رضيت بالله رباً
30 رمضان 1431

قال الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164].

والربوبية قائمة على ثلاثة أركان من أقر بها فقد أقر بالمثبتة له رباً، وهي: الخلق والملك والتدبير، والرضا بالله رباً أصل للدخول في الدين، وهو يشمل الرضا بخلقه تعالى المرضي له سبحانه لا الكائن لحكمة خارجة كأنواع الذنوب والمعاصي فهذه مخلوقة لله، ومِنْ خلق الله ما يكون مرضياً مراداً شرعاً، ومنه ما يكون مراداً كوناً لحكمة خارجة عن إرادته في نفسه، كخلق إبليس مثلاً وهو لعين لا يحبه الله، فالراضي بالله رباً لابد أن يرضى ما يرضاه الله مما شاء وجوده، أما ما شاء وجوده وهو لا يرضاه ولا يريده فلا يجوز للعبد أن يرضى به.

 

وثانياً: لابد كذلك من أن يرضى بملك الله الشامل لكل شيء: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88]، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].

 

ومن شأن المؤمن الرضا والاغتباط بمِلْكِ الله سبحانه وتعالى له، وقد قيل:

ومما  زادني شـرفاً وفـخراً *** فكدت بأخمصي  أطأ  الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي! *** وأن صيرت أحـمد لي نبيا

 

وثالثاً: لابد كذلك من أن يرضى بتدبير الله تعالى، قال ابن رجب رحمه الله: "والرِّضا بربوبيَّة اللهِ يتضمَّنُ الرِّضا بعبادته وحدَه لا شريكَ له، والرِّضا بتدبيره للعبد واختياره له" [الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم].

 

والذي يظهر أن الرضا بربوبية شيء من الأشياء يلزم منه الرضا بعبادته وحده لا شريك له، ويتضمن الرضا بتدبيره للعبد، وقد قال ابن القيم رحمه الله: "تفسير الرضا بالله رباً: أن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلهاً، وهو من تمام الرضا بالله رباً، فمن أعطى الرضا به رباً حقه سخط عبادة ما دونه قطعاً، لأن الرضا بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية" [مدارج السالكين 2/182].

 

وللرضا بالله رباً أسباب، قد بحث ابن القيم رحمه الله في المدارج بعضها وإن كان بحثه في معرض الرضا بالقضاء، وهو شأن أخص من الرضا بالله رباً، وحكمه يختلف عن حكم هذا، لكن يبقى فيما ذكره ما يعين على الرضا بهذه الثلاثة.

قال رحمه الله: "من أعظم أسباب حصول الرضا: أن يلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولابد، قيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت"[مدارج السالكين 2/174].

 

وللرضا بالله رباً علامات، منها ترك الجزع المنافي للصبر ناهيك عن الرضا الذي هو أعلى منزلة منه.

ومن علامات الرضا كذلك دوام الحمد والاشتغال به، بل قد يأتي الحمد بمعنى الرضا فيقال: بلوته فحمدته، أي: رضيته، ويقال: أحمد إليكم كذا: أي أرضاه لكم، قال شيخ الإسلام في التحفة العراقية: "والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا، ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد الله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه"، فمن الرضا بالله رباً حمده على خلقه وملكه وتدبيره، والقناعة بذلك، والنأي عن تسخط شيء من ذلك.

ومن علامته كذلك الشكر فالرضا مندرج في الشكر، ولا يكون الشكر بدون وجود الرضا كما ذكر ابن القيم في المدارج في منزلة الشكر.

 

والرضا بالله رباً، "يصح بثلاثة شروط:
1-    أن يكون الله عز و جل أحب الأشياء إلى العبد.
2-    وأولى الأشياء بالتعظيم.
3-    وأحق الأشياء بالطاعة.
... أن يكون الله عز و جل أحب شيء إلى العبد هذه تعرف بثلاثة أشياء أيضاً:
-    أحدها: أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها.
-    الثاني: أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته.
-    الثالث: أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته، فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول، وغيره محبوباً تبعاً لحبه، كما يطاع تبعا لطاعته، فهو في الحقيقة المطاع المحبوب.
وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضاً.

 

فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه فهو متكبر عليه، ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه فهو مشرك، ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم" .

 

وليس من شرط الرضا أن تتعطل المشاعر الإنسانية العادية، كالألم والحزن، ونحوهما، بل سادة أهل الرضا، من الأنبياء والمرسلين فمن دونهم من الناس مسهم القرح وأصابهم الأذى وخامر نفوسهم الحزن.

وهذا سؤال يخطر في الرضا بالقضاء كثيراً، وهو من كمال الرضا بالله رباً، فالرضا بالله رباً كما سبق واجب لا يتم الإيمان إلاّ به، ومن كماله الرضا بقضائه سبحانه وتعالى، ولا يرد عليه الإشكال السابق ولله الحمد.

 

قال ابن القيم رحمه الله: "ليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره، بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه، ولهذا أشكل على بعض الناس الرضا بالمكروه وطعنوا فيه وقالوا: هذا ممتنع على الطبيعة، وإنما هو الصبر، وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهية وهما ضدان؟

 

والصواب: أنه لا تناقض بينهما، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا تنافي الرضا، كرضا المريض بشرب الدواء الكريه ورضا الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ورضا المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيرها.

 

وطريق الرضا طريق مختصرة قريبة جدا موصلة إلى أجل غاية، ولكن فيها مشقة، ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة، ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها، وإنما عقبتها همة عالية ونفس زكية وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله، ويسهِّل ذلك على العبد: علمه بضعفه وعجزه، ورحمته –سبحانه- به وشفقته عليه وبره به، فإذا شهد هذا وهذا ولم يطرح نفسه بين يديه ويرضا به وعنه وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه، فنفسه نفس مطرودة عن الله بعيدة عنه، ليست مؤهلة لقربه وموالاته، أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن!

 

فطريق الرضا والمحبة تُسَيِّر العبد وهو مستلق على فراشه، فيصبح أمام الركب بمراحل! وثمرة الرضا: الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في المنام وكأني ذكرت له شيئاً من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه ومنفعته لا أذكره الآن، فقال: أما أنا فطريقتي الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة، وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره وينادي به عليه حاله" [المدارج 2/175-176].

 

________________

(1) مدارج السالكين 2/183.