التفاؤل من القيم العظيمة التي ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان، لأنه يعطيه دافعاً للعمل والتقدم خطوات إلى الأمام في سيره نحو هدفه الذي ينشده، فالمتفائل عنده أمل في المستقبل أن تكون حاله فيه خيراً من يومه، بأن يعوض فيه ما فاته، أو يتجاوز فيه العقبات والمحن، أو يحقق من المصالح والمنافع ما ليس في حوزته اليوم؛ أما المتشائم فهو يرى المستقبل مظلماً حالك السواد، لا يجد فيه نقطة ضوء واحدة ولا بصيص أمل، فإن كان يعاني من المصاعب والمتاعب لم يجد سبيلاً للخروج منها، أو كان يريد أن يحقق شيئاً من المنافع والمصالح لم يجد سبيلاً للوصول إليها، فيدفعه هذا للقعود عن العمل والحركة، إذ ما الفائدة منهما والأمل معدوم!
ثم إذا قعد عن العمل ازدادت المصاعب والمشكلات وتعقدت، وبعدت الشقة بينه وبين تحقيق المنافع والمصالح، فازداد تشاؤماً وبؤساً وربما قاده هذا للاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية.
وأنا بفضل الله لا أكف منذ سنوات عن تبشير الأمة أفراداً وجماعات، ودعوتها للتفاؤل بأن لهذا الليل الذي يلفها نهاية، وأن الأمل في صلاح أحوالها قائم باق، وأن الله عز وجل لا يمكن أن يتخلى عن أمة نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم، ما دامت قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، وحتى إن تخلى كثير من أفرادها شيئاً من الزمن عما انتدبهم الله له من إعلاء راية هذا الدين، فإن الله عز وجل لا يتركها بالكلية، وعداً على لسان نبيه حيث قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(1)، وأعظم من ذلك كله أن الله عز وجل قال في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] و[الفتح: 28] و[الصف: 9].
الواقع يشهد أن كثيراً من الناس رغم أنه يعلم هذه الحقائق ويعلم أن الله سبحانه وتعالى ناصر دينه لا محالة، إلا أنه لا يستطيع أن يلمس أثر هذا العلم في قلبه، بل يبقى أسير ما يراه من ابتلاءات ومحن ومصائب تحل بالمسلمين فيصاب بالتشاؤم والإحباط ويعجز عن التفاؤل، بل يقسم بعضهم أنه يتمنى أن يكون متفائلاً لكنه لا يستطيع، فهو يعلم علماً نظرياً لكنه لا يرى أثره.
قد يكون الواحد من هؤلاء نشيطاً في الدعوة، يبذل جهده ووقته وماله في سبيل الله، لكن انتشار المخالفات وتتابعها، وكثرة الفتن وتلاحقها، وانتكاس وارتكاس من ينتكس، وما قد يحققه أعداء الله في الداخل والخارج من بعض المكاسب، وتغير الأحوال وتبدلها، كل ذلك قد يصيبه في مقتل فيصاب بالإحباط والتشاؤم.
لقد تحدثت كثيراً جداً وفي مناسبات مختلفة عما يوجد في نفس الواقع المليء بالآلام والمحن من آمال ومبشرات ومنح؛ فدخول الناس في دين الله في شتى بقاع الأرض، بل في عقر البلاد التي تحارب المسلمين في عقيدتهم ووجودهم، وتوبة كثير من الناس ممن كانوا مسرفين على أنفسهم، وانتشار الالتزام بالكتاب والسنة، واتساع رقعة الدعوة إلى منهج أهل السنة والجماعة، كل هذا يبعث على التفاؤل، وبخاصة عندما يحصل كل ذلك رغم سنوات من محاولة ضرب الدعوة والدعاة حول العالم؛ ومن جهة أخرى فإن عجز أعداء الله في مواطن الجهاد أو اندحارهم أو تكبدهم الخسائر الفادحة في الأفراد والعدة والعتاد واقع يدعو للتفاؤل، برغم ما فيه من جراحات وعذابات، وهذا مصداق قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]، فاليسر مع العسر وليس بعده، ولن يغلب عسر يسرين.
ولو أننا بحثنا فيما في هذا العسر وما معه من يسر، لوجدنا كثيراً مما يمكن أن نتكلم عنه، ومع ذلك فليس هذا هو منطلق حديثي هذا، ذلك أنني أنطلق اليوم من قاعدة تتعلق بمفهوم التفاؤل نفسه، بغض النظر عما يدور حولنا من أحداث. بمعنى آخر، فإنني أتحدث عن الدافع الرئيس الذي يجعل المسلم يتفاءل.
إن سر المسألة يتعلق بالقناعات، فهناك مجموعة من القناعات إن وجدت وترسخت صار الإنسان متفائلاً مهما كان الواقع المحيط به، وإن فقدت كان من العسير أن يتفاءل أو يحافظ على تفاؤله في ظل المحن والابتلاءات، وصار عرضة للوقوع فريسة الهم والحزن والتشاؤم.
ومن أهم هذه القناعات: حسن الظن بالله، وقياس الأمور بمقاييس الشريعة، ومعرفة أجر الصبر على الابتلاء، ومعرفة وظيفة الإنسان في الحياة، ثم معرفة أهمية مدافعة الباطل وأهله، وهذا ما سنتكلم عنه في المرة المقبلة تفصيلاً إن شاء الله.
_______________
(1) صحيح مسلم 3/1523 (1920).