الحكمة والمعاصرة في الخطاب الدعوي (1)

المتابع لخطاب كثير من الدعاة الآن والأسس التي يقوم عليها غالب حديثهم تستوقفه أمور لا يسعه إغفالها من حيث تقويم هذا الخطاب والسعي الجاد لتبني الدعاة أساليب وطرقا أكثر مناسبة تلفها الحكمة وتعتبرها المعاصرة بحيث أن تدور بمدارها تبعا لضوابط الدعوة الرصينة والعليمة أيضا .

ولاشك أن أي متحدث حول أهمية الحكمة والمعاصرة في الحديث الدعوي ينبغي عليه أن يأمن جانب الانزلاق نحو التحلل من ضوابط التشريع أو مقومات الخطاب الإسلامي المقبول .
الواقع أن متابعة بسيطة لبعض المتحدثين والدعاة يوصل إلى أن الأمر يدور بكثير من عشوائية وعدم دراية بأصول هذا الخطاب ولا بطريقة التفاعل مع المخاطب , كما أنه يدور بكثير من ضعف في التدريب على التواصل مع الطرف الآخر في الرسالة الدعوية .
 
إن الناس مختلفون , فهم طوائف مختلفة وهم جماعات شتى وثقافات متباينة وانتماءات مختلفة وعقليات متفاوتة وعادات وتقاليد عديدة .
 
 ومن ظن من الدعاة أنه يستطيع أن يهمل كل هذه الاختلافات والتباينات , ويختزل طريقة الدعوة وأسلوبها , ومسارات الخطاب الدعوي  إلى الناس أجمعين في طريقة يظنها جديرة بذلك فهو ولاشك مخطىء , فقد كان صلى الله عليه وسلم - وهو معلم البشرية  جمعاء -  ينوع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس بل ويأمر أتباعه من الدعاة الى الله بمخاطبة الناس على قدر عقولهم وكان يضبط ذاك الخطاب بضابط الحكمة , ويفعله بما يناسب ظروف وأحوال المخاطبين ..
 
الوعظ أسلوب واحد !
إن الأسلوب الغالب على كثير من المتحدثين وناقلي الرسالة الإسلامية للناس سواء على المنابر أو في المحاضرات أو في البرامج المختلفة , هو أسلوب الوعظ والتذكير , ولاشك أن للوعظ مكانا مؤثرا في قلوب السامعين , كما أن للتذكير أثره الجميل في تنبيه النفوس وإيقاظها , لكن المشكلة ههنا أن يعتمد هذا الأسلوب في شتى مجالات الحديث الدعوي , انني أتفهم أن يعظ المتحدث الناس بشأن الموت أو تكاثر المعاصي عليهم وتسويف التوبة , أو ماشابه ذلك , لكنني قد لا أتفهم استعمال آخر للوعظ وهو يتكلم عن موضوع مثل عرض منهج دعوي ما أو بيان قانون إسلامي ما , أو عرض قضية تحتاج إلى إعمال عقل وفهم وتدبر .
 
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم على ماكان عليه من عظيم تأثير في قلوب الناس بوعظه , كان لايكثر على أصحابه منه , فنرى عبد الله بن مسعود كما أخرجه البخاري يقول : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " , ولذلك فقد راعى الصحابي الجليل بنفسه ذالك فكان يعد ذلك سببا لقلة تذكيره للناس ووعظه لهم فيقول " إني أخبر بمكانكم فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم " كما في الصحيحين .
 
الأمر الآخر ههنا , أن كثيرا من هؤلاء الوعاظ يحسبون أن الوعظ لايكون إلا برفع الصوت وإظهار العبوس والغضب , ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم وهو ثابت في صحيح مسلم , نعم وحقا وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله , لكن لاشك أن هذا إنما كان فيما يناسب رفع الصوت فيه واحمرار العين فيه واشتداد الغضب فيه من الموضوعات وفيما يناسب ذلك من أماكن تجمع الناس وكثرتهم , وظروف سماعهم , وغير ذلك مما يناسبه الموقف والخطاب , لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحكم الناس وأرحم الناس وأعلم الناس .
 
 كونوا ربانيين ..

الداعية إلى الله حكيم حليم عاقل هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها لأنهم لو أحبوه وآمنوا بما يقول فسيِعملون عقولهم في كلامه إعمال القابل الراضي لا إعمال الرافض الساخط ..

 

والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها . وقد فهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قول الله تعالى : " ولكن كونوا ربانيين " فقال : ( كونوا حلماء فقهاء ) وقال البخاري : ( ويقال : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره )  والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة . قال ابن حجر : ( والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله ، وبكباره ما دق منها ) فتح الباري 1\162

 

وربانية الدعوة إلى الله لا تتم بمجرد تبليغ الأحكام والأدلة فقط وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة للوصول الى هداية الناس , ويشهد لهذا الأصل من أصول الدعوة كثير من النصوص نذكر منها :

 

1ـ ساق البخاري حديثا ترجم له بقوله : ( باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه . ثم أخرج من طريقه إلى " الأسود " قال : " ابن الزبير " : ( كانت عائشة تسر إليك كثيرا ، فما حدثتك في الكعبة؟ قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم … ـ قال ابن الزبير : بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون .قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ ( ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ) فتح الباري 1\224 واعتبر كثير من العلماء هذا الحديث وغيره من أعمدة الموازنة بين المصالح وأنه لابد من تقييم قدرة فهم السمع للعلم والدليل خوفا من الوقوع بما هو أشد لقصور فهمه عنه ..

 

2ـ وقال البخاري ـ رحمه الله ـ ( باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا ، وقال " على " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله) . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ وممن كره التحديث ببعض دون بعض ، أحمد ومالك في أحاديث الصفات . وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين ، وأنه كره أن يحدث بأحدهما ونحوه عن حذيفة ، وعن الحسن أنه أنكر تحديث " للحجاج " بحديث العرانيين ؛ لئلا يتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي )

 

3ـ وأخرج الأمام مسلم عن ابن مسعود قوله: ( ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنه ) .

 

4ـ وأخرج البخاري ( إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( يا معاذ بن جبل قال : لبيك يا رسول الله وسعديك قال : يا معاذ . قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ( ثلاثا ) قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من قلبه إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله : أفلا أخبر به الناس فيستبشرون ؟ قال إذا يتكلوا ) . وأخبر بها معاذ عند موته تأثما ) . وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى أنه ليس كل الناس يحسن معهم الإبلاغ بذلك المعنى المهم لئلا يحملهم على القعود عن العمل بفهم خاطىء , ولكنه قد اختص به بعض أصحابه الذين تحمل عقولهم القدرة على ذاك الفهم والاستيعاب وتقدير المراد من الخطاب .

                                                                                             (( يتبع الجزء الثاني ))