[email protected]
تمثل عملية التفريع الوجداني منطلقا مهما في العلاقة بين الداعية والمدعو تلك العملية التربوية النفسية التي يبث فيها المدعو آلامه وذكرياته وبعضا من تاريخه سواء في الفشل أو النجاح كما يعبر فيها المدعو عن رؤيته للحياة والأشياء من حوله وعن تقييمه للمواقف والقيم .
إذن نقصد بالتفريغ الوجداني كما اتضح تلك الحكايات والأحاديث والتعليقات التي يتحدث بها المدعو ويتلقاها المربي بتحليل وتفهم وإدراك ومن ثم يقدم له ما يناسبه من توجيه وتعليم وخبره يراها لازمة له ليتقدم سيره في الطريق إلى الله .
وتمثل الثقة الناشئة بينهما أساسا هاما ينبني عليه نجاح تلك العملية التربوية , فالشخص الذي لا يثق في مربيه الثقة اللازمة لن يبوح له بمكنوناته ولن يسأله بصدق عما يعانيه ولن يصف له بشفافية ما يختلج في صدره .
والمربي ههنا بحاجة ماسة إلى بناء الثقة , تلك الثقة التي تنبني على الإخلاص لله سبحانه والتجرد الكامل من أية مصلحة خاصة و الاحترام المتبادل والتقدير الشخصي , كذلك تنبني الثقة إذا أحس المدعو بأن هناك ما يمكن أن يقدمه له معلمه فيما يحدثه عنه , وبأن هناك خبرة حياتية يفتقدها قد يجدها عند مربيه .
والشخص إذا افتقد في معلمه تلك الصفات فاستشعره بعيدا عن التقوى مقبلا إلى الدنيا متصارعا على المتاع , سقط من نظره , وصار عديم الثقة عنده , كذلك إذا وجده قليل الخبرة هامشي النظرة فإنه سوف يعرض عن إستشارته في أموره ومشكلاته .
ولكن كيف تبنى هذه الثقة والعلاقة بينهما لا تزال حديثة عهد ؟ والجواب على ذلك يكمن في افتقاد المدعو الركن الآمن والمستشار الخبير الذي يمكنه أن يبث إليه ما يعانيه من آلام ومشكلات , وههنا يجب أن يمثل الداعية هذا الركن وهذا الصدر الممتلئ بالحرص عليه والمحبه مع تمام التجرد لله سبحانه , كما يمكنه أن يمثل له المستشار الخبير فيما له دراية وخبرة به أو يرشده إلى الخبير في ذلك ويأخذ بيده إليه إذا لم تكن له دراية بما يشكو .
كذلك تمثل حكمة المربي دورا أساسيا هاما في تلك العلاقة , فالمربي الحكيم يستمع جيدا لحديث المدعو ويذكر ما يحدثه به ويهتم بتفاصيله , ويسأله أثناء الحديث باهتمام عما لم يفهمه ويصغي له ويقبل عليه بوجهه ويخصص له وقتا مناسبا لاستماعه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الناس بوجهه ويصغي لهم ولا يترك أيديهم بعد المصافحة حتى يكونوا هم الذين يتركونها .
وهو أثناء سماعه لا يستهين بآلامه ومشكلاته مهما رآها ضئيلة وبسيطة , فقد يدور بذهن المربي أن استصغار مشكلة المدعو أمامه والتقليل من شأنها قد يكون نافعا له في التقليل من أثرها عليه , ولاشك أن ذلك قد يحدث في بعض الأحيان عندما يكون الأمر متعلقا بخوف أو تردد أو مثاله ولكن ليحذر المربي ههنا فإن المرء ينفر نفورا شديدا من كل من يشعر أنه يستهين بمعاناته .
وقد تكون آراء المدعو حول مشكلاته غير متفقة مع الصواب , وبعض المربين ههنا يصب على المدعو جام غضبه وتأنيبه ويكثر من زجره , ثم يأمره بما يراه صوابا أمرا حادا محتجا بأنه هو الصواب , وأحب هنا أن أشير إلي أن طريقة المعالجة قد تجعل المدعو لا يكرر الحديث حول مشكلاته التي يشعر أنه قد أخطأ في التعامل معها إذ إنه سيقابل بهذا الوابل من النقد , إن حكمة المربي ههنا أن يبدي له بصورة تفصيلية لماذا هو يختلف معه و ماهي سلبيات تقييمه لموقفه ومضاره ثم يعرفه الصواب ويعرفه معه طريقة تطبيقية لفعل هذا الصواب , كل هذا يتم في إطار هادىء رصين .
ولا يكتفي المربي بعملية النصح بعد سماع الشكوى وفقط , بل عليه أن يتابع شأنه ويسأل عليه مرة بعد مرة حتى يطمئن أن مشكلته قد مرت بسلام .
أمر آخر قد يغفل عنه البعض وهو أن المدعو يأتي محملا بمشاعر سلبية وآفات مجتمعية وقد يكون في ذهنه أشخاص قد رفعهم في مقام القدوة في حياته ويراهم نماذج كبيرة للنجاح بل قد يكون لديه نماذج من المشاهير الذين يراهم علماء أو فقهاء أو مربين أو دعاة أو غيرهم .. وقد تكون حقيقة الأمر أن هؤلاء لا يصلحون في ذلك المقام أو أنهم ليسوا على الجادة أو أن هناك من هو أولي بهم بتلك المكانة فههنا على المربي ألا يهدم صورة هؤلاء فجأة أمام عينية وعليه ألا يكيل لهم الأخطاء ويجمع لهم السقطات , بل يكون الأمر خطوة خطوة ودرجة درجة في بيان مقام كل على حدة وعليه أن يستبدل في ذهنه ومعرفته مكانهم بآخرين من أهل الفضل والعلم والتقى , ثم هو على أية حال لا يليق بمرب أيا كان أن ينتقد الناس ويذكر عيوبهم أمام الآخرين لأنها منقصة وشينة للمربي ذاته .
ولا يجب على المربي أن يشعر المدعو أنه يستطيع أن يحل له كل مشكلة أو أن يخرجه من كل قضية بل يعترف معه بكل وضوح بصعوبة مشكلته إن كانت صعبة وبمعوقاتها الموجودة . ولكنه لا يتركه وحده بل يشعره بذلك التعاضد والدعم معه , ويحاول أن يبذل جهده وطاقته في حلها .
ثم إن هناك خطأ آخر يقع فيه المربون وهو سعيهم أن يظهر المدعو أمامهم بالشكل الذي يحبونه ولا يتحدث سوى عما يهتمون به من مشكلات وبالطريقة التي يتبنونها وهكذا .. وهذا السبيل سبيل تربوي خاطىء فإنه يخرج أجيالا تتعامل مع مربيها ومعلمها وإخوانها بشكل – معتاد قد عهدوه - وبداخلهم تغلي المراجل من المشكلات الشخصية والأمراض النفسية والقلبية وغيرها , ثم يفاجأ المجتمع المسلم بالأخطاء الكبيرة التي تخرج منهم بعد طول فترة فيما يراه الناس استقامة وثباتا , ونصيحتنا هنا للمربين أن يتعاملوا مع مدعويهم بشكل طبيعي غير متكلف وأن يطالبوا المدعوين بعدم التكلف وعدم التصنع ويعلمونهم أن التقوى في القلوب وأن الله يحاسب العبد وحده وأنه على كل أحد أن يسعى جاهدا ليعالج أمراضه الشخصية وما يجده في قلبه , وليعلموا الناس أن يتحدثوا معهم حول ما يجدونه بكل صدق وشفافية راغبين في الصلاح الحقيقي الداخلي قبل الخارجي والقلبي قبل الجوارحي .
ويجب أن تسير كل تلك الممارسات من جهة المربي في إطار مفهوم النصيحة في الله , يقول الخطابي رحمه الله : "وأما نصيحة المسلمين فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وإعانتهم عليها, وستر عوراتهم وسد خلاتهم, ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم, وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص, والشفقة عليهم, وتوقير كبيرهم, وتخولهم بالموعظة الحسنة, وترك غشهم وحسدهم, وأن يحب لهم ما يجب لنفسه من الخير, ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه, والذب عن أموالهم وأعراضهم, وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة"
ويقول ابن القيم : " النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له والشفقة عليه, والغيرة له وعليه, فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة, ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه ,فيتلطف في بذلها غاية اللطف, ويحتمل أذى المنصوح ولائمته, ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق على المريض المشبع مرضًا, وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته, ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن, فهذا شأن الناصح "
والمرء إذا فقد الناصح فقدْ فَقَدَ أهم عوامل الاستقامة, والمربي هنا- في عملية التفريغ الوجداني- يقوم بهذا الدور الهام وهو قائم على أساس الحب الذي قد بناه بينهما, فيبتدئ المربي بتوجيهه توجيهًا يملؤه الحب والشفقة والرحمة, ويبدأ بتعديل سلوكه , فعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: (يا معاذ إني لأحبك, ثم أوصيك يا معاذ: لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)
فتأمل كلامه صلى الله عليه وسلم تجد أنه قد قدم إثبات الحب لمعاذ رضي الله عنه, ثم نصحه نصيحة تنفعه في آخرته وتضيء بها دنياه.
وينبغي أن يستمر هذا التوجيه باستمرار العلاقة التربوية التعليمية, وعلى المربي أن يختار الأوقات المناسبة للتوجيه والطريقة المناسبة للتعديل والتقويم, وإذا استوفت تلك العملية شروطها أنتجت أحلى الثمار .
وينبغي على المربي أن يطبق تلك المعاني مااستطاع , , فليس الأمر مجرد كلام لتوجيه الفعل ولكنه فعل أيضًا لتوجيه الفكر, فهي عملية أمر بالمعروف للمتعلم ونهي عن المنكر وتوجيه وتربية وإصلاح وتفريج كربة ودفع ضرر..
وأختم الحديث معك أخي القارىء بكلمات قالها ابن القيم عن شيخه ابن تيمية تبين لنا بكل جلاء ووضوح الدور المثالي للمربي والمعلم الصالح الذي أقصده من مقالي ذلك , يقول ابن القيم :" وكما إذا اشتد بنا الخوف , وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه , فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة "