وماذا عن معرض الكتاب؟
17 ربيع الثاني 1433

أسئلةٌ كثيرةٌ تواردت عليَّ، يسألُني أصحابها عن معرض الرِّياض الدّوليّ للكتاب، وعن موقفي من الدّعوة إلى مقاطعته، وذلك كلُّه على خلفيَّة حملةٍ صحفيّةٍ شعواء، يشنُّها بعضُ الصّحفيّين والكتاب ضدَّ طلاب العلم والمحتسبين، مستبِقِين الوقائع، ومُمهِّدين لتحقيق أجنداتٍ ومآرب خاصّة، تتمُّ تحت راية معرض الكتاب الدّولي!

 

وهو في الواقع أمرٌ مؤسفٌ يُشير إلى المآل الّذي آل إليه حالُ هذا المعرض، الّذي كان طلابُ العلم يترقّبونه من عامٍ إلى آخر، فإذا به قد غدا في السّنوات الأخيرة، موسماً للنَّيل من عقيدة المجتمع وثوابته، وذلك من خلال نشر بضاعة فكرٍ منحرف، عبر الكتب الممنوعة.

 

أمّا جوانبُ الخير في هذا المعرض الدّولي، فلا أحد يُنكرها، فثمّة دور نشرٍ ليست قليلة، يقوم عليها أناسٌ خيِّرون، يعرضون في المساحة المخصّصة لهم، ما يُلبّي رغبة طلاب المعرفة، ويُشبع نِهمتهم إلى زادٍ معرفيٍّ محرّر، وإصداراتٍ جديدة، وكتبٍ رخيصة.

 

والواقع أنّ هذا المعرض منذ أن آل أمرُ الإشرافِ عليه، من وزارة التّعليم العالي، إلى وزارة الثّقافة والإعلام، قد بدأ يشهد انحرافاً ظلّت درجتُه تزداد عاماً بعد عام، وليس معنى ذلك أنّه في عهده الأول كان خُلواً من المؤاخذات والإشكالات، كلا؛ ولكن كان المسئولون يتجاوبون إلى حدٍّ كبير، مع النّاصحين والمحتسبين، فيمنعون عرض بعض الكتب، أو يُغلقون بعض المكتبات، وكانت هناك ضوابط، تحول بين المعرض والانزلاق في هُوَّة أن يكون غزواً ثقافيّاً!

 

وكيف يكون معرض دوليٌّ للكتاب، بدون ضوابط؟ لقد زرتُ معارض دوليّة للكتب، في دولٍ ترفع راية الحرّيّة والدّيمقراطية، ولكنّ ذلك لم يمنعها من وضع ضوابط، تُعبّرُ فيها عن احترامها لعقيدة شعبها وثقافته، وإنّي لأعجب من الصُّحفيّين والكُتّاب الّذين أشهروا أقلامهم في وجوه المحتسبين، مُطالبين بالحرّيّة، أليس من حقِّ هؤلاء المحتسبين أن يُعبّروا عن موقفهم كذلك بحريّةٍ؟ ولستُ أدري عن أيّ حريّةٍ يتكلّم هؤلاء؟ وهم في الحقيقة أكثرُ النّاس ضيقاً بها وبالرّأي الآخر، فهم شرذمةٌ قليلون، آلَوا على أنفسهم أن ينالوا من عقيدة المجتمع ومقدّساته وثوابته، رافعين شعار الحرّيّة وكأنّها القيمةُ الإنسانيّة الوحيدة، مُعرضين عن القيمة الكبرى التي يقوم عليها كيانُ مجتمعنا، ألا وهي الإيمان بالله عزّ وجلَّ، وملائكته وكتبه ورسله، لا يُبالون أن ينتهكها المنتهكون جهاراً نهاراً! فإذا كانت هذه الَّتي يرفعون لواءها ويُمارسونها هي الحريّة، فما أسوأها وما أقبحها!

 

إنّ واقع هذا المعرض الدّوليّ للكتاب، في السّنين الأخيرة، قد أصبح مثيراً لقلق كثيرٍ من الحادبين والحريصين على عقيدة هذه الأمة وأمنها الفكريِّ والثّقافيِّ، إزاءَ ما يشهدونه فيه من اختراقٍ لعقيدتها وقيمها، وذلك من خلال إصرار إدارة المعرض، على عرض كتبٍ لو قُدِّمت لوزارة الثّقافة والإعلام قبل المعرض من أجل فسحها لرفضت، ذلك لأنّها تخالف السّياسة الإعلاميّة التي تقوم عليها الوزارة، بل تخالف القيم التي تأسّست عليها المملكة العربيّة السعوديّة، مخالفةً صريحةً، كتب تنالُ من عقيدة الأمة وثوابتها، يتمُّ عرضها كلّ عامٍ، بالرّغم من احتساب المحتسبين، وملحوظات النّاصحين، واحتجاج المحتجّين، وذلك بدعاوى باطلةٍ مهترئةٍ.

 

لقد أصبح هذا المعرض الدُّوليّ للكتاب، مع الأسف رافداً أساسيّاً من روافد الانحراف في بلادنا، ولقد رأينا مصداقَ ذلك في القضيّة التي وقع فيها مؤخّراً أحدُ الشّباب، بكتابته المنحرفة المستفزّة لمشاعر المسلمين وقيمهم، ووقع فيها كذلك آخَرون ممّن نهضوا مؤيّدين له ومدافعين عنه، لقد تبيّن لي أنّ هذا المعرضَ سببٌ رئيسٌ من أسباب انحراف هؤلاء الشّباب عن الصّراط المستقيم، فقد سألت بعض أقارب هؤلاء الشّباب، عمّا كان يقرءونه من الكتب، فقالوا: كتب الفلسفة والزّندقة! فقلت: كيف حصلوا عليها؟ فكانت أصابع الاتّهام تُشير إلى معرض الكتاب، كما أنّ المعرض يُتاح فيه أن يلتقي ممثّلو دور النّشر العالميّة، مع أصحاب المكتبات المحلّيّة، فلذا تجد بعض الكتب تنتقل تلقائيّاً من رفوفها في المعرض، إلى رفوف المكتبات المحلّيّة، تُتاح لمن لم يتمكّن من زيارة المعرض، فصار هذا المعرض بؤرةً لنشر الفكر الفاسد بين شبابنا، مستغلّاً ما أتاحته وسائل الإعلام الحديثة والإنترنت، من إمكانات هائلةٍ للتّواصل الثّقافيّ بين الشّعوب، وكان مؤمّلاً من وزارة الثقافة والإعلام، أن تكون حامياً لثقافة مجتمعنا وثوابته، وأن تكون مصفاةً تحول دون تسرُّب الفكر المنحرف إلى بلادنا، وما زال أملُنا كبيراً في أن يوفّق الله المسئولين فيها والقائمين على هذا المعرض هذا العام والأعوام القادمة، إلى القيام بما تُمليه عليه عقيدتُهم، ويُمليه عليهم انتماؤهم إلى هذه الأرض الطّيّبة التي شرّفها الله بنزول الوحي في ربوعها، فيعملوا على سنّ الضّوابط الكفيلة بتصحيح مسار هذا المعرض، ولقد سعِدتُ بمتابعةِ لقاءٍ في برنامج الجواب الكافي، بقناة المجد، مع الأمير خالد بن طلال بن عبد العزيز، يُؤكّد فيها اهتمامه بهذا الأمر، ويُهيب بالمحتسبين أن يُعينوهم بالإنكار وبتوثيق ما يستنكرونه، وأفاد بأنّه قد رفع أمر هذه الكتب الممنوعة إلى خادم الحرمين الشّريفين. بينما أنا حزنت وأنا أقرأ لبعض المسؤلين في الوزارة تهديداً وتوعداً بالعقاب الصارم ضد من يحتسب على كتب الفساد.

وكنا نتمنى لو وعد بأنه سيقف ضد هذه الكتب ومن يروج لها, بدلاً من تهديد المحتسبين

 

أمّا تساؤلات المتسائلين، عمّا إذا كنتُ -بناءً على ما سبق- سأدعو إلى مقاطعة المعرض الدُّوليِّ للكتاب، أم لا؟ فأسوق الجواب عليها واضحاً: أنّني لا أدعو إلى ذلك، ولكنّي أدعو كلَّ من عزم على الذّهاب إلى المعرض، أن يتّقي الله عزّ وجلّ، وينهض بما يجب عليه من واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولا تكن رغبتُه في طلب العلم والمعرفة مانعاً له من الإنكار، وأن لا يكتفي بالإنكار القلبيِّ، فذلك (أضعفُ الإيمان) إذا عجز عن الإنكار باللسان، ولكن يجهر بالنّصيحة والموعظة ويكتبها، ويرفع الأمر إلى ولاة الأمر المختصِّين به، ولذا فينبغي الاهتمامُ بتوثيقِ كلِّ منكرٍ ورصده، حتى لا يقال: إنّ المحتسبين يُهوِّلون الأمور.

 

أمّا التّغيير باليدِ، فلا نستطيعه، وليس من واجبنا، بل هو واجب الجهات المسئولة في وزارة الثّقافة والهيئات وغيرها، فلا ينبغي أن تدفعنا الحميَّة إلى تجاوز الضّوابط الشّرعيّة المقرّرة في فقه إنكار المنكر، لأنّ الأمر من قبلُ  ومن بعدُ، هو لله عزّ وجلّ، ولسنا مكلّفين إلا بالتّغيير في إطار هذه الضّوابط الشّرعيّة, والدعوة بحكمة وصبر وأناة وبعد نظر.

 

وثمّة شبهةٌ قد نسمعُها، حتّى من بعض طلاب العلم أو المحسوبين عليهم، وهي قول القائلين: إنّ هذا الأمر كلّه، هو من مسئولية الجهات المختصّة، ومن مسئوليّة هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فلا ينبغي للمحتسبين أن يخوضوا فيه!

 

وأقول: إنّ أمرَ الرّسول صلى الله عليه وسلم واضحٌ كالشّمس، ومقدم على قول غيره من البشر, فهو يقول: (مَن رأى منكم منكراً فليُغيّره) وذلك سواءٌ كانت الرؤية بصريّةً، لمن زار وشاهد، أو علميّةً، لمن لم يرَ بعينيه، ولكنه اطّلعَ عليه عبر مختلف المصادر الموثوقة، وسواءٌ كان الأمر يتعلّق بالكتب بالمعرض خصوصاً، أو بالنّدوات التي يُدعى لها رموز الضّلال، هذا أولاً، وثانياً أقول: لو أنّ الهيئة والمسئولين قاموا بواجباتهم في هذا الجانب كما ينبغي؛ لما نهض المحتسبون لذلك قياماً بغرض الكفاية، والهيئة ليست محلَّ شكٍّ وريبةٍ، لكن ثمّة أسبابٌ تعوقها عن القيام بهذا الدور على أكمله، وعلى رأسها مشكلة نقص الكوادر، ومن ثمّ فهي بحاجةٍ إلى من يُعينها على القيام بهذا الواجب، ويُبلّغها به.

 

وختاماً أوجّه نداءً إلى وُلاة الأمر، والمسئولين في وزارة الإعلام، أنِ اتّقوا الله في هذا البلد، وفي عقيدته، وفي أمنه الثّقافيّ والفكريّ، وفي شبابه، إنّهم أمانةٌ في أعناقكم فحافظوا عليهم واذكروا يوماً تقفون فيه بين يدي الله عزّ وجلّ، فيسألكم عمّا تسبّبت فيه هذه الكتبُ المنحرفة من إضلال كثيرٍ من عباده! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: من الآية6].

والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله!

ونبرأ إلى الله مما في هذا المعرض من كتب فساد وانحراف, ونسأله ألا يؤاخذنا بما يفعله السفهاء منا, وأن يحمي بلادنا من الهلاك {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.