لست أنسى بينما كنت صغيرا صورة هؤلاء الطيبين الذين كانوا يبتسمون في لقياي إذا التقيتهم بينما كان أبي يصحبني إلى المسجد في صلاة الصبح في أيام الصيف الصافية , كما أن ذاكرتي لا تستطيع أن تنسى الوجوه العابسة من بعض هؤلاء الذين كانوا يعبرون عن غضبهم لبعض حركاتي إذا غفلت بينما أنا في انتظار الصلاة , حتى أنني كنت أخبىء رأسي بين يدي أبي خوفا منهم وفزعا من أن ينالني منهم غضب أو أّذى ..
القلوب الصغيرة لا تنسى المواقف عادة, كما أنها لاتنسى الوجوه , وتنطبع فيها ردود الأفعال كما تنطبع فيها أساليب معاملات الأشخاص من حولها , فتبدو وكأنها شريط ذكرى قد تم طبعه وتخزينه بعناية بالغة..
كثير منا من يهمل ذلك أمام الأطفال الصغار , كثيرون يستهينون بالسلوكيات السلبية التي تصدر منهم أمام الصغار , ويغفلون أن قلوبهم الصغيرة تتأثر بها وأن هذا التأثر يظل طوال أيام حياتهم , ولربما غير ذلك في دواخلهم تغيرا سلبيا , وربما تأثرت بذلك طباعهم بعدما يكبرون , ولا نستبعد أن يكون للبيئة السلوكية السلبية هذا الأثر الكبير فيما يمكن أن يصل لمستوى الانحراف النفسي لدى البعض من هؤلاء الأطفال , فتنبت القسوة في قلوبهم أو ينبت الحقد أو عدم الثقة أو الانطواء عن الناس أو غيره من الأمراض النفسية الباطنة..
النبي صلى الله عليه وسلم وجه إلى ذاك المعنى بأساليب عملية تطبيقية , تنشىء قلوبا صغيرة كريمة نقية , لاتحمل غلا ولاحقدا ولا أذى لأحد , بل تنشأ على معاني المودة والنقاء والشفافية والمروءة , يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : " ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم , كان إبراهيم – ولده - مسترضعاً في عوالي المدينة وكان ينطلق ونحن معه فيدخل إلى البيت.... قال : فيأخذه ويقبله ثم يرجع " مسلم
ورآه رجل يوماً يقبل بعض ولده فقال : أتقبلون أبناءكم ؟ فوالله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم , فرد عليه صلى الله عليه وسلم غاضبا بقوله : " من لا يرحم لا يُرحم "البخاري .
ويروي البراء رضي الله عنه موقفا آخر فيقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحسن بن علي – حفيده – على عاتقه , وهو يقول : اللهم إني أحبه فأحبه " البخاري
إن هذه القلوب الرقيقة الصافية لا تعرف مكرا ولاخداعا , ولم تتدرب على سوء ولا شر , إنها نبتة كريمة تجب رعايتها من أول يوم لينبت فيها نبت الأخلاق الكريمة والسلوكيات المثالية المتميزة .
إنهم دوما يحبون من يتبسط معهم ويعايشهم وكأنه واحد منهم , وينفرون من الغليظ العبوس الغاضب , ويتحفزون للجاد الوقور , وقد علم صلى الله عليه وسلم طبائع ذلك العمر وكان يتعامل معه بما يحبه , ويحاول أن يبث من خلال بساطته معهم ومزاحه وتلطفه بهم معان مهمة في تقويم السلوك وتكوين الشخصية الناجحة ..
يحدثنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول : " كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فإذا سجد رسول الله وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا رفع رأسه أخذهما من خلفه أخذا رقيقا ووضعهما على الأرض فإذا عاد إلى السجود عادا إلى ظهره حتى قضى صلاته ثم اقعد أحدهما على فخذيه , يقول أبو هريرة : فقمت إليه فقلت يا رسول الله أردهما ؟ فبرقت برقه في السماء فقال لهما الحقا بأمكما " فمكث ضوءها حتى دخلا " مسند أحمد .
وتحكي لنا صحابية اسمها أم خالد عن مشهد كان في طفولتها لازالت تذكره وتقول : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وأنا صغيرة , وعلىّ قميص أصفر , فقال رسول الله : " سنه سنه " أي حسن حسن , قالت : فذهبت ألعب بخاتم النبوة على ظهر رسول الله فزجرني أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبلى واخلفي وكررها ثلاثا – يعني يدعو لها أن تبلى ثيابها فيطول عمرها – "البخاري , إنه مشهد متميز ومعبر عما نريد أن نقوله , يأتي الرجل ومعه ابنته إليه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم حبه للأطفال وأنه لا يتبرم ولا يتأفف من لقائهم , بل يبش لهم ويسعد بهم , وتجترىء البنت عليه وتتعلق على ظهره وتلعب , وهو يضحك ولا يتأفف بل يدعو لها ويكرر دعاءه ثلاث مرات ..
وتحكي لنا أم قيس بنت محصن أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطفل لها صغير رضيع لم يأكل الطعام بعد فحمله صلى الله عليه وسلم فبال الصغير على ثوبه , فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله .
وقد تكررت مواقف بول الأطفال الصغار على ثيابه وفي حجره صلى الله عليه وسلم من كثرة حبه لهم وحمله لهم , فتحكي أم الفضل زوجة عمه العباس أنه صلى الله عليه وسلم حمل الحسين بن علي فبال على ثوبه فأرادت أن تغسله له فاكتفى بنضحه أيضا .
ولم يقتصر حمله على الصبيان بل والبنات أيضا تقول أم كرز الخزاعية : " أتي النبي r بغلام فبال عليه فأمر به ونضح واتي بجارية فبالت عليه فأمر به فغسل " .
ويقول صاحبه أبو موسى الأشعري : " وُلِدَ لِي غُلَامٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ " البخاري
وكان يداعب رسول الله الأطفال حتى في طرقاته , يقول يعلى بن مرة خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم على طعام فإذا الحسين بن على يلعب في الطريق فأسرع النبي أمام القوم ثم بسط يديه ليأخذه فطفق الغلام يفر هنا ويفر هنا , ورسول الله يلاحقه ويضاحكه , بل كان يأخذ أسامه بن زيد والحسن بن علي فيقعدهما على فخذه كل على ناحية ثم يضمهما ويقول : " اللهم ارحمهما فإني أرحمهما " البخاري
وحتى في لحظات التعبد جاءته أمامه بنت ابنته زينب فحملها في صلاته فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها .الموطأ
ويقول محمود بن الربيع :" عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهى وأنا ابن خمس سنين من دلو " البخاري , يعني لازال يذكر كيف دفع صلى الله عليه وسلم الماء من فمه في اتجاهه يداعبه به وكان عمره يومها خمس سنين .
ويقول صاحبه جابر بن سمرة :" صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى ثم خرج الى أهله وخرجت معه , فاستقبله ولدان , فجعل يمسح خدي أحدهم واحدا واحدا , قال : وأما أنا فمسح خدي فوجدت ليديه بردا وريحا كأنما أخرجها من جونة عطر " مسلم .