وآمنهم من خوف
18 شعبان 1430

الأمن نعمة عظيمة يُنعم الله سبحانه وتعالى بها على من يشاء من عباده، إذ الإنسان بطبعه ينشد الأمن وما يبعده عن المخاطر والمخاوف، ولأهميته فقد امتن الله عز وجل على قريش بهذه النعمة، فقال عز من قائل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، ولأهميته كذلك وعد عباده المؤمنين إن هم أقاموا شرعه أن يبدلهم من بعد الخوف أمناً، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]، هذا الخوف الذي جعله الله عز وجل ابتلاء واختباراً لعباده المؤمنين ليكون الأمن منه جزاء نجاحهم في الاختبار، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، فنبههم إلى قرب الابتلاء وبشرهم بحسن الجزاء، وهذه سنة الله عز وجل في تمكين عباده المؤمنين، قال ابن القيم رحمه الله: (سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل، أن يُمَكَّن أو يُبْتَلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى)(1). 

 

إن للأمن أثراً كبيراً على استقرار البلاد والعباد وحسن معايشهم، ومن تدبر في آي القرآن وجد تلازماً وثيقاً في عدد من آياته بين الأمن ورغد العيش من جهة، وبين الخوف والجوع من جهة أخرى، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة: 155]، وقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، وقال: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش: 1-4]، وهذا مشعر بأنه لا يمكن أن تقوم النهضة المادية بدون الأمن أو في ظل الخوف.

 

لقد عانى جيل الأجداد من الخوف وانعدام الأمن شيئاً كثيراً، حتى يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه مر على أهلنا وقت كان  الإنسان لا يستطيع فيه أن يخرج إلى المسجد ليصلي من شدة الخوف والجوع؛ ولا يعرف قيمة الأمن حق المعرفة إلا من فقده، ومن تأمل حال إخواننا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والصومال وغيرها، وجد أحوالاً شديدة، نسأل الله أن يفرج عن المسلمين في كل مكان. لهذا فإن المحافظة على الأمن والاستقرار في بلادنا عبادة نتقرب بها إلى الله عز وجل، وهي مسؤولية الجميع، حكاماً ومحكومين، فلا بد من تكاتف الجهود في هذا المجال للتصدي لمن يحاول الإخلال بأمن البلاد سواء كانوا في الداخل أو الخارج، فالبلاد مستهدفة والعدو متربص؛ وفي هذا المقام لابد من توجيه النصح لبعض أبنائنا الذين يخلون بالأمن بتصرفاتهم الخاطئة التي لم يرجعوا فيها إلى أهل العلم والرأي والمشورة، ليعلموا أن ما يقومون به -وإن كان بنية حسنة- يصب في المحصلة في مصلحة أعداء الله الذين لا يريدون لنا ولا لديننا ولا لبلادنا خيراً، فمتى يدرك هؤلاء الشباب هذه الحقيقة الجلية؟

 

إن من الأهمية بمكان هنا أن نؤكد على كون مفهوم الأمن الذي ندعو إلى المحافظة عليه أعم بكثير من أمن الأبدان والأعيان كما يراه البعض، فهذا مفهوم قاصر، فنحن ندعو للمحافظة على الأمن الذي يشمل العقيدة والدين والفكر والاقتصاد والأنفس والأعراض والأبدان، وقد جاء الإسلام في شريعته بالحفاظ على الكليات الخمسة، الدين والنفس والعقل والنسب والمال، لتوقف صلاح معايش الناس في دنياهم وأخراهم على تأمينها وحفظها، فلا ينبغي بحال تجزئة مفهوم الأمن. أما أن يتم التركيز على الجانب المادي فقط، فيقطع السارق، ويقتل القاتل، ويحاكم من يخرب ويدمر، ثم يسمح لمن يفسد العقول أو يفسد الدين بأن يصول ويجول، فإن هذا لن يحقق أمناً حقيقياً، بل أمناً زائفاً مؤقتاً، قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

 

وختاماً لا بد أن يُعلم أن أعظم الأمن وأنفعه هو ما لا يعقبه خوف أبداً، وهو الأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 102،103]، وقال عز من قائل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 89-90].
فاللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

_______________

(1) الفوائد 1/208.