تكوين الأحزاب والمشاركة في الانتخابات
10 شوال 1433
الشيخ أ.د. ناصر بن سليمان العمر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الديمقراطية بضاعة غربية المصدر والمضمون، تعارض محكمات شرعية، بجعلها حق التشريع مكفولاً للشعب أو ممثليه، ومن مقاصدها التسوية وكفالة التعددية والحريات وفقاً لمقررات الأكثرية المقيدة بحدود الحقوق الأساسية، وهذه الحقوق تفسرها وترعاها مؤسسات أممية ومنظمات معنية بالمراقبة والتقويم، وليس شأن الحريات والحقوق الأساسية متروكاً لكل أمة تفسره وفقاً لدينها.
وأما آلياتها الانتخابية فشأنها أهون، وإن كنَّا لا نراها نظاماً شرعياً في اختيار الحاكم أو النُّواب، ولا كان الناس ينصِّبون عرفاءهم بهذه الطريقة، لكن النظر فيها يبقى اجتهادياً، فإن لم يكن ثمة خيار غير الاستبداد أو تلك الآليات الانتخابية فلعل تلك الآليات تكون سبباً في دفع مفسدة أكبر، خاصة في عصور رقَّت فيها الدِّيانة، وغدا بعض أهلها يستَخْفُون من الناس ولا يستخفون من الله.
وأما سؤالكم عن إمكانية فصل جانبها النظري والفكري عن جانبها الإجرائي، فلا يصلح له جواب مجملٌ بنفي أو إثبات، بل لا بدَّ من تفصيل؛ فلا يمكن عند التزام مقاصد النظام الديمقراطي القائم على إطلاق الحريات والمساواة، ويمكن باعتبار الأخذ بالآليات الانتخابية في ظروف معينة، والعمل على أسلمتها بفرض قيود لا تتعداها طريقة الاختيار، ولا ما يقرره الـمُخْتَار عبرها؛ كأن تستبعد في الاختيار النساء من مناصب معينة مثلاً، أو تستبعد مشاركة الأحزاب الكافرة وكذا الفاجرة التي تدعو إلى الرذائل مثلاً، أو تُقيِّد من يُطْلَق عليهم بالـمُشَرِّعين أو الـمُمثِّلين بحدود الشريعة، كل هذا ممكن تحققه لكن الشأن في تسمية مثل هذا النظام (ديمقراطية)، فلو فُرض وجود نظام كهذا فلا يمكن أن تسلم المنظمات الأممية والمعنية بمراقبة الديمقراطيات والحريات بأنها ديمقراطية حقيقية، ولن تُغني عن المسلمين تسميتهم لها (ديمقراطية) شيئاً عند المتحكمين المقوِّمين، ولأجل هذا كان النظام الإيراني مثلاً من أسوء الأنظمة في نظر الغربيين والمؤسسات الأممية، حتى إن بعض المؤسسات العريقة المعنية بالحكم على الأنظمة السياسية تصنفه أردأ من أكثر الأنظمة الملكية. وهو كذلك فالنظام الإيراني يُدَّعى أنه إسلاميٌ ديمقراطي لكنه في حقيقته لا إسلامي ولا ديمقراطي، بل قمعي طائفي عِرقي شعوبي.
وأما الدستور المبيَّنة مواده فليس بالدستور الشرعي وإن نص على أن الإسلام دين الشعب والدولة، لأن المواد الأخرى تدل على أن هذا النص لا يقتضي الإلزام به في الحكم والتشريع، وأن القانون أعلى مرتبة من مقرراته، أشبه طريقة النصارى الذين تنُصُّ بعض دساتيرهم العلمانية على دين الدولة، لكنهم يجعلون محلَّه الكنائس والبيع! وشريعة الإسلام لا يصحُّ فيها ذلك، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65]، ودلائل الكتاب والسُّنَّة القطعية المتواترة دالة على وجوب تحكيم شرع الله وإن خالف الأهواء التي لا تهتدي بهدى الله.
ومع ذلك فإن المشاركة في العملية الانتخابية لأجل تخفيف منكرات النظام، ومعارضة كلِّ تشريع يخالف حكم الله، والدعوة إلى إعادة صياغة الدستور صياغة إسلامية، جائزة، وليست من الرضا بالدستور المذكور في شيء، وعلى هذا فتاوى جلِّ أكابر المعاصرين من أهل العلم، فقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله.
فأجابت: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممَّن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان مَنْ رشح نفسه مِن المسلمين، ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألَّا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلّا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم[1].
وسئلت أيضاً: كما تعلمون عندنا في الجزائر ما يسمى بـ (الانتخابات التشريعية)، هناك أحزاب تدعو إلى الحكم الإسلامي، وهناك أخرى لا تريد الحكم الإسلامي. فما حكم الناخب على غير الحكم الإسلامي مع أنه يصلي؟
فأجابت: يجب على المسلمين في البلاد التي لا تحكِّم الشريعة الإسلامية، أن يبذلوا جهدهم وما يستطيعونه في الحكم بالشريعة الإسلامية، وأما مساعدة من ينادي بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فهذا لا يجوز، بل يؤدي بصاحبه إلى الكفر؛ لقوله - تعالى -: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ٩٤ أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50]، ولذلك لما بيَّن الله كفر من لم يحكم بالشريعة الإسلامية، حذر من مساعدتهم أو اتخاذهم أولياء، وأمر المؤمنين بالتقوى إن كانوا مؤمنين حقاً، فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم[2].
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس، فأجاب:
(إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»؛ لذا فلا حرجَ في الالتحاقِ بمجلسِ الشعبِ إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله.
كما أنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخابِ الدُعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق)[3].
وأجاب الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - سائلاً عن حكم الانتخابات الموجودة عندهم في الكويت وادَّعى السائل أن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينهم؟
فقال: (أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر، أو الناس السلبيون أتباع كل ناعق)[4] وذكر أنه يرى ذلك ولو كان الإسلاميون قلة.
وفتاوى أهل العلم بالتجويز والإيجاب كثيرة، والمشارك ما شارك إلا ليصل إلى إبطال الدستور المخالف للشريعة أو تغيير منكره أو تخفيفه، يعلن ذلك ويؤيده عمله، فلا يُقال: إن دخوله للإصلاح والإنكار دليل رضى، فبناء على ما سبق، فإن المشاركة بقصد الإصلاح جائزة بشروط من أهمها:
أن تكون المشاركة خالصةً لوجه الله، لإعلاء كلمة الله تعالى ورفع الظلم والطغيان، وإنهاء الحكم بغير ما أنزل الله في حدود الطاقة والوسع.
أن تكون فعليةً بحيث ينهض المشاركون بمهمتهم التي قصدوا إليها.
ألَّا يتضمن دخولهم محظوراً من نحو القسم الصريح على احترام الدستور أو التزامه، فإن كان ذلك لا بدَّ منه لأجل المشاركة ففي المعاريض عند المضايق مندوحة عن الحلف الكاذب، ولها وجه في مثل هذا المقام، وقد يتيسر الاستثناء الصريح في المجلس نفسه كما فعله ويفعله كثير من النواب في الكويت ومصر إبَّان الثورة.
أن يكون المشاركون على قدرٍ من العلم والفهم، أو يصدرون عن رأي طائفة من أهل العلم والنظر، بحيث لا تروج عليهم مخالفة الشريعة، ولا يخدعون بالتأويلات.
ألا يركن الداخل إلى الذين ظلموا، وأن تبقى جذوة الولاء على الدين والبراء بسببه متقدة في قلبه، لا تطفئوها مخالطة الآخرين، وألَّا يألوَ جهداً في الإصلاح والإنكار.
ألَّا يكون العمل السياسي على حساب الدعوة إلى توحيد الله، ومحاربة البدع، ونشر العلم، فلا يزاحم المهم الأهم؛ ولكن لتتصدى لهذا شريحة تحسنه ترجع إلى العلماء أو ليكن من العلماء فيهم نفر لا يخل بالدعوة والتعليم ونشر السنة في البلد.
فهذه جملة شروط إن توافرت فنرى جواز المشاركة لتحقيق مصلحة أعلى، ودفع مفسدة أعظم.
واللهَ أسأل أن يكتب لإخواننا ما فيه خير الدنيا والدين، وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الحمد لله، أؤيد ما جاء في هذه الفتوى من جواز المشاركة بالشروط المذكورة.
أملاه: عبد الرحمن بن ناصر البرّاك
15/6/1433هـ

________________________________________
[1] السؤال الخامس من الفتوى رقم (4029)، المجموعة الأولى 23/407، والفتوى بإمضاء أصحاب الفضيلة العلماء: عبد العزيز بن باز، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن غديان، عبد الله بن قعود، رحمهم الله أجمعين.
[2] فتوى رقم  (14676)، المجموعة الثانية (1/373)، والفتوى بإمضاء المشايخ: عبد العزيز بن باز، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن غديان - رحمهم الله أجمعين -.
[3] مجلة لواء الإسلام العدد (3) ذو القعدة 1409، وانظر كذلك مجلة الإصلاح العدد 241-17 بتاريخ 23/6/1993م.
[4] تسجيل صوتي، تجده في موقع الشيخ على الرابط أدناه:
http://www.ibnothaimeen.com/all/sound/article_16230.shtml