ليدبروا آياته (3) - الحلقة الثامنة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
يقول الله جل وعلا في سورة الكهف: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} تقرر هذا السورة في أولها وفي وسطها، كما في سور عظيمة حقيقة مهمة، سأقف معها في هذه الحلقة أيها الإخوة الصائمون، أيها الإخوة المسلمون.
منطلق مهم جداً، وأمتنا بهذه الظروف الصعبة وقوى الاستكبار كما ترون تفعل فعلها، وكثير من وسائل الإعلام تظل الناس.
الدعاة والعلماء والصالحون والأخيار الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، يقومون بواجبهم، لكن هناك خلل قد يقع فيه البعض، تأتي هذه الآيات تحرر هذا المفهوم.
{فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}، لعلك قاتل نفسك يا محمد إن لم يؤمنوا! لا، لا تفعل ذلك.
يقرر الله –جل وعلا- في مواضع عدة فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي منهج للدعاة، للعلماء، للآمرين بالمعروف، للناهين عن المنكر.
مهمتكم هي البلاغ: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}؟ {وما على الرسول إلا البلاغ}، أما ما عدا ذلك فليس لك {ليس عليك هداهم}، {إنك لا تهدي من أحببت}، وبالمناسبة هذه الآية فيها أقوال للمفسرين لكن أرجح الأقوال، لأن البعض قد يفهما خطأ، {إنك لا تهدي من أحببت} أي: إنك لا تهدي من أحببت هدايته، لماذا؟ لأن البعض قد يقول،كيف يحب كافراً؟ لأن عمه أبو طالب كافر، فمعناه النبي صلى الله عليه وسلم يحبه؟ معناه تجوز محبة الكافر؟ طبعاً العلماء قالوا: المحبة فرق بين الطبيعية (الجبلية) وبين الشرعية، فكون الإنسان يحب عمه أو والده، لكن ليس حباً مقدماً على حب الحق.
والقول الثاني وهو الأرجح إنك لا تهدي من أحببت هدايته، هذه الآية في سورة القصص، وهذا هو الراجح، أي حبك يامحمد وحرصك على هداية عمك لا تملكه.. فالله حكيم عليم، {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} سبحانه.
إذاً، واجبنا هو البلاغ، أما ما يحدث بعد ذلك فمن رحمة الله بنا ورحمته علينا، أنه لم يربط أجرنا وجزاءنا باستجابة الناس، وإلا قد نهلك.
الانتصار الحقيقي هو الالتزام بالمنهج، آمن الناس أو لم يؤمنوا، تقرره سورة الكهف في موضع آخر، أين؟ {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً، وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، ليس هذا لك يامحمد.
ويقول الله جل وعلا: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم}، {إنك لا تهدي من أحببت}، {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين}، {قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك، ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين} آية عظيمة جداً، {لا تكونن من الجاهلين} الأمر لله من قبل ومن بعد، هذا عزاء لنا للعلماء للدعاة للأخيار، المهم أن نبين الحق، {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، {وما على الرسول إلا البلاغ}، هذه حقيقة الإنتصار.
أليس يأتي النبي يوم القيامة وهو النبي المعصوم، ومعه الرجل والرجلان؟! أليس النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والله تعالى يقول: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}، إذاً نصرهم الله جل وعلا، مع أنه لم يؤمن بهم أحد! أين النصر؟ هو الثبات على المبدأ، هو تبليغ رسالة الله جل وعلا، كما أمر الله، {وقل الحق من ربكم} لا زيادة ونقص، هذا هو الإنتصار، ولذلك أصحاب الأخدود، لا يوجد {ذلك الفوز الكبير} إلا لهم! بهذا النص، فيه (الفوز العظيم)، فيه (الفوز المبين) مع أنه –ما أقول لم يؤمن منهم أحد- قتلوا جميعاً، الرجال، الصغار، الكبار، النساء، أحرقهم هذا الملك الظالم ومع ذلك جزائهم {ذلك الفوز الكبير}،
المهم أن يلتزم الإنسان بمنهج الله جل وعلا، أن يقول الحق، لأن البعض -ألاحظ- أنه يتشنّج إذا لم يستجب له، ثم بدل أن يتنصر للحق، يحاول أن ينتصر لنفسه، لا، يا أخي الكريم هذا ليس للأنبياء، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً}، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، {لست عليهم بمصيطر}، القرآن يقرر هذه الحقائق، وهذه رحمة من الله سبحانه وتعالى.
إنما علينا أن نركزّ هل نحن على المنهج الحق أو لا؟ لأنه –أيها الإخوة- عندما يربط الإنسان دعوته باستجابة الناس يقع في ثلاثة مزالق:
إما أن يستعجل، كما استعجل بعض الشباب –هداهم الله- أرادوا إجبار الناس بالقوة، حتى وصلوا إلى التفجير والتدمير، باسم الجهاد، وليس من الجهاد –في بلاد المسلمين-، استعجال، تعدي على حدود الله.
أو التنازل، حتى يستجيب الناس يتنازل لهم، كأن الدين عرض في السوق، يقول الشيخ العلامة شيخنا ابن عثيمين –رحمه الله- الإسلام صالح لكل زمان ومكان، لكنه ليس خاضعاً لكل زمان ومكان، إنما صانع للحق، لكنه ليس خاضعاً كما يريد بعض طلاب العلم والدعاة، أن يخضعوا الدين للناس، ولشهوات الناس، ولمصالح الناس، لا، يجب أن يرتفع الناس لمستوى هذا الدين {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.
طيب، إذا لم يستجيبوا {ليس عليك هداهم} {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، المهم أن يكون عملك على المنهج.
النوع الثالث: هو اليائسون، لمّا لم يستجب الناس، ودعوا وأمروا ونهوا، لم يستجيبوا يأسوا وقنطوا {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء}، لا تيأس، أنت بلغ رسالة الله –جل وعلا- المهم أن تحسن عملك، ولذلك جاءت هذه الآية بعد هذه الآية {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}، {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}، العبرة بحسن العمل، وليس بكثرة العمل.
ولذلك جاءت آياته تقرر هذا المعنى، ليست العبرة بكثرة الصيام، والصلاة، وكثرة القرآن.
قراءة القرآن بدون تدبر، شخص يقرأ سورة بتدبر، أفضل من أن يقرأ القرآن كله بدون تدبر، هذّاً كهذّ الشعر، كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
تقرر هذه الحقيقة آيات كثيرة جداً، لأن الناس مع كل أسف موازينهم هو كثرة العمل، وهذا غير صحيح، نعم كثرة العمل مع حسن العمل نعم، لكن كثرة العمل، بدون حسن العمل، لا قيمة له.
العبرة بحسن العمل، لذلك يقول أحد التابعين، إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه، بكثير صلاة وصيام، ولكن شيء وقر في قلبه، لذلك سميّ الصديق، والصدق في القلب، ولا يعني أن عمله قليل، كلا، لكنه بالنسبة لما قد يتصوره البعض، العبرة بما في قلبه مع عمله، ومع التزامه.
ولذلك يقول الله جل وعلا، {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}، ويقول سبحانه: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات –في سورة الكهف أيضاً- إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً}، ويقول في سورة الملك: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} تقرر هذه الحقيقة آيات كثيرة جداً، {أؤلئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا}، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم، ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}، {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون مادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ماعملوا}، هل بعد هذه الآيات شيء.
فانظروا إلى حسن عملكم، ليست العبرة في الصوم، لا، «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه» أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لم يدع الكذب، قول الزور، الغيبة، ليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، ليست العبرة في أن تمسك مع الفجر إلى الليل، العبرة في حسن صيامك، «وإن سابه أحد أو.. فليقل إني امرؤ صائم» العبرة في قراءة القرآن بالحضور، بالتدبر، بحضور القلب، العبرة في الصلاة، يصلي رجلان في الصف، بينهما في الصلاة ما بين المشرق والمغرب!! صلاتهما واحدة، لو نظرنا إلى صلاتهما قد تكون دقيقة منضبطة، هو بحضور القلب وحسن العمل.
فكذلك في الدعوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حسن العمل، والصدق مع الله.
بهذا نوفق أيها الإخوة، إذاً نكون انتهينا إلى هذه النتائج المهمة فيما يتعلق بأن نلتزم بالمنهج الحق {وقل الحق من ربكم}، فلا تذهب أنفسنا على من عصى وتكبر، وسنجد الجزاء يوم القيامة، بل أختم بهذه الكلمة إذا اشتد الأذى عليك، وعدم استجابة الناس، وأنت ثابت على دينك، مطرد على عقيدتك ومنهجك أعظم لأجرك، وهذا هو الصابر، -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- وسماهم إخوانه، لهم أجر خمسين أو سبعين، من؟ من الصحابة، هم الغرباء كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، فالثبات الثبات، ولنركز على حسن أداء العمل، والثبات على منهجنا، هكذا تقرر هذه السورة وغيرها.
أسأل الله، الصدق والإخلاص وحسن العمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.