قاعدة في الأعياد
12 محرم 1431
سليمان الماجد

 

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد*..

فإن الزمان والمكان ظرفان جامدان لا تعظيم لهما إلا ما عظمته الشريعة، والتفات القلب إلى تعظيم شيء منها واعتباره إما أن يكون قربة لله وضرباً من العبودية له، لأن شريعته عظمته، أو أن يكون بعداً عنه وضرباً من عوائد الوثنية حيث كانت تعظم الجمادات التي اخترعت في تعظيمها ما لم يأذن به الله.

وكل شيء يقصد فيه الزمن ووُجدت فيه سمات العيد فهو ممنوع في الشريعة، لكونه بدعة في الدين وحدثا في الشريعة وإن غيَّر الناس تسميته، ومن أظهر سمات العيد في الشريعة والعرف واللغة: أنه يعود في زمن محدد، ويكون فيه الاجتماع، وتُظهر فيه الأعمال، كالتهاني أو اللعب أو المآكل والمشارب.

وبرهان ذلك أن البدعة تدخل في الدين المنزل المحدد بسمات تعبدية محضة، كالصلاة والحج والصيام، ويكون ذلك بأمرين:

الأول: التغيير في بنيتها أو زمانها أو مكانها، فمن زاد ركعة في الصلاة، أو جعلها في غير وقتها، أو في غير مكانها على الدوام فقد ابتدع.

والأمر الثاني: فعل عبادة أخرى مضاهية لها ولو لم يُغير في الواردة بشيء، كمن أحدث صلاة سادسة تؤدى ضحىً، ويجتمع الناس لها في المساجد.

والأعياد الشرعية، كالفطر والأضحى جاءت بسمات التعبد المحض وذلك في اختيار الشريعة لزمانها على وجه لا يعقل له معنى على التفصيل، فوجب أن يُسلك بها سبيل العبادات المحضة، فنقول فيها ما قلناه في الشرائع المحددة بأنه لا يجوز أن نغير في زمانها، فنجعل عيد الفطر ـ مثلا ـ في ذي القعدة، ولا أن نجعل صلاة العيد بعد المغرب ولا أن نحوله حزنا، فهذا إحداث في بنية العيد وزمانه، وهو الأمر الأول الممنوع في العبادات المحضة ويُوصف بالبدعة.

أما في الأمر الثاني وهو المضاهاة فلا يجوز أن نحدث عيدا ثالثا، ولو لم نغير في الأعياد الواردة، كالذي قلناه في الصلاة السادسة.

وهذه هي النتيجة المطلوبة في هذه المسألة.

وقد ذهب إلى اعتبار عدم معقولية المعنى لجريان حكم البدعة الإمام الشاطبي رحمه الله، فقال في "الموافقات" (2/222): (.. التعبد راجع إلى عدم معقولية المعنى، وبحيث لا يصح إجراء القياس، وإذا لم يعقل معناه دل على أن قصد الشارع فِي الوقوف عند ما حدّه لا يُتعدى.. ).

وقال رحمه الله: (.. لأن ما لا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنـهي عنـه، فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدتـه فهو المراد بالعادي ).

وقال في "الاعتصام" (1/347): ( فإن كان مقيداً بالتعبد الذي لا يعقل معناه فلا يصح أن يُعمل به إلا على ذلك الوجه ).

وفي "الشرح الكبير" (1/672) قال الدردير رحمه الله: (.. إن الشارع إذا حدد شيئاً كان ما زاد عليه بدعة ).

وإنما دخل الإشكال على البعض في هذا الباب حين ظنوا أن البدعة لا تدخل إلا عملا يراد به القربة، كالصلاة والصيام والحج، وقد بينت في بحث نُشر في ها الموقع بعنوان (ضابط البدعة وما تدخله) ما يدل على بطلان ذلك، فآمل مراجعته، لأن تصور هذه مسألة هذا السؤال لا يتم إلا بتصور هذه المقدمة العظيمة.

وقد دلت الشريعة في باب الأعياد على صحة هذا الاتجاه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذان اليومان ؟ قالوا: كنا نلعب فيهما فِي الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". رواه أبو داود في "سننه" (1/295).

وقال صلى الله عليه وسلم: "يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب" رواه أحمد من حديث عقبة بن عامررضي الله عنه.

فقوله: "أبدلكم" دليل على إبطال كل عيد وإلا لزادهم من أعياد الإسلام دون إبطال الأعياد الحالية. وقوله: "عيدنا أهل الإسلام" دليل على أن ما سواها أعيادُ غير أهل الإسلام.

ثم تأيدت هذه الأدلة بالهدي الظاهر للسلف، فلم يظهر في ديار الإسلام بعد إيقاف الرسول صلى الله عليه وسلم الأعياد السابقة، وإبدالها بأعياد الإسلام أي عيد طيلة القرون الثلاثة المفضلة تعبدية كانت أو عادية، حتى أحدث العبيديون عيد المولد، وذلك رغم أن للأمم المجاورة أو المخالطة للمسلمين أعياداً تعبدية وعادية، يقصد منها الاحتفاء بزمان أو شخص، كعيد الشعانين ومولد عيسى عليه السلام للنصارى، والنيروز للفرس وغيرها من الأعياد، لاسيما والأمة فِي هذه القرون كانت تأخذ الكثير من المفيد النافع من الأمم الأخرى، فتركها لهذه الأعياد رغم وجودها دليل على إعراضها عنها ديانة.

وسمة التعبد المحض في الأعياد المشهورة، كعيد المولد وعيد الزواج والعيد القومي ظاهرة في اختيار الزمان دون معنى معقول، وفي هذا مضاهاة للمشروع. يوضح هذا أنه لا معنى عقلياً لاختيار الزمان ليكون وقتاً لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم أو الولي أو المناسبة القومية، وحب النبي والولي من أعظم القرب، والزواج من أعظم الأواصر، وحب الوطن والعناية به ـ في حدود ما أقرته الشريعة ـ وتفضيله على غيره دون معارض شرعي لا تثريب فيه، ولكن ما المعنى العقلي المفهوم من قصر الاحتفاء بما ذُكر في زمان دون آخر ؟ بل إن المناسبة العقلية الصحيحة هي في اختيار غير الزمان الذي وقع فيه الحدث الذي يراد الاحتفاء به، لأنه وقت نسيانه، ولأن زمان حدوثه هو: وقت تذكره، فالصمود إلى الزمان المعين نوع تحكم وتصميم لم يُعهد إلا من الشريعة في اختيار الأزمنة والأمكنة، فههنا كانت المضاهاة التي تحيل العمل العادي إلى عبادة مبتدعة.

ومما استدل به بعضهم لتصحيح عيد المولد ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن ابن سيرين رحمه الله قال: (نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا.. وفيه أنهم اختاروا الجمعة، فاجتمعوا فِي بيت أبي أمامه أسعد بن زرارة، فذُبحت لهم شاة فكفتهم.

وقالوا بأن هذا في حقيقته احتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم معين.

فالجواب يكون بعدم التسليم أن ذلك احتفال بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو سُلم لكان قبل شرع صلاة الجمعة وخطبتيها، حيث جاء فِي رواية عبدالرزاق بسند صححه ابن حجر أن ابن سيرين قال: (وقبل أن تنْزل الجمعة)، وفيها: فأنزل الله فِي ذلك بعد: "يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" الآية.

فتركهم لهذا الاجتماع على يوم محدد ـ بعد نزول الجمعة ـ دليل على عدم مشروعية أي اجتماع آخر له سمة العيد، وفيه دليل أيضاً على أنهم يعرفون مثل تلك الأعمال، فتركوها اكتفاء بما شرعه الله يوم الجمعة من الصلاة والتذكير والوعظ في خطبتيها.

ثم إن هذا الاجتماع في دار أسعد بن زرارة إنما هو درس، ولم يكن الزمان مقصودا فيه، فلا يُسلم أنه عيد.

كما أورد بعضهم على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين: "ذلك يوم ولدت فيه" بأنه صلى الله عليه وسلم احتفل بيوم مولده بالصيام، فالجواب أنه تقرر أن الأعياد الشرعية من الدين المنزل المحدد، ولا مجال للقياس في العبادات المحضة، فيكون احتفالنا بمولده صلى الله عليه وسلم على الصفة الواردة، وهي الصيام فقط.

ولو صح هذا المنهج للزم أن نزيد ركعات في الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة خير موضوع فمن شاء فليستقل ومن شاء فليستكثر".

والقياس ممنوع فِي إنشاء العبادة، أو الزيادة فيها، لوجوه:

الوجه الأول: أن إجراء القياس مسألة عقلية، والعبادات مبناها على التعبد المحض المنافي للمناسبات العقلية التفصيلية، فلا قياس.

وبيانه أن القياس يقوم على إعمال العقل لاستنباط العلة من الأصل المقيس عليه، وإعمال العقل مرة أخرى لتحقق وجود هذه العلة فِي الفرع المقيس له.

فحيث لم يُعقل المعنى امتنع القياس فِي جعلها أصلاً أو فرعاً.

قال النووي فِي "المجموع"(3/342): (.. الصلاة مبناها على التعبد والاتباع والنهي عن الاختراع , وطريق القياس منسدة..).

وقال الشاطبي فِي "الاعتصام" (2/62) عن العبادة: (.. ولذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها..).

وقال البهوتي فِي "كشاف القناع" (2/478) (.. ولا يصح القياس إلا فيما عُقل معناه، وهذا تعبدي محض ).

وانظر "البحر المحيط"(7/133) "، و"شرح الكوكب المنير" (537).

الوجه الثاني: أن الصحابة والتابعين والعلماء في القرون المفضلة لم يستعملوا القياس ليصححوا عبادة جديدة أو يزيدوا فيها بذلك.

الوجه الثالث: أن من شرط صحة القياس أن لا يعارض نصاً من الكتـاب أو السنة، وكل قياس لإنشاء عبادة أو الزيادة فيها فهو معارِض للنص القطعي العام المانع من الإحداث.

فالعبادة التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف مع قيام المقتضي لفعلها وانتفاء المانع منه هو كالنص منهم على النهي عن ذات الفعل فيُعتبر القياس معارضاً لهديهم، فهو باطل.

الوجه الرابع: أن القياس لا يُعمل إلا عند الضرورة، ولا ضرورة لإحداث عبادة لم تأت بِها الشريعة، بل الضرورة تقتضي ترك الإحداث.

جاء فِي "المدخل" (1/119) لابن بدران: (.. عن أحمد قال: سألت الشافعي عن القياس ؟ فقال: إنما يصار إليه عند الضرورة ).

وكلام الإمام الشافعي رحمه الله يدل على أن القياس إنما يباح للضرورة حتى فِي المعاملات، فما بالك فِي منعه له فِي العبادات.

لذلك ترى أكثر العلماء الراسخين لا يُحسِّنون شيئاً من هذه المحدثات، أو يعلنون محبتها، أو يعملونَها، أو يتولون الحديث عنها تنظيراً وقياساً وتأليفاً ودرساً.

وقد أورد بعضهم على القائلين ببدعية الأعياد الزمانية إجازتهم لحفلات تكريم الطلبة، وحفلات حلق تحفيظ القرآن العظيم، فهل تُعتبر بدعة لكونها تشبه العيد ؟

ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم، والأظهر أن ذلك مرجوح، لكون هذه الحفلات معقولة المعنى على التفصيل، والزمن غير معين، ولا يُقصد لذاته، كما هي الحال في الأعياد الشرعية وغير الشرعية، كاحتفالات المولد والأعياد القومية، ويوم الزواج، وإنما المقصود خاتمة الفترة الدراسية، فلو تأخرت أو تقدمت تبعتها في ذلك، فلا تدخل في الأعياد المحدثة، والله أعلم.

ثم لو قال قائل: إن البدعة إنما تصدق على الأعياد التعبدية دون العادية، وذلك لأن لأصحاب هذه الأعياد أن يقولوا: نحن لا نتعبد بها، بل نفعلها محبة للرسول أو الولي، كمحبة الوطن، ويقولون أيضاً: إن التعبد فيها إنما يُعتبر بمعناه العام الذي لا بدعة فيه، لا بمعناه الخاص، وإذا أجزتم لأهل الدنيا التعبير عن شعورهم بإحداث عيد لمناسبة ترابية فبالأولى أن يجوز ذلك لمعنى صحيح لا يوجد فيه تعبد محض.

فالجواب: أن هذا لا يصح، فقد تقدم أن الأعياد الشرعية ذات صفات تعبدية محضة في اختيار زمانها، وقد تقرر في تأصيل المسألة أن ما كان عبادة محضة فهو من جملة الدين المنزل الذي لا يجوز الحدث فيه بالزيادة عليه، أو النقص منه، أو التصرف في أعماله التي حدتها الشريعة.

كما أن الأعياد التي تنازع الناس فيها قد سُلك بها طريق التعبد المحض باختيار الزمان دون مناسبة عقلية، فكانت إقامتها على هذا الوجه من المضاهاة التي تحيل العمل العادي إلى أمر تعبدي يصدق عليه وصف البدعة.

وقد رأى بعض العلماء المعاصرين أن مناط الحكم بالمنع هو التشبه بالكفار في هذه الأعياد، وفيه نظر كبير، فلو صح ذلك لم تكن هذه الأعياد ممنوعة محرمة، لأن القاعدة في التشبه: أن ما لم يكن من خصائص مَنْ نُهينا عن التشبه بهم فلا يُعتبر تشبهاً مذموماً، وهذه الأعياد لم تعد من خصائص الكفار، بل صار يشترك فيها المسلم والكافر، كبعض الملابس التي كانت خاصة بهم ثم صارت مشاعة بين الأمم، فلم يعد لبسها تشبهاً.

فتلخص من الجواب أن سبب منع الأعياد المحدثة ـ سواء قصد بها التعبد أو لم يقصد ـ ليس التشبه وإنما لكونها حدثا في الدين، وقد قال تعالى: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله"، وقال: صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

 

----------------------

* في الأصل هذا جواب مفصل عن سؤال ورد إلى الشيخ حفظه الله وهذا نصه:

فضيلة الشيخ.. رعاك الله.. نسمع كثيرا عن بعض المناسبات حيث يذكر البعض أنها من الأمور العادية فلا تكون محرمة، مثل الاحتفال بيوم الزواج أو العيد الوطني، وإنما المحرم هو العيد الذي نريد به العبادة مثل الاحتفال بيوم المولد والاسراء والمعراج وأمثال ذلك من المناسبات الدينية، كما رأيت في بعض المواقع التي تؤيد المولد أن الاحتفال بالمولد ليس عبادة وإنما هو تعبير عن الشعور بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كالاحتفال بالرجال والأوطان، وهناك من يقول المشكلة هي في التشبه بالكفار.. فما هي القاعدة التي توضح ذلك. كتب الله أجركم.