تعليقاً على نتائج الانتخابات الأمريكية
17 ذو القعدة 1429

تكثر الكتابات والتعليقات والتحليلات في كل مرة تُجرى فيها انتخابات الرئاسة الأمريكية، لكن وصول أول رئيس أسود في تاريخ هذا البلد إلى مقعد الرئاسة فيه استحوذ على اهتمام كبير وأعطى مادة خصبة للكتابة مما جعل هذه الكتابات تتضخم تضخماً ملحوظاً.

بالنسبة لنا فإن اللون أو العِرق أو اللسان ليس معياراً للمفاضلة بين البشر، وهذا أمر مستقر في الشريعة الإسلامية بوضوح لا خفاء فيه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات/13]، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى"، ومن خالف هذه التعاليم وقع في شيء من أمور الجاهلية، ففي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بينه وبين أخيه كلام، قال: "وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ...الحديث"، وعملهم هذا مردود عليهم وهم محاسبون عليه.

إذا تقرر ما سبق، فلا بد لنا من تسجيل ملاحظات على بعض التعليقات أو الكتابات التي ظهرت:
1- كان من المفاجئ أن تصدر مقالات لبعض طلبة العلم تستغل فوز أوباما للكلام عما يمارس من تمييز في بعض بلاد المسلمين بسبب اللون أو لكون الرجل ليس من أهل البلد ... إلى غير ذلك، والخطأ الذي وقع فيه هؤلاء الكتاب أنهم وقعوا في أثناء ذلك في تمجيد أمريكا، فلم يكتفوا ببيان ما في كثير من واقع المسلمين من مخالفة ظاهرة للنصوص الصريحة، بل عرجوا على انتخاب أوباما فاستغرقهم هذا الأمر وذكروا شيئاً من تفاصيل حياته وكيف كان والده مهاجراً يقيم في (عشة) ثم صار ابن المهاجر رئيساً لأمريكا، أكبر دولة التي فيها وفيها، فإذا بهم -من حيث لا يشعرون- يمجدون أمريكا ويثنون عليها ويضخمون مقوماتها، فوافق صنيعهم -عن حسن نية- ما يفعله أصدقاء أمريكا ومن في قلبهم مرض.

2- ومن الكتاب أيضاً من أراد أن يوقظ ضمائر من يقع في بعض أمور الجاهلية من المسلمين، فصور انتخاب أوباما وكأنه تطبيق لما جاءت به الشريعة من أحكام فرط بها أولئك، وهذا من العجب! فالشريعة تجعل معيار التفاضل هو التقوى، فهل اختار الأمريكان أوباما لهذا السبب؟ إن الذي يريد أن يتكلم عن ظاهرة اختيار رجل أسود لرئاسة أمريكا لا ينبغي أن ينسى أن تاريخها الأسود فمنذ قيامها حتى وقت قريب مليء بالعنصرية المشرعة بقوانين تحميها السلطة، وحتى سنوات ليست بالبعيدة ما كان يحق للسود أن يدلوا بأصواتهم، بله أن يدخلوا مطاعم بعينها لا يسمح فيها بدخول الكلاب والسود! وعليه أن يتذكر أن الناخب الأمريكي كان قد وصل إلى حال من الضيق والانزعاج من سياسة بوش تجعل إسقاط حزبه هدفاً عند كثيرين بغض النظر عمن يصل للحكم، بدليل أن حزب بوش خسر خسارة كبيرة في مجلسي الشيوخ والنواب كذلك، والحال تشبه أن يدعو حاكم دولة مسلمة شعبه للاستفتاء على انتخابه ويكون الاستفتاء هو: هل توافق على تطبيق الشريعة وانتخاب الرئيس لمدة جديدة؟ نعم، لا!
فالتصويت بنعم بنسبة ساحقة لا يعني بالضرورة الرضا عن هذا الحاكم، وهذا الكلام لا يعني التقليل من قيمة هذا التحول الذي كان قبل سنوات قلائل أشبه بالمستحيل عندهم، ولكن القصد هو وضع الأمور في نصابها الصحيح، وعدم المبالغة في تناوله أو إعطائه أبعاداً لا حقيقة لها.

3- على النقيض من هذا الموقف، خرجت بعض التعليقات، وتم تداول كثير من رسائل الجوال التي تحمل في طياتها نوعاً من التمييز العنصري، والمفاجأة أن يقع بعض الطيبين في مثل ذلك، فيُلمس من كلامهم نوع من الاحتقار والاستهزاء، وهذه بقايا من تراث الجاهلية كما بينا، ويخشى أن يكون بعضهم قد أخرج ما في مكنون نفسه والعياذ بالله، يقول تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور/15]، فعلينا جميعاً أن نتقي الله ونضبط أقوالنا وأفعالنا بشرعه الحنيف.

4- كثير من الناس اعترته مشاعر الفرح بفوز أوباما، وهنا لا بد لنا من وقفة، أما أن نفرح لكون فوزه وبهذه النسبة العالية يمثل هزيمة ساحقة لحزب بوش وبالتالي لنهجه وسياسته وله هو شخصياً فنعم، قال تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة/14، 15]، وأما أن يكون الفرح استبشاراً بأوباما نفسه وأن مجيئه يحمل الخير لأمتنا فهذا محل نظر، إذ سياسة أمريكا الخارجية تحكمها استراتيجية عليا متفق عليها وهي أكبر من الأشخاص، صحيح أن هناك فرقاً بين بوش وغيره، فقد بلغ من البطش والظلم والإفساد في الأرض مبلغاً عظيماً، إلا أن الصحيح أيضاً أن تأثر هذه السياسة بالأشخاص تأثر نسبي، وقد يكون التأثر في جانب الأساليب والطرق المؤدية لتحقيق أهداف تلك الاستراتيجيات لا غير، فعلى الذين يراهنون على أوباما أن يتذكروا عدداً مهماً من الأمور؛ فالرجل وإن كان مؤيداً للانسحاب من العراق فإن مرجع ذلك ليس رفع الظلم عن أهلنا فيه بل لأنه يرى أن وجود قواته هناك يضر أمريكا ولا ينفعها، وأنه يمكن تحقيق مصالحها في هذا البلد بوسائل أخرى، وفي المقابل فإنه يريد التركيز على الحرب في أفغانستان والفوز فيها مما يعني المزيد من المعاناة والقتل والتدمير للمسلمين، كذلك فهو من مؤيدي إسرائيل، ويعارض عودة اللاجئين الفلسطينيين لبلادهم، وصرح بأن القدس ينبغي أن تظل موحدة وعاصمة لها، وكان أول قرار يتخذه بعد فوزه هو تعيين يهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية كبيراً لموظفي البيت الأبيض، وهو من أهم الوظائف في الإدارة الأمريكية، وأيضاً فلا يخفى أن للإعلام دوراً كبيراً في فوز أي مرشح بالرئاسة في أمريكا، وسيطرة اليهود على كثير من وسائل الإعلام معلوم للقاصي والداني، وقبل ستة أشهر لم يكن كثير من الناخبين يعرفون من هو أوباما، مما يعني أن الإعلام لعب دوراً كبيراً لدعمه وفوزه الأمر الذي يضع علامة استفهام قد تحمل الأيام والأشهر المقبلة أجوبة لها.

5- وأخيراً.. دعوة للتأمل، فكثير من المحللين وبعض طلاب العلم يرون في اختيار أوباما دليلاً على قوة أمريكا، وفي نظري الخاص العكس، إذ سيطرة أمريكا ونفوذها يقومان على مقومات ليس من بينها العدل والقيم الإنسانية أو الأخلاقية، ومن أعظم هذه المقومات قوة المال والبطش والاستكبار، وقد جاءت أزمتها المالية فأثرت على مقوم عظيم عندها وأضعفته، وهو ما سيزداد ظهوره مع مر الأيام، وأما ما يتعلق بالاستكبار والبطش فإن اختيار أوباما وإن كان يعتبر بالمقاييس العامة ومقاييس العدل ممدوحاً، إلا أن هذا الاختيار وهذا التغيير جاء اضطرارياً ومخالفاً لهذا المقوم، فهو من هذا الجانب دليل ضعف. مثاله أب يظلم أولاده ويمنعهم بعض حقوقهم ولا يستمع للناصحين من أهل وأقارب ويقاومهم بشدة، ثم مع تقدمه في السن وتسلل الضعف إليه يشعر بالعجز عن المقاومة فيبدأ في إعطائهم ما يستحقون، لا أوبةً للحق وإقراراً بخطأ ما كان عليه، لكنه اضطر إلى ذلك اضطراراً لعجزه، ففي الظاهر هو أمر ممدوح، لكنه دليل ضعف لا دليل قوة، أو كما يقال مكره أخاك لا بطل، والله أعلم.