلة وفرضياً ولغوياً ومفسراً وواعظاً، قام بتفسير القرآن مرتين وشرح الكافي لابن قدامة وغيرها من الكتب، تتلمذ على يديه العشرات من طلاب العلم، تميز بالفقه والتفسير والفرائض، جل وقته في مكتبته وبين كتبه، يقصد الناس درسه على مختلف أعمارهم وثقافتهم، لأن درسه يمتاز بسهولة العبارة، ولتخلله الوعظ والنصح والتذكير، ويعطي كثيراً من وقت الدرس للإجابة على أسئلة الناس فإذا انتهى نزل إلى الكعبة وطاف بها.
وكان في أيام مواسم الحج يطيل الجلوس بعد الدرس بعد صلاة العشاء للإجابة على أسئلة الناس، وما يشكل عليهم من المناسك دون ملل أو ضجر، وهكذا العالم يصبر ويتصبر في نفع الناس وتعليمهم.
- مهاراته:
كان حازماً في إدارته وحياته، منظماً في حياته وقتاً وترتيباً، له في حياته قوانين يصير عليها منذ عرف، يعرف ذلك من عاشره وزامله، كان مقتصداً في جميع أمره، بعيداً عن الإسراف.
- علاقاته:
كان محبوباً لدى الجميع ومحل احترام وتقدير من الناس كافة وولاة الأمر، لا يمل حديثه، سليم الصدر، صافي السريرة وحميد السيرة، لا تكاد تسمع منه كلمة تجرح أو تعاب، يتفقد جيرانه وزملاءه وطلاب العلم ويسأل عنهم، نحسبه على خير والتزكية لله، كان يثني على أهل العلم والعلماء والدعاة، ولا يتكلم فيهم، ويقدم النصح والتوجيه لهم بينه وبينهم، ليس أمام الملأ وفي الشاشات وعبر شبكات التواصل.
- كان إذا صلى العيد وبعد الانتهاء من عيده مع أسرته توجه إلى محبيه وزملائه لمعايدتهم في بيوتهم.
فلقد قضى أيامه متواضعاً
ورعاً غيوراً دائم الإحسان
- كان بينه وبين أخيه الشيخ محمد رحمه الله من الود والإجلال والأنس والاحترام ما لا يوصف، فإذا كانا في مجلس واحد كأنه ليس معهما أحد سواهما، يقبلان على بعض بجميل الحديث والذكريات والمناقشات العلمية والقضائية.
- لما توفي الشيخ محمد رحمه الله تحيّر أولاده كيف يخبرونه بوفاة أخيه، وخافوا أن يحصل له شيء من التعب، فما كان منهم إلا أن دخلوا عليه بعد صلاة العشاء وأرادوا أن يخبروه الخبر وشعر أن في الأمر شيء فلما أخبروه الخبر، استرجع وقام صلى ركعتين محتسباً أخاه ورفيق دربه وأنيسه، وقد كتبت ترجمة مختصرة عن الشيخ محمد رحمه الله حين وفاته.
- كان مدرسة في التواضع والزهد، وفياً لمن صادقه وآخاه، يثني على الناس بما فيهم من الخير وينزلهم منازلهم، وهكذا العالم وطالب العلم أنموذج وقدوة في التواضع، يتسلل به إلى القلوب، فيغرس فيها الخير.
- لا يمر أسبوع إلا ويرسل سلامه لي وسؤاله عني ويدعو، وأنا كذلك.
- كان إذا زار المدينة النبوية يزور الشيخ العباد والشيخ عمر فلاته في منازلهم.
- ترافقت مع أحد المشايخ ذات مرة إلى زواج أحد الفضلاء واشترطت عليه أن يعيدني إلى مواقف الحرم، لأننا انطلقنا من الحرم، فلما جلسنا على مائدة العشاء وكان الشيخان: عبدالرحمن ومحمد معنا فقال صاحبنا: أنا أعتذر عن إيصالك، فقلت له: المسلمون على شروطهم، فقلت: يحكم بيننا الشيخ عبدالرحمن فقال يا فلان: مبتسماً: يلزمك الشرط، وإذا لا تستطيع أنا أعيده. فقلت: المسلمون على شروطهم ولا أقبل غير هذا، رحمهم الله جميعاً.
- أعطيته مرة كتاب أحكام السفر ليطلع عليه ويعدل ويضيف عليه ويراجعه، فتفاجأت وإذا به جعله في محرابه يقرأ على الناس منه بعد صلاة العصر.
إن كريم الأصل كالغصن كلما
ازداد من خير تواضع وانحنى
- ورأيته ذات مرة في رؤيا ففسرها بقوله هذه كتبك نقرأها ونتفكه بها ونستفيد منها، لأني رأيته في الرؤيا دخل منزلي وأحضرت له فاكهة.
- دخل مرة في مسجد من المساجد في بريدة ووجد بعض الطلبة، فقال: أين شيخي علي المشيقح، فقالوا له: هناك فذهب ليسلم على شيخه ويتعاهده، وكان معلمه القرآن، إنه وفاء الطالب لشيخه، والوفاء ليس له حد عمري أو منصب وظيفي أو درجة علمية أو زمان أو مكان.
- كان لا يتكلم فيما لا يعنيه أو ما لا يحسنه، وكان قلبه على الناس سليماً، ولسان حاله لسان مقال أبي دجانة رحمهم الله، فقد قال زيد بن أسلم رضي الله عنه: (دخل على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، أما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا).
وما أصيب من أصيب إلا بعكس هذا، قل خيراً تغنم، أو اسكت عن سوء تسْلم، فإذا عرض له في حياته أمر من اللغو أعرض عنه، وأكرم نفسه عنه؛ إذ زمنه عنده ثمين، فلا متسع عنده للغو أو لهو مَهين، فلا يؤذي نفسه وغيره، ويشوش ويشغب على نفسه وغيره في أمر دينه ودنياه وآخرته، فعلى ابن عجلان سوابغ الرحمة والغفران.
- عبادته:
- منذ صغره وقد عهد عنه حب العبادة والتنسك، كثير الذكر لله، مقبلاً على أمر آخرته، تاركاً كثيراً من أمر الدنيا، مستعداً للموت، يغلب الأخذ بالاحتياط في عبادته والعزيمة في أمره حتى في مرضه كان لا يصلي على السرير وإنما ينزل فيصلي على الأرض ليجد لذته وراحته في سجوده على الأرض، كلما مرض تذكر الموت، ولما أصيب بالجلطة وقد زرته في المستشفى كان مصحفه لا يفارقه، ويعظ من حوله ويذكرهم بالله، وكان يقول قد اشتقت إلى لقاء ربي، يلوح للناظر في وجهه نظرة النعيم وأثر العبادة والطاعة، مما يؤثر في نفس كل متأمل.
- معظماً للسنة في أقواله وأفعاله وتعامله وترجيحاته العلمية.
- لم يعرف عنه ترك قيام الليل منذ شبابه حتى في سفره ينزل ويصلي ما كتب له من قيام الليل ثم يواصل سفره.
- قيامه لليل كان عجباً عجاباً من طول قيامه، ولما نزل به المرض في أول الأمر زاد قيامه لليل حتى يبلغ في بعض الليالي أربع ساعات.
- صيامه كان يكثر من الصيام ومنذ عام واحد وعشرين لما قدم مكة صار يصوم يوماً ويفطر يوماً وجلس على هذه الحال قرابة ١٥ سنة، فلما مرض صار يصوم الاثنين والخميس وأيام البيض.
- قراءته للقرآن يختم كل ثلاث وتقول إحدى زوجته يختم تارة في يومين وتارة في يوم ونصف، ولما اشتد به المرض تفرغ لقراءة القرآن فكان جل وقته يقرأ القرآن، لا يكاد يتكلم من المرض، وإذا قرأ انطلق لسانه بالقرآن كأن لم يكن به مرض وألم.
- لم ير إلا مصلياً في الصف الأول يكبر تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام، ولم يترك الحج قط، ولسان حاله كمقال ابن المسيب رحمه الله لما حضرته الوفاة قال يا أبنائي لا تبكون علي فو الله ما فاتتني تكبيرة الإحرام منذ أربعين سنة، وما رأيت ظهر مصل قط، يعني في الصف الأول، وفي الحديث: (من أدرك مع الإمام تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان، براءة من النار وبراءة من النفاق).
- كان إذا خرج من منزله صلى ركعتين، لما ورد في الحديث: (إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين يمنعانك من مخرج السوء..) رواه البزار وغيره.
- مع طول قيامه في صلاة الليل إلا أنه لا يترك جلسة الإشراق ، والصلاة بعدها إلا نادراً.
وهذه الهمم اللاتي متى خطبت
تعثرت خلفها الأشعار والخطب
- محباً لمكة والحرم، معظماً له، كان يتردد كثيراً من القصيم إلى مكة، كان سبب تقاعده رغبة في انتقاله لمكة ومجاورة بيته الحرام، لا يحب الخروج من مكة حتى لا تفوته الأجور ولا ينقطع عن الدروس.
- دينه وإيمانه أعظم ما يملك مهما كانت الخسارة من أمر الدنيا، يفر بدينه وإيمانه من كل ما يكدره، ويعتذر بكل هدوء وحكمة (كل يغدو فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها).
ونرجو أن ينال به جناناً
وخلداً في نعيم مستطيب
وهذا توفيق من الله مع بذل السبب والمجاهدة، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، ومن كان مع الله كان الله معه، توفيقاً وتسديداً وتأييداً.
ولقد اشتهر في كلام السلف: (جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي).
ويقول الآخر: (كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة!! ثم تلذذت به عشرين سنة). وقد قيل: (من أطاع الله في السر، أصلح الله قلبه شاء أم أبى)، وقيل: (أفضل الأعمال ما أُكرهت إليه النفوس).نسأل الله الكريم من فضله.
إنهم قوم باعوا نفوسهم على الله، واشتروا الدار الآخرة، نفوس قدمت الأعلى على الأدنى، والنفيس على الخسيس والرخيص، اشترت ما عند الله: (ولدار الآخرة خير وأبقى).
ومن الحزم ترويض النفس على الخير حتى تعتاده وتألفه، ومن الحزم منع النفس هواها وعدم الرضا بالدون دون علاها وما يزكيها، والنفس إذا أعطيتها كل ما اشتهت وبررت لها الخسيس والرخص لن تقف عند أحد حتى تجد أنها بعدت وشطت عن الطريق القويم.
إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت
ولم ينهَها تاقت إلى كل مطلب
- جهوده وأعماله:
كان محباً للفقراء والمساكين، ينفق كثيراً من ماله في إطعام الفقراء والمساكين، يوزع يومياً مكافأة مالية إكراماً لطلابه وحباً لهم وكذلك السلات الغذائية، ومن أغلى ما عنده طلابه، يتفقدهم ويسأل عنهم ويقضي حاجاتهم حتى في شدة مرضه وانقطاعه عن الدرس مازال يتعاهد الطلبة، ينصر المظلوم، ويقف معه بالشفاعة له، ممتثلاً (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، في مرة من المرات وفي المسجد الحرام وفي وقت غسيل الكعبة قام أحد الأخوة بالتكلم في بعض الأمر من غير حكمة وتم أخذه للمسائلة، فما كان من الشيخ إلا أن وصل إلى بيته فاتصل بالجهة المعنية وتم إطلاقه مباشرة، كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بالحكمة، أوتي الحكمة وحسن التصرف واحتواء المواقف، (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)، وهكذا العالم وطالب العلم يكون حكيماً في تصرفاته، وقد أوقف كل ماله في سبيل الخير.
- محباً للعلم وأهله لا ينزل بلداً ويحل به إلا ودروسه حاضرة بكل نشاط وحيوية دون كسل وعجز وملل، يعيش العلم مع روحه ودمه، هو روحه وغداؤه، وطعامه وشرابه، حتى لما اشتد مرضه لم يتوقف درسه، وكان يُنصح ألا ينزل الحرم فكان يصر على رأيه ويلقي درسه بصوت متقطع، وهمته العالية، وثباته على مبدأ الاستمرار، كان لا يأخذ إجازة عن درس الحرم حتى يوم العيد، يقول الطلبة في انتظاري، فكان يغيب فقط يوم عرفة وأيام التشريق، كان له درس في بيته لأهل بيته وأحفاده، والجود بالعلم من أعظم الجود.
بحرٌ من الجود فياضٌ يموجُ بنا
والناسُ تغرفُ منه وهو مليان
- لما مرض وصار يتعبه الصيام والنزول إلى الحرم، جعل له درساً في الحرم ودرساً في مسجد بجواره حتى لا ينقطع عن دروسه.
- كان إذا جاء وقت الحج وشدة الزحام وصعوبة النزول إلى الحرم ومنع السيارات للدخول إلى الحرم فيقال له قد أُقفلت الشوارع فيقول: نذهب حتى نمنع فإذا وصل ومنع، قال: الآن منعنا، ونرجع ويكتب لنا الأجر بإذن الله، ويقول: ما يهنأ لي الأمر حتى يقال لي ارجع. أثبت لأجره، وأعذر له عند الله، فعلى ابن عجلان سوابغ الرحمة والغفران، همة ما أعظمها وأسماها وأسناها، لقد أتعب من بعده.
أيها العلماء والدعاة والجيل :
- سير الرجال مدارس الرجال، همة سامية وعزيمة ماضية، ونية بإذن الله صادقة صافية، في سير الرجال تربية وتزكية وشحذ للهمم، ومصنع لتجارب الكبار، والعلم ليس منتهى كل شيء أيها الجيل فافهم وعه، وتأمل وتدبر حتى لا تضع دنياك وأخراك، وسر إلى الله في حسن سير ومسير وإقبال، فكثير من تلك الصراعات والمناكفات والبغي والبحث عن الرخص والأقوال الشاذة تتحسر عندها عندما توضع في القبر وربما قبل ذلك إذا نزل بك مرض الموت ونحوه.
- أعرض إعراض العقلاء والحكماء عن القيل والقال وضياع الأوقات وتجريح الناس وتصنيفهم والمناكفات وبيع المبادئ وانشغل بالعلم وتعليم الناس، حافظاً لسانه.
- كان عالماً عاملاً بعلمه، ثابتاً على فتاويه وعلمه ومبادئه طيلة حياته ومسيرته العلمية، لم تزعزعه متغيرات الحياة وضغط الواقع، ما كان يفتي قبل ثلاثين سنة هو ما يفتي به بعدها.
المَرْءُ يَعْلُو بِالهُدَى فَإِذَا هَوَى
عَاشَ الحَيَاةَ مُطَبِّلاً وَمُزَمِّرَا
- نموذج في الالتزام بالمواعيد والاستمرار والصبر على التدريس، أي سمو كهذا وعظمة وهمة كهذه !؟ حبه للعلم والتعليم، يمشي في عروقه، هو أنفاسه وروحه، وغداؤه وشرابه، ومن كان كذلك كان عطاؤه يتجدد ويستمر ولا ينقطع.
عودتَ نفسك عادات خُلقتَ لها
صدقُ اللقاء وإنجازُ المواعيد
- تحديد الهدف والعيش والتضحية لأجله، دون مفاسد تعيق الهدف، ومن كان كذلك كان عطاؤه يتجدد ويستمر ولا ينقطع.
- الغربة عن الأوطان في سبيل نشر العلم والدعوة إلى الله واغتنام الفرص في ذلك والثبات على دين الله وترك التلون والاضطراب في الفكر والمنهج والفتوى.
- التواضع التواضع هو الطريق المختصر إلى القلوب والتأثير فيها.
- الاستعداد للموت، وكلنا إليه صائرون.
المـــوت يـــأتي بغتــة
والقبر صندوق العمل
- السلامة كل السلامة في البعد عن الأضواء وحب المناصب والركض وراءها، والمزاحمة عليها، والبغي في تحقيق الوصول إليها، والتسلق على الظهور لأجل الشهرة والبروز.
- الحزم مع النفس، والحزم بقدر الاهتمامات والهموم، والهموم بقدر الهمم، والتجلد والحزم خير من التفلت والتبلد، والصلاة خير من النوم.
ومن أراد المنزلة القصوى في الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة؛ واحدة بواحدة، ولكل سلعة ثمن، وسلعة الله غالية، إلا إن سلعة الله الجنة.
- العلماء ورثة الأنبياء، وهم الحداة والهداة في كل عصر ومصر ومذهب ودين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق وتنهى عن الظلم والفواحش ويعظمون أهل العلم والدين منهم".
ما من أمة إلا وهي تفخر بعلمائها وعظمائها فبهم تعتز وتسمو وإليهم تطمئن وتهفو، ولن تفلح وتسعد وتثبت وتطمئن وتستقر بدونهم، العلماء مرجع الأمة في الأزمات وسندها في الملمات.. العالم وطالب العلم والداعية حارس وراع وربّان فإذا ضاع وتلّون وزلّ فما الحال والمآل؟
بثباته يثبت خلق كثير، فها هو أبوبكر الصديق يوم الردة، وها هو أحمد بن حنبل يوم الفتنة والقول بخلق القرآن يثبتون على الحق والسنة فتثبت بعدهم الأمة.
هم شعلة في العلم هم علم لنا
في كل نازلة نهب ونفزع
إنما العالم في أمته قبس
ينشر في السماء الضياء
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت
والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
- هذه شذرات وصور مشرقة ذهبية مضيئة كأنها قطعة ترجمة لسيرة من سير أعلام النبلاء، مختصرة من حياته، خشية الإطالة، لا توفيه حقه، محبة ووفاء له وبراً به.
لم يكن الحديث عن سيرة كانت في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من سلف الأمة وعلمائها وعبادها وزهادها، وإنما عن رجل كان بين أظهرنا وبين أيدينا، لأن بعض الناس يظن أن تلك النماذج العظيمة هي نماذج في الورق وكتب السير.
إذا أعجبتك خصال امرئ
فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على المجد والمكرمات
إذا جئتها حاجب يحجبك
- رحمه الله رحمة واسعة ورفعه في درجة المهديين وموتى المسلمين عامة ورزق أهله ومحبيه الصبر والأجر، وجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم وإنا على فراقه لمحزونون.
كتبه: فهد العماري.
الجمعة 25/ 9/ 1442هـ
1- هذه مما قيل فيه للمقوشي، وبقية الأبيات كالأنصاري والسلمي وغيرهم، انتقيت منها ما يناسب المقال.