أئمة المرجفين وإمام الصابرين
11 ربيع الثاني 1430

لا تحسبن ما فيه بني الإسلام اليوم محدثاً لم يكن في الأمم من قبلهم! فلله ما أشبه الليلة بالبارحة.. وتأمل هذا المعنى في أتباع موسى من هذه الأمة وأتباع قوم موسى الفاسقين، أما أتباع موسى من هذه الأمة فهم أتباع الحق، الذين لا تزال الأحداث تظهر ثباتهم، يرددون بلسان حالهم ما قاله سلفهم لنبينا عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر فقد أثر أنه لما جاء الخبر بمقدم قريش لاستنقاذ العير، "استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لم أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، فو الله الذي بعثك لئن سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.

 

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له، وقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضنا معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقي منا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد رضي الله عنه، ونشطه ذلك، فقال: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"(1).

 

واليوم تجد العصابة المؤمنة التي فرضت عليها الحرب وأقحمت فيها لما احتل العدو ديارهم وأموالهم واعتدى على أنفسهم وحرماتهم، تجد تلك الثلة المباركة مقبلة غير مدبرة، واثقة في نصر الله، مرتقبة فرجه، لا تساوم على دينها أحداً، ثابتة لا تتزعزع مع ما ينزل بهم من التقتيل والتنكيل يموت أحدهم وسبابته مرفوعة بشهادة الوحدانية، لا يعطي الدنية، فلله درهم وعلى الله أجرهم، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40، 41].

 

وتأمل أحداث غزة شنت القوات الصهيونية حربها لجملة أهداف معلنة بعضها يفضح العقلية اليهودية، يردون من المقاومة حماس وغير حماس أن تخضع وتذعن، يريدون من الشعب أن يركع، أو أن يخرج من أرضه، وقد ظنوا أن في مقدورهم تحقيق ذلك بالإرهاب الظالم المفسد المهلك للأخضر واليابس، وكان دافع هذا الظن عقليتهم اليهودية وسجيتهم القديمة التي أظهروها مع موسى، أليس هم من قال: (إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) (وإنا لن ندخلها ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)؟ وهذه العقلية هي نفسها عقلية أتباعهم من بعدهم في عهد داود الذين قالوا: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).. العقلية اليهودية واحدة وقد ظنوا أن بني الإسلام مثلهم، سيرفعون شعارهم.. فخيب المجاهدون ظنهم، وأبطلوا فألهم، وبقي أهل غزة مرابطون في أرضهم، مجاهدون لعدوهم، حتى صرفه الله دون أن يتم مراده، فالحمد لله رب العالمين.

 

فهؤلاء هم أتباع موسى، أما أتباع قومه الفاسقين في هذه الأمة فهم المنافقون المرجفون الذين يتربصون بالمجاهدين وبأهل الإسلام الدوائر، فما أن يعتدي معتد على الإسلام وأهله، فتقوم له طائفة من المسلمين مجاهدة مقاومة حتى تسمع التخدير والتخذيل، بل التأثيم والتجريم، وكأن المسلم الضعيف هو المعتدي المبتدي، وكأن الواجب الشرعي، والحكمة التي تمليها العقول أن يستسلم للقاتل، وأن يبذل المال للص، وأن يخرج من داره للغاصب، والحجة عندهم قول أسلافهم: (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).. لا طاقة لنا فاتركوهم يقتلون ويسرقون وينتهبون! لا تردوا فإن الرد يستثير المارد الصهيوني لمزيد عنف فموتوا رجاء بهدوء!! وسلموا أراضيكم في استسلام!

 

وللأسف فقد اغتر بهؤلاء المرجفين نفرٌ في قضايا معاصرة كقضية فلسطين، فحصل عندهم خلط بين من اعتدي عليهم من قبل ظلمة غاشمين متعسفين يخترعون المسوغات لتركيعهم، وبين من جلب إلى نفسه اعتداء ظالم وتسلط غاشم وذلك ببدء استفزازه!

 

ولو افترضنا أن البادئ هم المجاهدون الذين استعجلوا مواجهة وبدءوا استفزازاً ولم يكن ثمة اعتداء عليهم، ولا إرادة للنيل منهم، أو كان الاعتداء عليهم دون ما جره تصرفهم، فهل يقبل أثناء اعتداء ظالم على مستضعف حاول أخذ شيء من حقه أن يتوجه منصف باللوم إلى المستضعف في تلك الحال؟!
ثم ماذا يعني هذا الطرح أثناء الأزمة؟ وما هي ثمرته؟ ومن يخدم؟ أسئلة إجاباتها واضحة كفيلة بتخطئة مسلك من جنح إليه بدعوى العقل والانصاف.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:69-71].

__________________
(1) تفسير ابن كثير 4/26 تفسير آية الأنفال: 9.