أثر التقادم في الواجبات المالية
20 محرم 1435
د. محمد بن سعود الخميس

المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن دين الإسلام دين شامل، ومنهاج متكامل، يحيط بجوانب حياة الناس إحاطة كاملة، فيكفل لهم ما يحقق مصالحهم، ويبين لهم وجه الحق فيما يحتاجونه فيه إلى بيان، فما من خير إلا دل عليه، وما من شر إلا حذر منه.
وإن من المواضيع التي تمس الحاجة إليها، وترتبط بحياة الناس ارتباطاً وثيقاً: الأمور المالية، ومعلوم ما ينتج عن التعامل المالي من ترتيب الديون في الذمة، وهذا أمر موجود من قديم الزمان، إلا أنه في وقتنا الحاضر ازداد وقوعاً وبروزاً، فأصبحت الحاجة ماسة لبيان أحكامه.
ومن خلال نظري وبحثي في كثير من مسائل المعاملات المالية وجدت أن موضوع "أثر التقادم في الواجبات المالية" جديرٌ بالدراسة، وذلك لما يأتي:
1- ارتباط هذا الموضوع بحياة الناس.
2- تشعّب أقوال أهل العلم وكثرتها في هذه المسألة، فرغبت في جمع وتحرير مذاهب الأئمة فيها.
وقد بذلت في هذا البحث الجهد، واستفرغت الوسع قدر الإمكان، فإن أصبت فلله الفضل والمنة، وإن كانت الأخرى فمن نفسي، ولعلي لا أعدم قارئاً ناصحاً، وأخاً مسدداً، فالمسلم مرآة أخيه المسلم، كما أسأله سبحانه أن يتقبل منا صالح العمل، ويتجاوز عن الزلل، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول.

المبحث الأول: تعريف التقادم
تعريف التقادم في اللغة:
قال ابن فارس (ت 395هـ): القاف والدال والميم أصل صحيح يدل على سبقٍ... ثم يفرّع منه ما يقاربه، يقولون: القِدَم خلاف الحدوث، ويقال: شيء قديم، إذا كان زمانه سالفاً(1).
وقال الجوهري (ت 393هـ): قدَم – بالفتح – يقدُم قدماً، أي تقدّم، قال الله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]، وقدُم الشيء – بالضم – قدماً فهو قديم، وتقادم مثله(2).
وقال ابن منظور (ت 711هـ): .. والقِدَم نقيض الحدوث.. وتَقادَمَ وهو قدِيم، والجمع قُدماء وقُدامى(3).
وهذه النقولات تدل على أن لفظ القدم يطلق على السبق ومرور الزمن، وأن القديم ضد الحديث.
تعريف التقادم في الاصطلاح:
لا يخرج المعنى الاصطلاحي في الفقه عن المعنى اللغوي، جاء في معجم لغة الفقهاء: "التقادُم: - بضم الدال – من قدم: مضي الزمن الطويل على وجود الشيء، وتقادم الدعوى: مرور مدة طويلة (يحددها النظام) على الدعوى دون أن يحركها صاحبها"(4).
أما في كلام الفقهاء المتقدمين فلم أقف – فيما اطلعت عليه – على مَن ذكر للتقادم تعريفاً بالمعنى الذي يضبطه، سوى ما يدل على أن المراد به طول الزمن، وذلك في مواضع، ومنها:
ما جاء في (مدونة الإمام مالك) – رحمه الله – في كتاب الشهادات فصلٌ بعنوان: في شهادة السماع في الدور المتقادم حيازتها(5).
والمتقادم حيازتها ضد من قربت حيازتها، ولهذا جاء في (المدونة) أيضاً: فصلٌ في الشهادة على السماع في الدور القريب حيازتها(6).
وقال النووي (ت 676هـ) في مسألة اشتراط العدالة في الشاهد أو المعدِّل: ثم ظاهر لفظ الشافعي - رحمه الله – اعتبار التقادم في المعرفة الباطنة؛ لأنه لا يمكن الاختبار في يوم أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة الفحص والإمعان تقوم مقام التقادم في المعرفة الباطنة(7).
وقال ابن نجيم (ت 970هـ): والأصل أن الحدودَ الخالصة حقاً لله تعالى تبطل بالتقادم؛ لأن الشاهد مخير بين حِسبتين: أداء الشهادة والستر، فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالإقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيّجتهُ أو لعداوة حركته، فيُتهم فيها، وإن كان التأخير لا للستر فيصير فاسقاً آثماً، فتيقنّا بالمانع...(8).

المبحث الثاني: أثر التقادم في سقوط الزكاة
إذا أخّر شخص الزكاة لعذر أو لغير عذر، فمرّ عليه عام أو أعوام دون أدائها وإيتائها لمستحقها، فهل يجب عليه زكاة ما مضى من الأعوام؟
اختلف العلماء في هذه المسألة، واختلافهم مبني على الخلاف في تعلّق الزكاة: هل هو بعين المال أم بذمة المزكي؟ فمن قال: إنها متعلقة بذمة المزكي، فإذا حال على ماله حولان أو أكثر ولم يؤد زكاته وجب عليه أداؤها لما مضى، ومن قال: إن الزكاة متعلقة بعين المال فإنه يرى أنه لا زكاة عليه لما مضى، إلا إذا كان ما يملكه يزيد عن النصاب(9).
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الزكاة تتعلق بذمة المزكي، وهو قول عند المالكية(10)، والقول القديم عند الشافعية(11)، وهو رواية عند الحنابلة(12)، وهو مذهب الظاهرية(13).
القول الثاني: أن الزكاة تتعلق بعين المال، وهو مذهب الحنفية(14)، وظاهر مهب المالكية(15)، والقول الجديد عند الشافعية(16)، وهو رواية عن الإمام أحمد، هي ظاهر مذهبه(17).
القول الثالث: أن الزكاة تجب في عين المال، ولها تعلق بالذمة، وهو قول عند الحنابلة(18).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في مائتي درهم خمسة دراهم"(19)، وقوله: "في أربعين شاة شاة"(20).
وجه الاستدلال: أن الشارع أضاف الإيجاب إلى مالٍ لا بعينه، فقد أوجب "خمسةً" "وشاةً" لا بعينها، والواجب إذا لم يكن عيناً كان في الذمة، كما في صدقة الفطر ونحوها(21).
الدليل الثاني: الإجماع على أن إخراج الزكاة من غير النصاب جائز، ولو كانت متعلقة بعين المال لما جاز لرب المال أن يعطي الفقراء من غيرها، وذلك كحق الشريك والمضارب، فليس للشريك أن يعطي شريكه من غير العين التي هم فيها شركاء(22).
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن الأصل أن يكون الإخراج من النصاب، وإنما جاز الإخراج من غير النصاب رخصة، لأن الزكاة مبنية على المسامحة والإرفاق، فيحتمل فيها ما لا يحتمل في غيرها(23).
الدليل الثالث: أن الزكاة لو وجبت في عين المال لامتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، ولظهر شيء من أحكام وجوبها في عين المال، وذلك غير موجود، فتبين أنها متعلقة بالذمة(24).
الدليل الرابع: أن الزكاة لو وجبت في عين المال لسقطت بتلف النصاب من غير تفريط، كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني، لكنها لا تسقط بذلك، فتبين أنها متعلقة بذمة المزكي(25).
الدليل الخامس: أن غاية الأمر أن قَدْرَ الزكاة أمانة في يده، لكنه مطالب شرعاً بالأداء بعد التمكن منه، ومن منع الحق عن المستحِق بعد طلبه فإنه يضمن كما في سائر الأمانات(26).
الدليل السادس: أن الزكاة واجبة كسائر الواجبات، فلا تسقط بمضي الزمان، كما لا تسقط الصلاة بعد دخول وقتها، حتى وإن لم يتمكن المكلف من أدائها(27).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:23-24]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاةً شاة"(28)، وقوله: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بدالية أو نضح نصف العشر"(29).
وجه الاستدلال: أن حرف الجر (في) يدل على معنى الظرفية، وقد دخلت على المال، وهذا يدل على تعلق الزكاة بعين المال(30).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن هذا الاستدلال غير مسلّم؛ لأن هذه الأدلة مجملة وليست صريحة على ما ذُكر، وحرف (في) له عشرة معانٍ، منها الظرفية(31)، وقد يكون المعنى بيان الحد، أي: عن كل أربعين شاة شاة.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه لما أرسله إلى اليمن: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر"(32)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هاتوا صدقة الرِّقة(33) من كل أربعين درهماً درهماً.."(34).
وجه الاستدلال: أن حرف الجر (من) يدل على معنى التبعيض، وقد دخلت على المال، ومقتضى ذلك أن تكون الزكاة بعض المال، وهذا يدل على تعلقها به(35).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن حرف (من) له معانٍ متعددة تصل إلى خمسة عشر معنى، ومن معانيه أنه مرادف للحرف (عن)، ومنه قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]، وقوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97](36)، فيكون المعنى: عن كل أربعين درهماً درهمٌ.
الدليل الثالث: أن الزكاة تختلف باختلاف أجناس المال وصفاته، ولذا يجب في الجيد والوسط والرديء ما يليق به، فعلم أنها متعلقة بعينه لا بالذمة، تحقيقاً لمعنى المواساة فيها(37).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن إخراج الزكاة من جنس المال ليس مطرداً، بدليل زكاة ما دون خمس وعشرين من الإبل، وزكاة عروض التجارة، ونحو ذلك.
الدليل الرابع: أن هذا حق طرأ على المال، فلم يُنقَل إلى الذمة ابتداءً كجنابة العبد المتعلقة برقبته(38).
أدلة القول الثالث:
استدلوا بأن هذا القول فيه جمع بين القولين وإعمال للأدلة فيهما(39).
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – هو القول الثالث القائل بأن الزكاة تجب في المال ولها تعلق بالذمة؛ لما استدلوا به، وللمناقشة التي ترد على القولين الأول والثاني، وبناءً على هذا الترجيح فإن الزكاة لا تسقط بمضي الزمان؛ لأنها دَيْن الله، ودَيْن الله أحق بالقضاء(40)، كالصيام، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيت لو كان عليها دَيْنٌ، أكنت تقضينه؟
قالت: نعم، قال: فدَيْن الله أحق بالقضاء(41)، ولأن الزكاة حق الفقراء والمساكين وسائر المستحقين، فلا تسقط بمضي الزمان كسائر الحقوق، والله أعلم.

المبحث الثالث: أثر التقادم في سقوط الدَّيْن
إذا تأخر شخص في أداء الدين المستحَق عليه، فمرّ عليه عام أو أعوام دون أدائه، فهل يؤثر هذا التقادم في استحقاق الدّين؟ لم أقف على نصٍّ عن أهل العلم على أن هذا التقادم مؤثر، ولكن مقتضى كلامهم الاتفاق على عدم سقوطه(42).
ويمكن أن يُستدل لهذا بالنصوص التي دلت على وجوب وفاء الدَّين، وعدم سقوط المطالبة به حتى بعد الموت، ومنها ما يأتي:
أولاً: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: من الآية11].
وجه الاستدلال: أن الآية دلّت على أن قسمة المواريث لا تكون إلا بعد قضاء الدين والوصية، وهذا يدل على ثبوته،وأنه لا يسقط بمرور الزمن، قال ابن كثير (ت 774هـ): أجمع العلماء سَلفاً وخَلفاً على أن الدَّيْن مقدم على الوصية(43).
ثانياً: عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّيْن؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك(44).
ثالثاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدَّيْن، فيسأل: هل ترك لدَيْنه من قضاء؟ فإن حُدّث أنه ترك وفاءً صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته"(45).
رابعاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلّقة بدينه حتى يقضى عنه"(46).
قال ابن عبد البر (ت 463هـ): "وفيه دليل على أن أعمال البر المتقبَّلات لا يكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه، فأما تبعات بني آدم فلا بد فيها من القصاص"(47).
وقال النووي (ت 676هـ): "فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوقَ الله تعالى"(48).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) عن الرجل يتديّن ثم يعسر ويموت هل يطالَب به؟ فأجاب: نعم، يستوفيه صاحبه، فإن الدين لا بد من وفائه؛ ولهذا ثبت في الصحيح "أن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدَّيْن"(49)(50).

المبحث الرابع: أثر التقادم في سقوط النفقة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أثر التقادم في سقوط نفقة الزوجة
إذا ترك الزوج نفقة زوجته مدة معينة لسبب من الأسباب، فهل تسقط هذه النفقة بمضي الزمان أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان مطلقاً، وهو مذهب الشافعية(51)، وهو المذهب عند الحنابلة(52).
القول الثاني: أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان إذا ترك الزوج الإنفاق بسبب الإعسار فقط، وهو مذهب المالكية(53).
القول الثالث: أن نفقة الزوجة تسقط بمضي الزمان، إلا إذا فرضها الحاكم أو تراضيا عليها، وهو مذهب الحنفية(54)، ورواية عن الإمام أحمد(55).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: ما روي "أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى"(56)(57).
وجه الاستدلال: أن هذا الأثر صريح في إيجاب نفقة الزوجة لما مضى من الزمان، ومثل هذا لا يقوله عمر رضي الله عنه برأيه، فهو سنّة علمها، ولم يخالف عمرَ رضي الله عنه في ذلك أحدٌ من الصحابة.
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن عمر رضي الله عنه إنما أمر الأزواج إذا طلقوا أن يبعثوا بنفقة ما مضى، ولم يأمرهم إذا قدِموا أن يفرضوا نفقة ما مضى، ولا يلزم من الإلزام بالنفقة الماضية بعد الطلاق وانقطاعها بالكلية الإلزام بها إذا عاد الزوج إلى النفقة والإقامة واستقبل الزوجة بكل ما تحتاج إليه(58).
ويجاب عن هذه المناقشة بأن النفقة إذا ثبتت قبل الطلاق فتثبت قبله، إذ لا فرق؛ لأنها حق ثبت عن مدة ماضية، فما دامت لم تسقط فلا فرق بين الفرقة وعدمها.
الدليل الثاني: أن نفقة الزوجة حق يجب مع اليسار والإعسار، فلم يسقط بمضي الزمان، قياساً على أجرة العقار والديون، كما أن الأجرة والدَّيْن لا تسقط بمضي الزمان بالإعسار أو بغيره، فكذلك نفقة الزوجة لا تسقط بمضيه، بجامع أن كلاً منهما حق من حقوق العباد(59).
الدليل الثالث: أن النفقة قد وجبت، والأصل أن كل ما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، كسائر الواجبات(60).
الدليل الرابع: أن نفقة الزوجة وجبت بالعقد فلا تحتاج إلى حكم الحاكم أو إلى تراضي الزوجين في صيرورتها دَيْناً بعد العقد كالصداق(61).
الدليل الخامس: أن وجوب نفقة الزوجة هو باعتبار قيام الزوج عليها بعد العقد، وقد تقرر ذلك، فيصير دَيْناً بدون حكم الحاكم، كالأجرة تصير ديناً باستيفاء المنفعة بعد العقد(62).
أدلة القول الثاني:
استدلوا بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7]، وهذا معسر لم يؤته الله شيئاً، فلا يكلف بالنفقة في حال إعساره، ولا يلزمه قضاء ما ترك حال الإعسار؛ لأنها ساقطة عنه في هذه الحال(63).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الآية لا دلالة فيها على سقوط قضاء النفقة بعد الإيسار، بل غاية دلالتها عدم التكليف بالنفقة حال الإعسار، ولا يلزم من ذلك سقوطها، كما أن الدين يُمنع من المطالبة به إذا كان المدين معسراً، ولا يلزم من ذلك سقوطه.
أدلة القول الثالث:
الدليل الأول: أن هذه نفقة الزوجة تجري مجرى الصلة وإن كانت تشبه الأعواض، لكنها ليست بعوض حقيقة؛ لأنها لو كانت عوضاً حقيقة، فإما أن تكون عوضاً عن نفس المتعة وهي الاستمتاع، وإما أن تكون عوضاً عن ملك المتعة وهي الاختصاص بها، ولا سبيل إلى الأول، لأن الزوج ملك متعتها بالعقد، فكان هو بالاستمتاع متصرفاً في ملك نفسه باستيفاء منافع مملوكة له، ومن تصرف في ملك نفسه فإنه لا يلزمه عوض لغيره، ولا وجه للثاني لأن ملك المتعة قد قوبل بعوض مرة، فلا يقابل بعوض آخر، فخلت النفقة عن معوض، فلا يكون عوضاً حقيقة، بل كانت صلة، ولذلك سماها الله تعالى "رزقاً" كرزق القاضي، والصلات لا تملك بأنفسها، بل بقرينة تنضم إليها وهي القبض، كما في الهبة أو قضاء القاضي، لأن القاضي له ولاية الإلزام في الجملة أو التراضي، ثم إن ولاية الإنسان على نفسه أقوى من ولاية القاضي عليه(64).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بعدم التسليم بأن نفقة الزوجة صلة بل هي عوض، لأن النفقة شرعت عوضاً عن الاحتباس الذي يستحقه الزوج على زوجته.
الدليل الثاني: أن ما يكون عوضاً عن البضع يجب جملةً واحدة؛ لأن مِلك الزوج للبضع يحصل جملة، ولا يجوز أن تكون النفقة عوضاً عن الاستمتاع والقيام عليها، لأن ذلك تصرف منه في ملكه، فلا يوجب عليه عوضاً، فعرفنا أن نفقة الزوجة طريقها طريق الصلة، وتأكدها إما بحكم حاكم أو بالتراضي بين الزوجين(65).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن نفقة الزوجة تسقط بامتناعها ونشوزها، وهذا يدل على أن النفقة في مقابل الاستمتاع والتمكين، وليست مجرد صلة.
الدليل الثالث: أن نفقة الزوجة مشروعة للكفاية، فلا تصير دَيْناً بدون حكم الحاكم، قياساً على نفقة الوالدين والأولاد التي لا تصير دَيْناً بمجرد مضي الزمان(66).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن تقدير الكفاية في النفقة هو لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة – رضي الله عنها – لما قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(67).
وأيضاً فإن النفقة لازمة للزوج ولو كانت الزوجة غنية، وهذا يدل على أنها لا تفتقر إلى حكم حاكم في بقائها ديناً في ذمة الزوج.
الدليل الرابع: أن نفقة الزوجة تجب يوماً بيوم، فهي كنفقة القريب، فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم(68).
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن قياس نفقة الزوجة على نفقة القريب ليس بصحيح، لأن نفقة الزوجة على سبيل المعارضة، ولهذا تجب مع يسار الزوج وإعساره، بخلاف نفقة القريب فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار من المنفق عليه، وقد وجبت لتيسير الحال، فإذا مضى زمنها استغنى عنها، فأشبه ما لو استغنى عنها بيساره، وهذا بخلاف نفقة الزوجة(69).
الدليل الخامس: أن نفقة الماضي قد استغنت عنها الزوجة بمضي وقتها، فتسقط كنفقة القريب(70).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن نفقة الزوجة هي مقابل الاستمتاع والتمكين، وهي لازمة للزوجة الغنية، وبهذا فارقت نفقة القريب التي شرعت لدفع الحاجة.
الدليل السادس: ما قاله ابن القيم – رحمه الله – (ت 751هـ): "إن نفقة الزوجة كنفقة القريب بالمعروف وكنفقة الرقيق، فالأنواع الثلاثة إنما وجبت بالمعروف مواساة لإحياء نفس من هو في ملكه، وحبسه، ومن بينه وبينه رحم وقرابة، فإذا استغنى عنها بمضي الزمان فلا وجه لإلزام الزوج بها، وأي معروف في إلزامه نفقة ما مضى وحبسه على ذلك، والتضييق عليه، وتعذيبه بطول الحبس، وتعريض الزوجة لقضاء أوطارها من الدخول والخروج وعشرة الأخدان بانقطاع زوجها عنها وغيبة نظره عليها، كما هو الواقع، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله... ومعاذ الله أن يأتي شرع الله الفساد الذي قد استطار شراره واستعرت ناره"(71).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الشريعة الإسلامية جاءت بجلب المصالح ودرء المفاسد، وإذا فتح هذا الباب – وهو إسقاط نفقة الزوجة بمضي الزمن – فإن الزوج سوف يتساهل في الإنفاق على زوجته، باعتبار أنها سوف تسقط بمضي الزمان، فتكون الزوجة في النهاية مظلومة.
الدليل السابع: أن هند بنت عتبة – رضي الله عنها – عندما شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان لا يعطيها كفايتها، أباح لها أن تأخذ في المستقبل قدر الكفاية، ولم يجوّز لها أخذ ما مضى(72).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن هند لم تدّع بنفقة ماضية، ولم تطلب الحكم عليه فيما ذكرته، وإنما سألته: هل يجوز لها الأخذ من ماله بغير علمه إذا كان بخيلاً بالواجب؟ فأجابها بأن تأخذ قدر كفايتها، وهذا من باب الفتيا؛ لأنه لم يسألها البينة، ولم يسأل عن زوجها: أحاضر هو أم غائب؟
الدليل الثامن: أن إلزام الزوج بنفقة زوجته في المدّة التي ترك فيها الإنفاق يؤدي إلى نشوء العداوة والبغضاء بين الزوجين، وهو ضد ما جعله الله بينهما من المودة والرحمة(73).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن إلزام الزوج بنفقة زوجته في المدة التي ترك فيها الإنفاق لا يؤدي إلى نشوء العداوة بين الزوجين، بل إن ترك الإنفاق وسقوطه عما مضى يؤدي للعداوة والبغضاء؛ لأن الزوجة في هذه الحالة مسلوبة الحق ومظلومة بعد إعطائها حقوقها.
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – هو القول الأول القائل بأن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، لقوة ما استدلوا به ووجاهته، ولمناقشة أدلة القولين الآخرين، ولأن الأصل أن ما وجب على الإنسان يبقى ديناً في ذمته حتى يوفيه أو يبرئه صاحبه منه.
المطلب الثاني: أثر التقادم في سقوط نفقة الأقارب
إذا مضت مدة ولم ينفق من تجب عليه النفقة على قريبه لسبب من الأسباب، فهل تسقط نفقة ما مضى أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن نفقة القريب تسقط بمضي المدة مطلقاً، وهو مذهب الحنفية(74) وهو المذهب عند الحنابلة(75).
القول الثاني: أن نفقة القريب تسقط بمضي المدة إلا إذا فرضها الحاكم، وهو مذهب المالكية(76)، وقول عند الحنابلة(77).
القول الثالث: أن نفقة القريب تسقط بمضي المدة إلا إذا فرضها الحاكم أو أذن له في الاقتراض على قريبه، وهو مذهب الشافعية(78).
القول الرابع: أن نفقة القريب تسقط بمضي المدة ولو فرضها الحاكم إلا إذا أذن له الحاكم في الافتراض على قريبه، وهو قول عند الحنابلة(79).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: أن نفقة القريب وجبت لدفع الحاجة وإحياء النفس وتيسير الحال، وقد حصل له ذلك في الماضي بدونها(80).
الدليل الثاني: أن نفقة القريب لا تجب مع يسار المنفَق عليه، وهذا يوجب سقوطها، سواء أفرضت أم لم تفرض(81).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الحاكم لا يفرض النفقة على القريب إلا إذا تحققت شروطها، ومنها حاجة المنفَق عليه.
أدلة القول الثاني: استدلوا بأن نفقة القريب إذا فرضها الحاكم تتأكد بذلك، فلا تسقط بمضي الزمان كنفقة الزوجة(82).
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن فرض الحاكم إما أن يُعنى به إيجاب النفقة، أو إثباتها، أو تقديرها، فإن أريد به إيجاب النفقة فهو تحصيل الحاصل، ولا أثر لفرضه، وكذلك إن أريد به إثبات النفقة ففرضه وعدمه سيان، وإن أريد به تقدير النفقة فالتقدير إنما يؤثر في صفة الواجب من حيث الزيادة والنقصان لا في سقوطه ولا ثبوته، فلا أثر لفرضه فيا لواجب ألبتة، هذا مع ما في التقدير من مصادمة الأدلة التي تدل على أن الواجب النفقة بالمعروف، فيطعمهم مما يأكل ويكسوهم مما يلبس(83).
أدلة القول الرابع: لم أقف على دليل له، ويمكن أن يستدل له بأن الحاكم له ولاية عامة، فإذا أذن للقريب بالاقتراض على قريبه، صار إذنه ديناً في ذمة هذا القريب، فلا يسقط بمضي الزمان.
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – هو القول الثالث القائل بأن نفقة القريب تسقط بمضي المدة إلا إذا فرضها الحاكم أو أذن له في الاقتراض على قريبه، لقوة دليل هذا القول ووجاهته، ولمناقشة أدلة الأقوال الأخرى.

المبحث الخامس: أثر التقادم في سقوط الجزية(85)
إذا وجبت الجزية على الذمي، ومضت مدة ولم تؤخذ منه، فهل تسقط هذه الجزية بحيث تتداخل الجزية المتكررة ويكتفى بجزية واحدة، أو لا تتداخل وتستوفى منه جزية جميع السنوات الماضية؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن الجزية لا تسقط بمضي المدة، بل تجب على الذمي جزية كل سنة، ولا تتداخل بتكرر السنين، وهو مذهب المالكية(86)، والشافعية(87)، والحنابلة(88)، وقول صاحبَي أبي حنيفة(89).
القول الثاني: أن الجزية تتداخل بمضي المدة، فلا يطالب الذمي إلا عن جزية السنة التي هو فيها، أما جزية السنوات الماضية فلا تؤخذ منه، وهذا القول هو مذهب الإمام أبي حنيفة(90).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قياس الجزية على سائل الحقول المالية، فكما أن الحقوق المالية كالزكاة والديون والديات – مثالاً – لا تسقط بمضي المدة ولا تتداخل، فكذلك الجزية لا تسقط ولا تتداخل، بجامع أن كلاً منهما واجب مالي ثبت في الذمة(91).
الدليل الثاني: أن الجزية وجبت عوضاً عن حقن الدم والمساكنة، وكل ما كان كذلك إذا اجتمع وأمكن استيفاؤه على الوجه المشروع لزم استيفاؤه، ولم يتداخل بتكرر السنين كالأجرة(92).
الدليل الثالث: قياس الجزية على خراج الأرض، فكما أن الواجب في الأرض الخراجية لا يتداخل بتكرر السنين، فكذلك الجزية لا تتداخل بتكرر السنين، بجامع أن كلاً منها حق يمكن استيفاؤه؛ ولأن الذمي بقي مستمراً على كفره، واستيفاء الجزية منه ممكن(93).
مناقشة هذا الدليل: نوقش بأن قياس الجزية على خراج الأرض قياس مع الفارق، فإن المجوسي إذا أسلم بعد مضي السنة لا يسقط عنه خراج الأرض وتسقط عنه الجزية، وهذا يدل على أن الجزية ليست كالخراج(94).
أدلة القول الثاني:
الدليل الأول: أن الجزية عقوبة على الكفر، والعقوبات إذا تكررت تداخلت، خاصة إذا كانت من جنس واحد كالحدود، ألا ترى أن من زنى مراراً، ثم رفع أمره إلى الإمام لم يُستوف منه إلا حد واحد(95).
مناقشة هذا الدليل: نوقش من وجهين:
الأول: أن هذا منتقض بمن أفطر بالجمع في شهر رمضان، ثم أفطر فيه في يوم ثان، لم تتداخل الكفارتان وإن كانتا من جنس واحد(96).
الثاني: أن المعنى في الحدود أنه لا مال فيها، فجاز أن تتداخل كالقطع في السرقة، والجزية مال، فلم تتداخل كبقية الأموال(97).
الدليل الثاني: أن المقصود من دفع الجزية ليس المال، بل المقصود استذلال الكافر واستصغاره؛ لأن إصراره على الشرك في دار التوحيد جناية يستحق الاستذلال والاستصغار عليها، وهذا المقصود يحصل باستيفاء جزية واحدة، فلو أخذنا من الذمي أكثر من جزية لم يكن ذلك إلا لقصد المال، والمال غير مقصود، ولهذا لا تبقى بعد موته وإسلامه(98).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الذمي إذا تعددت عليه الجزية، وأخذت منه الجزية لما مضى، فإن هذا سيكون أبلغ في الاستصغار والإذلال، من الاستصغار والإذلال الحاصل بجزية واحدة عما مضى من السنين.
الدليل الثالث: أن الجزية بدل عن القتل في حق الذميين، وبدل عن النصرة في حق المسلمين، وهذا المعنى يتم باستيفاء جزية واحدة، فلا حاجة إلى استيفاء جزية ما مضى؛ لأن ذلك إنما يكون في المستقبل لا في الماضي، لأن الماضي وقعت الغنية عنه بانقضائه فانقطعت الحاجة إليه(99).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن كون الجزية وجبت بدلاً عن النصرة وحقن الدم، فلذلك يستدعي أخذها من الذمي عما مضى من السنين؛ لأنه قد استوفى في مقابلها، فهي بدل عن النصرة وحقن الدم في كل سنة، ولذلك تكرر الجزية كل عام تبعاً لذلك.
الدليل الرابع: أن الجزية إنما وجبت من أجل رجاء إسلام المأخوذ منه،وإذا لم يسلم حتى دخلت السنة الأخرى انقطع الرجاء في السنوات الماضية، وبقي الرجاء في السنوات المقبلة، فتؤخذ الجزية للسنة المقبلة لا للسنة الماضية(100).
مناقشة هذا الدليل: يناقش بأن الجزية شرعت ليس لأجل رجاء إسلام الذمي فقط، فهناك مقاصد غير ذلك، كاستذلاله وصغاره، وحقن دمه وإقامته في دار الإسلام.
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – هو القول الأول القائل بأن الجزية لا تسقط بمضي المدة، ولا تتداخل بتكرر السنين، لقوة أدلة هذا القول ووجاهتها، ولقوة مشابهة الجزية لسائر الحقوق والأعواض المالية، ولمناقشة أدلة القول الآخر، وكذلك فإن القول بسقوط الجزية عما مضى يفتح باب التأخير في دفع الجزية، وهو مدعاة إلى مماطلة أهل الذمة في أدائها إذا عرفوا أنه لا يؤخذ منهم ما مضى إلا لسنة واحدة، وهذا بعيد عن مقاصد الشريعة، ولهذا "لو قيل بمضاعفة الجزية على من تأخر في أدائها عقوبة له لكان أقوى من القول بسقوطها"(101).

المبحث السادس: أثر التقادم في سقوط الخراج(102)
إذا مضى على الأرض الخراجية سنوات ولم يستوف خراجها، فهل يسقط خراجها ويكتفى بخراج السنة الأخيرة أو لا، بحيث يجب خراج كل سنة؟
الحق أن الخلاف في هذه المسألة شبيه بالخلاف في المسألة التي قبلها – أعني الخلاف في سقوط الجزية بمضي الزمان – وإن لم أجد من صرح بذلك إلا الحنفية، ولهم في سقوط الخراج بمضي المدة قولان:
القول الأول: أن الخراج لا يسقط بمضي الزمان بل يجب أن يستوفى جميع ما مضى، وهذا القول رواية عن أبي حنيفة وقول صاحبيه(103)، وهو مقتضى مذهب المالكية والشافعية والحنابلة فيما يظهر، قياساً على قولهم في المسألة السابقة، وهي سقوط الجزية بمضي الزمان.
القول الثاني: أن الخراج يسقط بمضي الزمان، وإذا تكرر الخراج بتكرر السنين فإنه لا يجب إلا خراج السنة الأخيرة، وهو رواية عن أبي حنيفة قدمها بعض الحنفية(104).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
يمكن الاستدلال لهذا القول بما تقدم من أدلة عدم سقوط الجزية بمضي المدة؛ لأن الخراج حق مالي يجب في الأرض الخراجية كل سنة، فلم يكن تكرره موجباً لسقوطه، كالزكاة في الأرض العشرية، وغيرها من الحقوق المالية.
أدلة القول الثاني:
استدلوا بما سبق الاستدلال به على عدم سقوط الجزية بمضي المدة، من أن الخراج والجزية عقوبة، والعقوبات تتداخل عند تكررها(105)(106).
الترجيح:
كما أن الراجح في المسألة السابقة هو عدم سقوط الجزية بمضي المدة، فكذلك الراجح في هذه المسألة عدم سقوط الخراج بمضيها؛ لأن الخراج حق مالي، فلا يسقط بمضي السنين، كبقية الحقوق المالية، بل هو أولى في عدم سقوطه من سقوط الجزية؛ لأن الجزية فيها احتمال العقوبة ابتداءً وبقاءً، بخلاف الخراج، لأنه في حالة البقاء مؤنة، من غير التفات إلى معنى العقوبة، ولذا لو اشترى مسلم أرضاً خراجية لزمه خراجها(107)، وأما الجزية فلو أسلم الذمي سقطت عنه، ومن أجل ذلك حكى بعض الحنفية الاتفاق على عدم سقوط الخراج بمضي المدة(108)، ولم يعدّ القول الآخر شيئاً.

الخاتمة:
بتتبع مسائل البحث ظهرت النتائج التالية:
- أن التقادم يطلق ويُراد به طول الزمن.
- أن الزكاة تتعلق بذمة المزكي؛ وأنها لا تسقط بمضي الزمان، إذا تأخر المزكي في إخراجها.
- أن التقادم غير مؤثر على الدَّيْن، ولا يُسقط المطالبة به.
- أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان.
- أن نفقة القريب على قريبه تسقط بمضي المدة إلا إذا أذن له الحاكم في الاقتراض على قريبه.
- أن الجزية لا تسقط بمضي الزمان، ولا تتداخل بتكرر السنين.
- أن الخراج لا يسقط بمضي الزمان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وسحبه أجمعين.
_________________
(1) ينظر: مقاييس اللغة 5/65.
(2) ينظر: الصحاح 6/284.
(3) ينظر: لسان العرب 12/465.
(4) معجم لغة الفقهاء 1/139.
(5) ينظر: المدونة 5/172.
(6) ينظر: المدونة 5/173.
(7) ينظر: روضة الطالبين 11/170.
(8) ينظر: البحر الرائق 5/21.
(9) ينظر: المغني 4/140-141، شرح الزركشي 2/462.
(10) ينظر: الذخيرة 3/122.
(11) ينظر: المجموع 5/377.
(12) ينظر: المغني 4/140، الكافي 2/96.
(13) ينظر: المحلى 5/262.
(14) ينظر: المبسوط 2/173-175، بدائع الصنائع 2/22.
(15) ينظر: المنتقى 2/116، الذخيرة 3/122.
(16) ينظر: الحاوي الكبير 3/128، المجموع 5/377.
(17) ينظر: المغني 4/140، الكافي 2/96، كشاف القناع 2/180.
(18) ينظر: شرح الزركشي 2/463، الروض المربع ص 152، الشرح الممتع 6/42.
(19) أخرجه الدارقطني في كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة (3) 2/92، من حديث معاذ رضي الله عنه.
قال الزيلعي: وهو معلول بعبد الله بن شبيب، قال ابن حبان في كتاب (الضعفاء): يقلب الأخبار ويسرقها، ولا يجوز الاحتجاج به، وقال الألباني: وهذا سند رجاله كلهم ثقات، غير عبد الله بن شبيب، وهو واهٍ كما في (الميزان)، ينظر: نصب الراية 2/364، إرواء الغليل 3/292.
(20) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة (1568) 2/98، والترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم (621) 3/17، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب صدقة الغنم (1805) 1/577، وابن خزيمة في كتاب الزكاة (2270) 4/20، والحاكم في كتاب الزكاة (1443) 1/549، وأحمد في المسند (11325) 3/35، عن ابن عمر رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1399) 5/187.
(21) ينظر: بدائع الصنائع 2/22، شرح الزركشي 2/461.
(22) ينظر: المحلى 5/262، المجموع 5/379، المغني 4/140.
(23) ينظر: المجموع 5/380، المغني 4/140.
(24) ينظر: المغني 4/140، شرح الزركشي 2/461.
(25) ينظر: المرجع السابق.
(26) ينظ: بدائع الصنائع 2/22.
(27) ينظر: شرح الزركشي 2/463.
(28) سبق تخريجه.
(29) أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري (1412) 2/540، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ما فيه العشر أو نصف العشر (1412) 2/675 عن ابن عمر وجابر رضي الله عنه.
(30) ينظر: بدائع الصنائع 2/22، المنتقى 2/116، المغني: 4/141.
(31) ينظر: مغني اللبيب 1/223.
(32) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع (1599) 2/109، وابن ماجه في كتاب الزكاة، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال (1814) 1/580، والحاكم في المستدرك (1433) 1/546، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب لا يؤدي عن ماله فيما وجب عليه إلا ما وجب عليه (7163) 4/112، والدارقطني في كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات صدقة (23) 2/99، قال الحاكم في (المستدرك): هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل فإني لا أتقنه. قال ابن حجر في التلخيص الحبير 2/170: قلت: لم يصح؛ لأنه ولد بعد موته، أو في سنة موته، أو بعد موته بسنة. وقال البزار: لا نعلم أن عطاء سمع من معاذ. وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (346) ص 158.
(33) الرِّقة: الفضة، والدراهم المضروبة منها، وأصل اللفظة الوَرِق، وهي الدراهم المضروبة خاصة، فحذفت الواو وعوض منها الهاء. ينظر: النهاية في غريب الأثر 2/254.
(34) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة (1754) 2/101، والترمذي في كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة الذهب والورق (620) 1/92، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب الزكاة، باب نصاب الذهب (18550 9/210، والدارقطني في كتاب الزكاة باب وجوب زكاة الذهب والورق 2/92. من حديث علي رضي الله عنه.
قال الترمذي: رواه سفيان الثوري وابن عيينة وغير واحد عن أبي إسحاق عنا لحارث عن علي، قال: وسألت محمداً – يعني البخاري – عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق. وقال الدارقطني: الصواب وقفه على علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1406) 5/295.
(35) ينظر: بدائع الصنائع 2/22، كشاف القناع 2/180.
(36) ينظر: مغني اللبيب 1/421.
(37) ينظر: كشاف القناع 2/180، مطالب أولي النهى 2/24.
(38) ينظر: المنتقى 2/116.
(39) ينظر: الشرح الممتع 6/43.
(40) ينظر: المجموع 5/302.
(41) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم 2/690 (1852)، ومسلم في كتاب الصيام، باب قضاء الصوم عن الميت 2/804 (1148).
(42) ينظر: فتح القدير 4/164، الفواكه الدواني 2/242، الأم 3/212، الشرح الكبير 6/20-21.
(43) ينظر: تفسير القرآن العظيم 2/228.
(44) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب من قتل في سبيل الله كفرت له خطاياه إلا الدَّيْن (1885) 3/1501.
(45) أخرجه البخاري كتاب الكفالة، باب الدين (2176) 2/805، ومسلم في كتاب الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته (1619) 3/1237.
(46) أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه (1078) 3/390، وابن ماجة في كتاب الصدقات، باب التشديد في الدَّيْن (2413) 2/806، وأحمد في المسند (10607) 2/508، والحاكم في المستدرك (2219) 2/32، وقد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1079) 3/79.
(47) ينظر: التمهيد 23/232.
(48) ينظر: شرح صحيح مسلم 13/29.
(49) أخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب من قتل في سبيل الله كفرت له خطاياه إلا الدين (1886) 3/1502.
(50) ينظر: مجموع الفتاوى 29/527.
(51) ينظر: روضة الطالبين 9/76، مغني المحتاج 1/405، نهاية المحتاج 7/187.
(52) ينظر: المغني 11/366-367، الإنصاف 24/339، كشاف القناع 5/480.
(53) ينظر: حاشية الدسوقي 2/517، منح الجليل 4/403.
(54) ينتظر: بدائع الصنائع 4/28، المبسوط 5/184، الفتاوى الهندية 1/551.
(55) ينظر: المغني 11/367، الإنصاف 24/339.
(56) أخرجه الشافعي في مسنده في كتاب أحكام القرآن 1/267، والبيهقي في السنن الكبرى في كتاب النفقات، باب الرجل لا يجد نفقة امرأته 7/469 (15484)، وصححه الألباني في إرواء الغليل 7/228.
(57) ينظر: المغني 11/367، مطالب أولي النهى 8/232.
(58) ينظر: زاد المعاد 5/509.
(59) ينظر: المغني 11/367، مطالب أولي النهى 8/232.
(60) ينظر: المغني 11/367، كشاف القناع 5/480.
(61) ينظر: المبسوط 5/184.
(62) ينظر: المرجع السابق.
(63) ينظر: شرح الخرشي 4/195.
(64) ينظر: بدائع الصنائع 4/26.
(65) ينظر: المبسوط 5/184.
(66) ينظر: المبسوط 5/184.
(67) أخرجه البخاري كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف (5049) 5/2052، ومسلم في كتاب الأقضية، باب قضية هند (1714) 3/1338، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(68) ينظر: المغني 11/367.
(69) ينظر: المغني 11/367.
(70) ينظر: المرجع السابق.
(71) ينظر: زاد المعاد 5/509.
(72) ينظر: زاد المعاد 5/508.
(73) ينظر: زاد المعاد 5/509.
(74) ينظر: بدائع الصنائع 4/38، حاشية ابن عابدين 3/594.
(75) ينظر: الشرح الكبير 24/416، الإنصاف 24/416، كشاف القناع 5/484.
(76) ينظر: مواهب الجليل 4/211-212، التاج والإكليل 4/211، منح الجليل 4/416.
(77) ينظر: الشرح الكبير 24/416، الإنصاف 24/416، كشاف القناع 5/484.
(78) ينظر: نهاية المحتاج 7/220-221، مغني المحتاج 3/449، السراج الوهاج 1/472.
(79) ينظر: الإنصاف 24/416، المبدع 8/220، كشاف القناع 5/484.
(80) ينظر: مواهب الجليل 4/212، المبدع 8/220، كشاف القناع 5/484.
(81) ينظر: زاد المعاد 5/506.
(82) ينظر: الإنصاف 24/416، المبدع 8/220، كشاف القناع 5/484.
(83) ينظر: زاد المعاد 5/506-507.
(84) ينظر: مغني المحتاج 3/449.
(85) الجزية: هي ما أُلزم الكافر من مال لأمْنِه باستقراره تحت حكم الإسلام وصَوْنه وحمايته، مأخوذة من المجازاة والجزاء؛ لأنها جزاء؛ لكفنا عنهم وتمكينهم من سكنى دارنا.
ينظر: شرح حدود ابن عرفة 1/145، تحرير ألفاظ التنبيه 1/318-319.
(86) ينظر: حاشية الدسوقي 2/202، منح الجليل 1/759، جواهر الإكليل 1/267.
(87) ينظر: روضة الطالبين 10/312، الحاوي الكبير 14/315، مغني المحتاج 4/246.
(88) ينظر: المغني 13/223، المبدع 3/412، كشاف القناع 3/122.
(89) ينظر: المبسوط 10/82، فتح القدير 6/55-56، الهداية شرح البداية 2/161.
(90) ينظر: المراجع السابقة.
(91) ينظر: الحاوي الكبير 14/316، المغني 13/223، المبدع 3/412.
(92) ينظر: فتح القدير 6/55-56، الهداية شرح البداية 2/161، الحاوي الكبير 14/316.
(93) ينظر: المبسوط 10/82، بدائع الصنائع 7/112.
(94) ينظر: بدائع الصنائع 7/112، وسيأتي بحث مسألة الخراج في المبحث السادس.
(95) ينظر: المبسروط 10/82، الحاوي الكبير 14/316، المغني 13/223.
(96) ينظر: الحاوي الكبير 14/316.
(97) ينظر: المرجع السابق.
(98) ينظر: المبسوط 10/82، فتح القدير 6/56.
(99) ينظر: المراجع السابقة.
(100) ينظر: بدائع الصنائع 7/112.
(101) ينظر: أحكام أهل الذمة 1/182.
(102) الخراج: ما يوضع على الأرض التي فتحت عنوة، أو التي صولح أهلها عليها. ينظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 162، البحر الزخار 2/218.
(103) ينظر: الفتاوى الهندية 2/242، حاشية ابن عابدين 4/201، الدر المختار 4/201.
(104) ينظر: المراجع السابقة.
(105) ينظر: الدر المختار 4/201.
(106) ينظر في مناقشة هذا الدليل المسألة السابقة.
(107) ينظر: شرح العناية بهامش فتح القدير 6/55، البناية 6/679.
(108) ينظر: فتح القدير 6/55، شرح العناية بهامش فتح القدير 6/55، البناية: 6/679.