لو كنتَ قبل 15 قرنا ونيّفا يا دكتور!


25 شعبان 1433
إبراهيم الأزرق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وبعد فقد قرأت مقالتين للدكتور محمد الأحمري سودهما بطريقته الطريفة الاستفزازية الخالية كالعادة من التحقيق العلمي والإلمام بالقائلين وأعدادهم دع حججهم وتفاصيل آرائهم، صوَّر الخلافَ بين أهل العلم المانعين من تمثيل الصحابة والمجوزين وكأنه الخلاف الجاهلي بين عبس وذبيان! ولك أن تقول لهو صبياني بين فريقين على كرة، إن قذف هؤلاء بها هناك قذف هؤلاء بها هنا! وعلى كل حال لم يجد صاحبنا حرجاً من أن يقفز داخل تلك الصورة التي صنعها ليركل يمنة ويسرة! في الفريق الأول! تاركاً الكرة! ويبدو لي أن الدكتور قد غدا مسكونا بداء الركل ضدَّ قبيلة بعينها، فما أن يجدهم في مقام إلاّ ويقوم ضدهم مُسولاً له أنه ضد التخلف والرجعية، وشيوخ السجادة السلفية والطريقة المحمدية الربانية وتتبع تجد عجبا! وقد ذكر ما حاصله أنه لو كان قبل عشرين سنة لربما اندفع مع قبيلة التحريم.. لكنه اليوم كبر وعقل وتغيرت الظروف! وصدق فقد تغيرت الأحوال إذ فرق بين الأحمري الذي نهل من معين جامعة إسلامية رعى الله سابق عهدها، وبين الأحمري الذي نهل من حوض الغرب وأعل وتضلع فأُشْرِب من ثقافتهم ما أشرب! وأجدني ههنا مضطراً لحمد الله والثناء عليه إذ لم يكن صاحبنا بهذه العقليةِ المتطورة مُريدَةِ الإحسان والتوفيق حاضراً قبل نحو بضع وثلاثين وأربعمائة وألف سنة! وإلا لخشيت أن تقرؤوا خبر ركلاته العجيبة في حروب هوازن وغطفان عند حنين! بسبب وقوف قبيلةٍ كالعادة مع سلفها!

 

يا دكتور محمد! اعلم وفقني الله وإياك لطاعته أن من تسميهم بقبيلة التحريم عريقة ليست وليدة اللحظة، كثيرة أعدُادها، وعُدد رجالها من ذخائر العلم والتقى تمنعها من أن تقول في دين الله أو تقوم مجرد عصبية معارضة لرأيٍ نَبَغَ بأَخَرَة في قُبَيِّلةٍ لايغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبَّة خردل! مع إقرارنا بأن في هؤلاء الفاضل الذي لا نجحد فضله والمجتهد الذي نسأل الله المغفرة له.
لقد صدرت بيانات المانعين وحُررت فتاواهم وكنتَ يومها في كنِّ الصبا وخِدر الغرارة، غافلاً عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد! أَوَ تذكر في أي عير أو نفير كنت عام 1390هـ؟ يوم صدر قرار المنظمات العالمية في مكة بتحريم تمثيل الصحابة!

 

صدرت تلك الفتاوى وكان أهلها على بصيرة ثم ثبتوا عليها –والفتنة بالدراما ومؤثراتها الحديثة كانت في أوجها- حتى لقي من لقي منهم ربه كالشنقيطي وعفيفي وابن باز والألباني  وابن عثيمين وغيرهم رحمة الله عليهم، وبقي من بقي منهم على العهد لم تعصف به متغيرات لم يكن لها أثر على مناطات أحكامهم الراسخة، الضاربة بجذورها في أعماق المقاصد الشرعية، ولست أعني البراك أو اللحيدان أو الفوزان أو من تعرفهم من رجالات الهيئة أكرم بهم وأنعم، لكني أعني الجمهرة العريضة والسواد الذي سَدَّ الأفق من أصحاب المجامع والروابط ولاسيما التي جددت فتاواهم القديمة فتاوى أخرى حديثة أكدت بقاءها على الأمر الأول، كبيان مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر-ولا إخال أصولهم نجدية- وذلك في مؤتمره الرابع عشر المنعقد عام ١٤٣١هـ المؤكد لما أصدره المجمع قديما عام 1394 هـ من تحريم تمثيل الصحابة، وقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العشرين عام ١٤٣٢ المؤكد على تحريم تمثيل الصحابة المحرر في قرار المجمع بدورته الثامنة عام ١٤٠٥ وغيرهما! مما تعلم أن من فيه ليسوا أهل بلد واحد ولا مذهب متفق.
وأخيراً من السهل أن يدَّعي على قوم من لا عاصم له من ورع، ولكن من العسير أن يُثبت، والدعاوى يكفي في دحضها الامتناع عن التسليم، فإن ادعى عليك أو على مذهبك مدع بغير حجة فحسبك أن تقول في رده حرفين: لا أسلم! ليكون هو المطالب بالتقرير والإثبات، وهذه قاعدة إن اعتبرتها سقط جل مقال صاحبنا، بَيْد أني أقف معه في رميه المانعين من تمثيل الصحابة جزافاً برفض كل ما هو جديد! لأنها دعوى شنع بها عليهم مطلقاً مع أن لها شقين: فمن الجديد ما لا يقبلونه بل يقولون له بملء الفم: لا! ويرفضونه واقفين حيث وقف الصدر الأول وذلك في أمور الدين، لاعتقادهم أن القوم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، فهم يضعون نصب أعينهم وصية سلفهم: "إذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول"! "إياكم والبدع وعليكم بالعتيق"، "عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يفترقوا"، "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس"، وهذا الضرب من الجديد ينبغي أن تُعَيَّر بقبوله قبائل أخرى! ومن قبيلهم المتهوكون الذين يميلون مع كل ريح غربية! لم يأووا إلى ركن وثيق، يسارعون في قبول كل جديد وافد دون نقد وتمحيص وعرض على الأصول، وبعد ذلك يعيرون، عُثيثة تقرم جلداً أملساً! هذا أوانك يا مهازل فامرحي!

 

فهذا الشق يسلم بكل فخر واعتزاز في دعوى الأحمري رفضهم الجديد فيه، أما الوسائل والمنافع الحادثة التي لا يُتعبد بها، بل والتي يتعبد بها غير أنها حدثت بعد أن لم تكن لأنه لم يوجد مقتضيها فلا يتردد عالم في نصرة دين الله بها، إلاّ إن تضمنت مفاسد شرعية، ومن نظر في واقع القوم بإنصاف بدت له حقيقة الادعاء عليهم خلاف ذلك!

 

ولا يفوتني أن أشير في هذا الصدد إلى أنَّ (الدراما) ليست من الجديد، ولا هي من نوازل العصر، كما يظنه الدكتور وغيره، ألم يأتك والأنباء تنمى بما أحدثه التنويريون النصارى في القرون الوسطى من الدراما اليسوعية؟! وقد سبقهم الإغريق والرومان الذين كتبوا فيها وشيّدوا! فالتمثيل بها لرفض الجديد أو قبوله يليق بصاحب زغل ثقافي ولعله لا يليق بالأحمري!

 

بل تمثيل الأنبياء دعك من الصحابة واقع قديم ليس بجديد طارئ على الساحة وإنما الذي جَدّ تسويغه، وهو منكر كغيره من المنكرات التي لا يخلو منها واقع الناس، لن يصيرها ذلك عند من يُنكرها من أهل العلم معروفاً، وإن كثر من يستحلونها بالتأويل، ولله كم استحلَّت أقوام! الحر والحرير والخمر والمعازف بالتأويل، ومن علامات الساعة التي جاءت بها الأحاديث أن يكثر الربا، ويفشو الزنا، ويكثر الهرج، بل تقوم الساعة ولا يبقى في أرض الله من يقول: لا إله إلا الله! وقد بعث من الأنبياء من لم يؤمن به رجل! (ويأتي النبي وليس معه أحد)! فكان ماذا؟! آنقلب الحق باطلاً؟! ولهذا قالوا: الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك! وتعساً لمن كانت الأكثرية ميزانه في ترجيح كفة النار على الجنة! أقول هذا مع علمي بأن أكثر أهل العلم والفضل من العامة ينكرون اليوم ما يتقحمه المتأولون، وقد رأيتم ورأينا نتائج استبيانات تدلك على أن ثمة أقلية إسلامية تدعو إلى الديمقراطية ثم تريد أن تفرض رأيها فرضاً على الأكثرية! وتقول لو صار الأمر واقعاً وافقونا! مع أن الواقع قد فرضته وسائل إعلام مفسدة أو مشبوهة منذ أزمان، فما ضر كثيراً من أهل العلم من خالفهم ولا خذلهم، ثبتنا الله وإياهم على الحق وأبقاهم إلى أن تقوم الساعة!

 

والحديث 
ذو شجون، ومغالطات صاحبنا أكثر من أن تستوفيها مقالة، وليست بي بطالة! وإنما القصد تنبيه النبيه وهو كذلك، وأحسبه حسن النية فوق ذلك، هداني الله وإياه لرشدنا، وردنا إلى الحق رداً حسناً.