[email protected]
أتمنى دائما أن تتركز كتابات باحثينا ومفكرينا حول التطبيق الواقعي لمفاهيمنا الإسلامية وكيفية ممارستها بشكل تنفيذي على الأرض ..
إن من أعظم جوانب هذا الدين أنه قابل للتطبيق الواقعي في كل زمان ومكان وعلى كل المستويات وفي جميع البيئات والحالات , ومن أفضل المجالات التي يستطيع فيها باحثونا ومفكرونا وكتابنا خدمته هي تقريبه للناس وبيانه أثناء حركة الحياة , وتوظيفه في مناحيها , وإظهار دوره في حل مشكلاتها وتيسير مصاعبها .
إن الناس أكثر ما يكونون حاجة لما يملأ قلوبهم بالإيمان ويوظف جوارحهم به , فيتغلبون على دركات الآلام الصعبة , ومعتركات الحياة الشديدة , وعندما يجدون من يساعدهم في ذلك سيتيسر عليهم الانخراط في سبيل دعوته والالتزام بمحدداته وتوجيهاته وشرائعه ..
لكنني أجد كثيرا من أعمال الكتاب والباحثين والمفكرين تتمحور حول الكتابات التنظيرية , تلك التي يصنع فيها الكاتب لنفسه عالما خاصا , يتخيل مكوناته ورؤاه , ويتصور تفاعلاته ومشكلاته , ثم يبتكر له حلولا وتصورات ..
بعض تلك الكتابات قد يكون نافعا بأثره الإيجابي حيث ينطلق عن تصور صائب للواقع , ومعطيات كافية لمشكلاته , وتكييف مناسب لعوائقه وأزماته , يتصف كاتبها بالتجربة الواقعية والعلم المتخصص , ومن ثم قد تصلح الرؤية التي يطرحها وقد تصيب الأفكار التي يعرضها على القراء ..
كتابات أخرى , ربما تكون هي الغالبة والأكثر انتشارا في سوق الكتابات والبحوث , لا تنطلق من حاجة ولا تعتني بمشكلة , ولا تسير في إطار منهجي إيجابي تجاه المصلحة المفقودة لامتنا الإسلامية , بل تكاد تكون أشبه باللهو المباح , أفكار مكرورة حول معان هزيلة , وأطروحات سقيمة تنم عن ضعف في المستوى العلمي والثقافي , كما تنم عن غياب بالغ في الفهم عن ماضي أمتنا وحاضرها ومستقبلها
إن صاحبها نوع من ثلاثة : إما أنه قد امتهن الكتابة وصارت هي مجال استرزاقه , فهو يحتاج لأن يكتب , ويكتب ليأكل وينفق ويبيع ليشتهر , ومن ثم يجعل الدعاية لما يكتب في المقام الأول لعمله ثم يأتي بعد ذلك اهتمامه بمضمون ما كتب ..!!
وهذا النوع قد صادفني كثيرا بينما أتجول في معرض الكتاب الأخير في القاهرة وغيره من المعارض سواء في دور النشر ذات الصبغة الدينية أو الثقافية أو غيرها ..
لقد رأيت كتبا قد نقل كاتبها غالبها نقلا من كتب سبقت , قد انتهت قضيتها ولم تعد الأمة مشغولة بها ولم تعد حتى من قضاياها ولا أولوياتها بحال , ولم يفعل الكاتب سوى أنه قام بتبويبها من جديد ووضعها في مجلد كبير وثوب لافت !!
ورأيت بحوثا قد ُأخذت أخذا من بحوث سابقة , ولم يفعل صاحبها سوى أن غير ترتيب الأوراق , ليضع هذا الحال هؤلاء الكتاب في مواجهة ومساءلة شرعية وأدبية عن مدى حقهم في ذلك الفعل الشنيع الذي هو سرقة الأفكار بغير بيان مصدرها .
كما رأيت بحوثا لا دور لها سوى المبالغة في إلهاء القراء , وإغفالهم عن قضاياهم المهمة وأولويات أمتهم الحالية والواقعية , لتسير بهم في ذات السبيل الذي يرتضيه أعداء الأمة الإسلامية وكأنهم عن ذلك غافلين !
النوع الثاني هو كاتب رافض لثوابت مجتمعه وقيمه وأعرافه , يريد إثبات ذاته بشكل ما , فيجعل صفحة الكتاب مكانا لتفريغ مكنوناته الداخلية ورغباته الذاتية , فتخرج كتاباته وكأنها قاصرة مشلولة , وفي بعض الأحيان مبتورة الأعضاء غير مؤثرة , لقد رأيت ذلك في كتابات موتورة لا هم لها سوى تكسير ثوابت الأمة واقتحام قيمها ومبادئها , والمصيبة الكبرى ههنا أن هؤلاء يجدون لهم في كل واد معينا , وفي كل مكان مساعدا داعما , فترى بحوثهم وكتبهم منشورة في أكبر دور النشر وقد طبعت بالآلاف المؤلفة من النسخ !!
النوع الثالث كاتب قد جعل لنفسه منهجا ذاتيا خاصا به يقدم به رؤيته الخاصة, فيحاكم الناس عليها ويعاقب الواقع تجاهها , ويبني عليها تصوراته وقيمه , إن هؤلاء في غالب الأحيان ليسوا سيئي النية لكنهم يعانون غالبا من أمراض نفسية ونقائص شخصية تدفعهم لتضخيم الذات وتصغير قدر الآخر..
انه يرى نفسه ناصحا لغيره غير قابل للنصح , موجها للناس غير قابل للتوجيه , معلما للآخرين غير قابل للتعليم , مفكرا غير قابل لفكر الآخر , بل في بعض الأحيان يرى نفسه مجتهدا حيث يرى الآخرين جهالا !!
دائما أتصور هؤلاء وهم يحيون في حالة من الترف البالغ , لا يعانون معاناة الناس ولا يتألمون بآلامهم أو يشعرون بمشاعرهم , إنهم في برج عاجي خاص قد بنوه خصيصا لأنفسهم حيث لا يدخله الآخرون الناقدون لهم ولا المخالفون لأفكارهم وتوجهاتهم وتصوراتهم ..
إنها حالة من اللاوعي قد أصيبت بها عقول أولئك , فلم يدرك أحدهم أنه يمارس تضليلا متعمدا لأبناء أمته سواء تم بشكل مباشر أو غير مباشر , وأنه يرتكب حماقة تجاه قضيته الكبرى وقضية أمته الجريحة , وانه يواقع تجهيلا بالغا لها , في وقت يراد منه – وهو المثقف المتعلم – ان يساهم في نهضتها وحمل هم قضيتها , ونشر قيمها وشرعتها المقدسة ... إنها أوراق فارغة مهما حاول كاتبوها من تسويدها بكل مداد الأرض !!