من الأمور المهمة لإتقان العمل، الإعداد والتخطيط، ذلك أن أي عمل يفترض به أن يغير شيئاً من الواقع المعاش إلى غيره في المستقبل القريب أو البعيد، سواء كان هذا التغيير في الكم أو الكيف، فلا بد من دراسة الإمكانات والفرص المتاحة ووضع الخطط وتحديد الوسائل التي يرجى أن توصل للمطلوب. أما أن يكون العمل ارتجالياً، أو أن يعمل المرء يوماً بيوم دون خطة مدروسة، فهذا إن لم يحل بينه وبين مراده فغالباً ما سيطيل عليه الطريق، وقد قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
إن الإعداد والتخطيط سنة عملية سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، أما في مكة فقد كان يسعى لإيجاد مجتمع مؤمن متماسك متآلف يكون بمثابة الجبهة الداخلية المنيعة لهذه الدعوة الوليدة ولدولتها المقبلة، وهذا ما حرص عليه طوال العهد المكي من خلال عملية التربية الإيمانية لأصحابه على أصول الإيمان والتوحيد، والمطالع لسير الأصحاب وتراجمهم يجد أسماء هؤلاء رضي الله عن الجميع لامعة مضيئة كالبدور السافرات والنجوم الزاهرات.
وكان من بين الخطط التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أن أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرتين، حفاظاً على من هاجر منهم من الفتنة والعذاب، وفتحاً لباب الدعوة إلى الله عز وجل في أرض جديدة.
ثم لما أيس صلى الله عليه وسلم من إيمان قومه، صار يطلب من بين الوفود التي تأتي في الموسم من ينصر هذه الدعوة ويعدهم بأن العرب ستخضع لهم إن هم فعلوا ذلك، وقد كان عليه السلام بذلك يبني اللبنة الأولى من لبنات الدولة الإسلامية، إلى أن كان من الأنصار ما كان من إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما أراد، ثم كانت هجرته المباركة إليهم فاجتمع الإمام بالرعية، على أرض مستقلة بثرواتها وخيراتها، وهذه مقومات قيام أي دولة.
ومن الأمور عظيمة الدلالة على أهمية الإعداد والتخطيط ما كان من أمر هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بدءاً من إخفاء الأمر، مروراً باختيار الصاحب الأمين وإعداد الراحلتين وتأمين الزاد والطعام والشراب، واختيار الدليل الماهر، والاستعانة بمن يخفي آثار المسير وينقل أخبار العدو، ثم الانطلاق عكس اتجاه المدينة وسلوك طريق غير معروفة لزيادة التمويه، إلى غير ذلك مما هو معلوم ويعطي ملامح واضحة لتفاصيل هذه الخطة.
ومن صور التخطيط في المدينة ما كان من شأنه عليه السلام في التورية إن أراد الغزو، فإن السرية والكتمان من عوامل تحقيق المفاجأة وهي من أسباب النصر في المعارك، ومنها ما كان يوم أحد حيث أمر الرماة ألا ينزلوا من فوق الجبل وإن رأوا الطير تتخطف المسلمين أو رأوا المسلمين قد ظهروا على عدوهم، وهي الخطة التي خالفها الرماة فكان يوم أحد ما كان.
ومنها ما كان من إشارته الواضحة -عليه السلام- إلى استخلاف أبي بكر من بعده، وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم في مرضه أن يصلي أبو بكر رضي الله عنه بالناس، تمهيداً ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكده قوله لعائشة رضي الله عنها: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"(1)، وهذا يؤكد ما كان مستقراً في نفوس الناس من كون أبي بكر رضي الله عنه أحق الناس بخلافته عليه السلام، وهذا كله نوع من أنواع التخطيط، وقد سار أبو بكر رضي الله عنه على نفس الدرب فعهد لعمر رضي الله عنه عهداً صريحاً يوافق ما هو مستقر قي نفوس باقي الأصحاب من أحقيته بذلك، ثم عهد عمر من بعده للستة كي يختاروا واحداً من بينهم.
وليس الأمر قاصراً على المستوى العام، بل حتى على المستوى الشخصي، فعن عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم"(2)، وفي هذا من التخطيط والإعداد ما لا يخفى.
وبرغم وضوح ما سبق، إلا أننا نسمع من بعض الخيرين أنه لا يوجد في الإسلام تخطيط وتنظيم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتن بهذه الأمور بل كان يعمل ليومه، أو أن أفعاله كانت رد فعل لما يجِّد من أمور، ولا شك أن هذا الكلام بعيد عن الصواب، وفيما سبق رد واضح عليه. وأبعد منه عن الصواب ما ذهب إليه بعض الناس من كون الإعداد والتنظيم والتخطيط من البدع المحدثة، فخطَّؤوا بذلك دعاة وجماعات وحكموا عليهم أنهم مبتدعة، ولو أنهم أنصفوا لعلموا أن أصل التخطيط لا يمكن لأحد أن ينفك عنه، فالواحد من أصحاب هذا القول إن أراد أن يلقي محاضرة لابد له ولمن حوله من القيام بشيء من التخطيط والتنظيم والتنسيق لإتمام المحاضرة في موعدها.
وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم، حتى لا يسيء الفهم متعجل متسرع، أو مغرض مبغض، فهناك فرق كبير وجوهري بين ما ندعو إليه من ضرورة التخطيط والإعداد الجيد وتنظيم الأعمال وتوزيع الاختصاصات في الأعمال كلها، وبين ما وقع فيه كثير من الناس -بل من الدعاة- من العصبية المقيتة والتحزب البغيض، فهذا غير هذا، فنحن ندعو إلى الأول ونحذر من الثاني، ولا ينبغي لأحد أن يخلط بين الاثنين.
ومن عوامل إتقان العمل كذلك، الصبر وعدم العجلة، وقد أرشد الله سبحانه وتعالى نبيه عليه السلام إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114]، قال ابن كثير رحمه الله: (يعني: أنه، عليه السلام، كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه، من شدّة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛ لئلا يشق عليه ... أي: بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده)(3)، وبين عليه الصلاة والسلام هذا المعنى لأصحابه يوم شكوا إليه ما كانوا يلاقونه في مكة من العذاب الشديد فقال لهم: "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"(4).
ومن هذه العوامل علو الهمة ومضاء العزم وعدم العجز، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من ضد ذلك فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل"(5)، وبين لنا القرآن الكريم ما كان من عدم مضاء عزم آدم عليه السلام وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]، فكانت النتيجة أن أخرج من جنة وصفها ربنا بقوله: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118، 119]. ومن تأمل في حال المنافقين والعلمانيين ودأبهم منذ ثلاثين سنة أو أكثر لتحقيق ما يتمنون حتى بدأت بعض جهودهم تؤتي أكلها، ونظر في المقابل إلى كثير من المشاريع الخيرة التي تعثرت بسبب ضعف همة القائمين عليها، يستحضر كلمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث قال: "اللهم أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة"(6).
وختاماً فإن هذه العوامل ليست منحصرة فيما مر معنا، لكن ما ذكرناه قد يكون من أهمها، ويبقى أن كل عمل مهما صغر أو كبر لابد كي يكون على وجه الإتقان والإحسان حقاً، وكي يكون مقبولاً عند الله عز وجل، أن يتحقق فيه شرط الإخلاص لله تعالى وشرط المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا جعله الله هباء منثوراً ولم يجن صاحبه منه إلا النصب والتعب، وكفى به خسراناً مبيناً.
______________
(1) صحيح البخاري 5/2145 (5342)، صحيح مسلم 4/1857 (2387)، واللفظ له.
(2) صحيح البخاري 5/2048 (5042)، صحيح مسلم 3/1376 (1757).
(3) تفسير ابن كثير 5/319.
(4) صحيح البخاري 3/1322 (3416).
(5) صحيح البخاري 3/1039 (2668)، صحيح مسلم 4/2079 (2706).
(6) مجموع الفتاوى 28/254.