التفاؤل.. في ضوء كلمات للشيخ ناصر العمر
22 ربيع الأول 1433
إدريس أبو الحسن

التفاؤل هو استشعار قدوم الخير بتحقق الأفراح والمسرات واستبعاد وقوع الأذى والمكروهات، وهذا الاستشعار يولد في النفس والذات انفعالا قويا ينشط معه التفكير وتقوى به الإرادة وتشتد به العزيمة، ويشحن به الذهن فينتج عن ذلك تصميم وعمل في اتجاه طلب الخير المتفاءل به. إنه بمثابة الوقود الذي يحرك الإرادة!

 

والتفاؤل واحد من الظواهر النفسية التي تشكل حالة فريدة في السلوك النفسي الإنساني، احتار فيها علماء النفس والدراسات الإنسانية وتحدثوا من خلالها في فلسفات ونظريات عديدة عن قوة كامنة في النفس تجعل من التوقع شيئا ممكن التحقق، بحسب قوته وصدقه ودبجوا في ذلك كتبا عن العقل الباطن وأسراره وقوانينه وعن "الوعي واللاوعي" و"الشعور واللاشعور"، نحت معظمها مناحي كفرية بعيدة عن أصول الإيمان واغتر بها خلق كثير، لكنها في مجملها استطاعت أن تشير إلى قوة الأفكار والخطرات النفسية التي تؤثر على مسار القوة والضعف في حياة الإنسان عموما وعلى إرادته وطموحه وعزيمته ونجاحه وفشله، ونحن في هذا الإطار لا نتحدث عن التفاؤل فقط بل عن كل شعور إيجابي أو سلبي في نفس الإنسان ما يعني أن ما يقولونه يصدق على التشاؤم أيضا.

 

بعيدا عن الفلسفة والدراسات الإنسانية، نجد التفاؤل في الإسلام قيمة إيجابية بل خلقا نفسانيا فاضلا حث عليه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، في سياقات مختلفة وبمرادفات متنوعة فتارة يأتي في سياق الحث على الاستبشار بالخير وبرحمة الله وتارة بالنهي عن اليأس واعتباره من أخلاق الكفار وتارة بالنهي عن القنوط واعتباره ضلالا، -وكلها مفردات تستلزم التشاؤم وتتناقض مع التفاؤل- وتارة بالحث على إحسان الظن بالله: فحينما خاطبت الملائكة إبراهيم عليه الصلاة والسلام قائلة: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: من الآية55] رد عليها بعزم ويقين: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]. وحينما أرسل يعقوب عليه السلام أبناءه للبحث عن أخيهم يوسف عليه السلام في مصر قال: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: من الآية195]. قال سفيان الثوري: (أي أحسنوا بالله تعالى الظن) وحينما داهم كفار قريش منطقة الغار التي اختبأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبوبكر رضي الله عنه خشي أبو بكر أن يراهم المشركون فرد عليه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "لاتحزن إن الله معنا". فعن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا، قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهم" رواه البخاري ومسلم.

 

وفي الحديث الصحيح: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" متفق عليه. والطيرة هي التشاؤم.

 

وما أجمل تلك الحكمة التي قالها الشيخ ناصر العمر في صفحته على موقع تويتر ولخصت دلالة القرآن على ذلك التفاؤل إذ يقول: "كم في القرآن من بشائر ومفاتح للتفاؤل! {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: من الآية28] فها هي الأرض تسقى بعد جدبها، فلننتظر بشائر عزة الأمة ونصرها {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: من الآية110]، ولنتفاءل بعودة الغائب بعد طول عناء {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: من الآية87]، فأملوا خيراً {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية53] مهما طال الزمن واستحكم البلاء). أهـ.

 

لكن التفاؤل المطلوب في الإسلام ليس مجرد توقع أو كلام عاريا عن الضوابط، وإنما هو سلوك نفسي حث عليه الإسلام مقرونا بضوابطه، وهي:

الأول- أن يكون التفاؤل مقرونا بالإيمان:

إذ المعتقد الصحيح ومعرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، له أثر عظيم، في التخلق بخلق التفاؤل والحياة به على كل حال ذلك لأن المؤمن يستشعر معية الله له في كافة أحواله ونظره إليه في سائر أعماله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: من الآية4] كما يعرف ربه بأسمائه الحسنى وأنه أرحم الراحمين {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: من الآية64] لطيف بالعباد {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: من الآية19] وسعت رحمته كل شيء {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: من الآية156] يدافع عن المؤمنين {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: من الآية38] يعفو عن السيئات ويقيل العثرات واسع المغفرة قابل التوب وغافر الذنب يريد لعباده الهداية والتوبة {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] ناصر لعباده المؤمنين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] وغيرها من صفاته الحسنى سبحانه وتعالى تجعل المؤمن في تطلع للأمل وتوقع للخير وانتظار دائم للفرج واستصحاب لمعية الله له بالنصر والتأييد وإجابة الدعاء ومزيد العطاء وهذه كلها تصب في معنى التفاؤل وتحث عليه!

 

والتفاؤل من صميم حسن الظن بما هو قادم من الأحداث في كل الأمور وما هو قادم إنما هو أقدار الله المقدرة فحسن الظن بها هو حسن ظن بمقدرها الذي هو الله لذلك كان التفاؤل بالخير من حسن الظن بالله ففي الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيراً فله وإن ظن شراً فله". رواه أحمد.

 

وهو بهذا من صميم التوحيد، فلا يستقيم أن يجتمع في قلب الإنسان إيمان راسخ مع سوء ظن بالله وتشاؤم بأقداره، فنور الإيمان يبدد ظلام التشاؤم ويجعل المؤمن في تفاؤل دائم واستبشار مستمر بحصول الخير وقدوم الرحمة في سائر الأحوال. وهو ما أشار إليه الشيخ ناصر العمر في إحدى حكمه على تويتر إذ قال: "أخشى أن يكون المتشائمون ممن لم يجعل الله لهم نوراً {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: من الآية40]، حيث إن بوادر التفاؤل واضحة جلية"!!

 

وأقوى وأصدق ما يكون التفاؤل حين يمتزج في القلب بقوة الإيمان وصدق التوكل، فإن إحسان العمل بالقيام بمراد الله في كل شأن يدفع المؤمن إلى الاطمئنان إلى ربه والركون إليه والطمع الشديد في رحمته وعطائه وبره وإحسانه وفضله، ويجعله –مهما اغتنى- فقيرا إليه فينتج عن قوة طمعه في رحمة الله الواسعة حسن الظن بالله والتفاؤل باستشعار عطائه ومدده فتتهيأ نفسه لتلقي الكرامات الإلهية على قدر ما في قلبه من طمأنينة الإيمان وقوة اليقين، ومع ذلك لا يرى نفسه أهلا للعطاء ولا للكرامة ولكنه يغلب جانب الظن الحسن بالله على ما سواه لغلبة رحمة الله وسعتها {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: من الآية156].

 

وهناك سر لطيف في قوة انبعاث التفاؤل، وقوة تصور وقوع الخير الذي يتفاءل به المؤمن، هذا السر له علاقة بقوة العزم واليقين في الله كما له علاقة بالعلم بسنن الله في الكون وناموسه في هذه الحياة، والناس في هذا الشأن يتفاوتون علما وعملا وتبعا لذلك تتفاوت هممهم في التفاؤل بالخير. فإن لله لطائف تسبق الفرج وعلامات يدركها أهل العلم والخشية كما يدرك جهابذة الحديث علله الخفية وتلك العلامات واللطائف تكون كالنسيم الخفيف العليل الذي يلامس البشرة ولا تراه العين وهي من البشائر التي تأتي في ثنايا البلاء تخفيفاً وتثبيتاً {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: من الآية57] وهذا من معاني اسم الله اللطيف، ومن القواعد الكليه في ذلك قاعدة (التيسير علامة التوفيق) وغيرها مما يطول سرده ومثل هذا يحتاجه الناس في ساعة العسرة وشدة الفتنة فإنها الساعة التي تمتحن فيها القلوب والعقول على السواء.

 

الثاني: أن يكون التفاؤل مقرونا بالعمل الصالح:

فالتفاؤل مع التفريط في تقوى الله عموما والإصرار على ذلك فيه مخادعة للنفس فإن الله جل وعلا كما دعا عباده لحسن الظن به وتغليب الطمع في رحمته حذرهم أيضا من مخالفة أمره بل حذرهم من نفسه رحمة بهم حتى لا يتمادوا في عصيانه فقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: من الآية28] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: من الآية63]، وقال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. فالتفريط في أوامر الله والإعراض عنها وارتكاب محاذيره دون رجوع بالتوبة موجب لغضب الله كما قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: من الآية6]، والتفاؤل مع تعمد التقصير فيه نوع مخادعة بل هو من الجهل الذي وقعت فيه فرق ضالة مثل المرجئة الذين جعلوا من سعة رحمة الله مطية لارتكاب الخطايا حتى قال شاعرهم:

وكثر ما استطعت من الخطايا *** إذا كان القدوم على كريم

 

نعم يُحسن المؤمن الظن بربه عند كل بلاء وفتنة ويتطلع إلى وقوع فرج وشيك وخير عميم فهذا مطلوب وهو من حسن الظن بالله لكن يسعى جهده لإحسان العمل أيضا وإحداث التوبة من الذنوب فإنها سبب البلاء، لا أن يحسن الظن بخالقه ويتمادى في الوقت نفسه في عصيانه فإن سنن الله الشرعية اقتضت أن يكون من البلاء ما هو عقوبة لا يرتفع إلا بالتوبة {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]، {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] حتى قال بعض السلف: "رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق". لذلك عرف الشيخ ناصر العمر في إحدى حكمه على تويتر التفاؤل بقوله: التفاؤل الحقيقي: هو الذي ينبعث من القلب عن إيمان وبرهان، ويظهر على قسمات الوجه وحصائد اللسان، ويصدقه العمل المطرد مهما تغيرت الأحوال والأزمان".

 

الثالث: أن يكون التفاؤل مقرونا بالطلب:

فالدعاء عبادة من أجل العبادات به تستمطر الرحمة ويستجلب الخير، وعاجز من لم يستعمله سلاحا في وجه البلاء ووسلية لبلوغ الأمل، ففي الحديث الصحيح: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع.وإذا قرن التفاؤل بالخير مع العمل والدعاء كان أدعى لتحققه ونيل المراد فإن الله يغضب على من لم يسأله، ولذلك قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]. وفي الحديث الصحيح: "من لم يسأل الله يغضب عليه" رواه الترمذي.

 

الرابع: ألا يغيب التفاؤل سنن الله في الكون، من بذل الأسباب الدافعة للأذى، بفقع الواقع وتصور الأمور على ما هي عليه لدفع ضررها والانتفاع بخيرها، فليس من التفاؤل أن نتجاهل تربص الأعداء وقوتهم وعدتهم وعددهم متوقعين النصر بدون عدة على قدر ما نستطيع، وليس من التفاؤل الاستبشار بالشفاء مع ترك الاستشفاء بالدواء وهو بين أيدينا وليس من التفاؤل توقع النجاح مع الكسل والخلود للراحة، وقد كان سعيد بن جبير يقول: (اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك). وفي هذا السياق يقول الشيخ ناصر العمر في إحدى حكمه على صفحته في موقع تويتر: (هناك طريقان للحياة: إما أن تخضع للدنيا وقسوتها فهنا تعيش البؤس والحرمان والتشاؤم، اذ اصبحت عبدا لها. واما ان تخضعها لدينك، فتواجه كبدها وأدواءها وفق السنن الشرعية والأدوية الربانية، وتستمتع بما فيها من اشراقات وفرص، فهنا ستعيش اسعد من الملوك، اذ تتخلص من عبودية الدنيا، وترتقي في مدارج العبودية لله).

 

تفاءل.... فالتفاؤل عبادة!! به ستشرق شمس في نفسك بأنوار أمل تبدد ظلام اليأس والإحباط، فإذا الفرج يلوح لك في الأفق كفلق الصبح! وأحسن الظن بربك مع إحسان العمل وكن جميلا تر الوجود جميلا.. كما قال الشيخ العمر: (من لا يرى في الحقل إلا الأشواك، كيف ينتظر منه أن يقطف الزهور؟) تويتر-

 

تفاءل بالنصر لهذه الأمة: (فيوم النصر قادم بإذن الله، وسوف يمن الله فيه على المستضعفين من المسلمين في هذا الزمان، وينصرهم على من بغى عليهم وتجبر، ذلك اليوم الذي سيري فيه المتجبرون وأعوانهم ما كانوا يحذرون، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وإن تأخر ذلك اليوم لحكمة يعلمها الله، فلن تهتز قناعتنا بشروق شمسه بعد انقشاع الغبار!.) ناصر العمر –تويتر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.