حق التأليف
14 صفر 1435
د. نايف بن جمعان الجريدان

تعريف الحقوق المعنوية
الحقوق المعنوية هي مصطلح واسع يسع معناها جميع الحقوق غير المادية، وكما هو معلوم فإن الحقوق المعنوية تُعد ثالث أنواع الحقوق المالية لدى القانونيين الذين يعرفون الحق المعنوي بأنه: "سلطة لشخص على شيء غير مادي، هو ثمرة فكره، أو خياله، أو نشاطه، كحق المخترع في مخترعاته، وحق التاجر في الاسم التجاري، والعلامة التجارية، وثقة العملاء"([1]).
يقول الدكتور السنهوري في المراد بها: "إن أكثر الحقوق المعنوية، حقوق ذهنية، والحقوق الذهنية حق المؤلف: وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الأدبية والفنية، والحقوق المتعلقة بالرسالة: وهي ما اصطلح على تسميتها بملكية الرسائل، وحق المخترع: وهو ما اصطلح على تسميته بالملكية الصناعية، والحقوق التي ترد على ما يتكون منه المتجر، والتي اصطلح على تسميتها -هي وسندات التداول التجارية- بالملكية التجارية..." ([2]).
ويطلق على الحقوق المعنوية عدة تسميات منها: الملكية الأدبية والفنية والصناعية، أو الحقوق الذهنية، باعتبار أن جميع صور الحقوق المعنوية من نتاج الذهن، وتسمى كذلك: بالحقوق التي ترد على أموال غير مادية، أو حقوق الابتكار([3]).
معنى حق التأليف
التأليف لغة: قال ابن فارس: "الهمزة، واللام، والفاء أصل واحد، يدلُّ على انضمام الشيء إلى الشيء، وكلُّ شيءٍ ضممتَ بعضَه إلى بعضٍ فقد ألفته تأليفاً"([4])، وعرفه بعضهم بأنه: "جمع الأشياء المتناسبة"([5]). ولا يخرج التعريف الاصطلاحي للتأليف عن المعنى اللغوي، ويندرج تحت اسم التأليف: اختراع معدوم، وجمع متفرق، وتكميل ناقص، وتفصيل مجمل، وتهذيب مطول، وترتيب مخلط، وتعيين مبهم، وتبيين خطأ"([6]).
أقسام حق التأليف
حق التأليف صورة من صور الحقوق المعنوية أو حقوق الابتكار، يُعطي المؤلف الحق في الاحتفاظ بثمرة جهده الفكري، ونسبة هذا الجهد إليه، واحتجازه المنفعة المالية التي يمكن الحصول عليها من نشره وتعميمه .
لهذا يمكن تقسيم حق التأليف إلى قسمين:
1. حق معنوي، بحيث يجب نسبة المُؤَلّف إلى صاحبه، ويحرم على غيره سرقته.
2. الحق المادي، وهو ما سأتناول الحديث عنه في المسألة التالية:
صورة المسألة وتكييفها الفقهي
إن أي نتاج علمي أو إبداع فني، أو ابتكار صناعي، لا بد له من وعاء يحتويه، ويتمكن الناس من خلاله الاطلاع عليه والإفادة منه، وهذا الوعاء قد يكون كتابًا، أو لوحة، أو شريطًا مسموعًا أو مرئيًا، أو رقائق الحاسوب (CD) وهذه الأعمال المتمثلة بالمؤلفات العلمية، والإبداعات الفنية، والابتكارات الصناعية، من المسائل المعاصرة التي لا نجد فيها نصًا خاصًا في الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة والمجتهدين من علمائنا الأقدمين، ولهذا اختلف العلماء المعاصرون في اعتباره حقًا يتطلب حماية قانونية على قولين:
القول الأول: ذهب بعض العلماء المعاصرين([7])إلى عدم اعتبار حق التأليف، وبالتالي عدم حل المقابل المادي لهذا الحق، واستدلوا بعدد من الأدلة أجملها فيما يلي:
1.إن اعتبار هذا الحق يؤدي إلى حبس المؤلِّف لمصنفه العلمي عن الطبع والتداول، ويعد هذا من كتمان العلم، الذي نهى عنه الله سبحانه وتعالى في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ([8]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة"([9]).
2. إن العلم يُعد قًرية وطاعة، وليس من قبيل التجارة، والقربة لا يجوز الحصول على أجر مالي في أدائها.
3.قياس حق التأليف على حق الشفعة، من حيث كونه حقًا مجردًا، وما كان من هذا القبيل فلا يجوز الاعتياض عنه، ومن ثم فلا يجوز للمؤلِّف الحصول على مقابل مادي لإنتاجه الذهني.

القول الثاني: ذهب كثير من العلماء المعاصرين منهم الأستاذ مصطفى الزرقا([10])، والدكتور محمد البوطي([11])، والدكتور محمد عثمان شبير([12])، والدكتور محمد فتحي الدريني([13])،إلى اعتبار حق التأليف، وبالتالي حل وجواز أخذ المقابل المالي لهذا الحق، و استدلوا بما يلي:
1.أن المنافع([14]) تعتبر أموالاً عند الفقهاء([15])، وهي من الأمور المعنوية، ولا ريب أن الإنتاج الذهني يمثل منفعة من منافع الإنسان، فيعد مالاً تجوز المعاوضة عنه شرعًا.
2.أن العرف العام جرى على اعتبار حق المؤلف في تأليفه وإبداعه. فأقر التعويض عنه، والجائزة عليه، ولو كان هذا الحق لا يصلح محلا للتبادل والكسب الحلال لعدت الجائزة والتعويض كسبًا محرمًا([16])، والعرف لا يعد ذلك كسبًا محرمًا، وهو –أي: العرف- معتبر شرعًا- كما هو مقرر في علم القواعد الفقهية.
3. التخريج على قاعدة " المصالح المرسلة" في ميدان الحقوق الخاصة([17])، وبيان ذلك من وجهين([18]):
أ‌- "من ناحية كونه ملكًا منصبًا على مال، أي: كونه حقًا عينيًا ماليًا إذ المصلحة فيه خاصة عائدة إلى المؤلف أولاً، وإلى الناشر والموزع، وهذا ظاهر في كونه حقًا خاصًا ماليًا.
ب‌- أن فيه مصلحة عامة مؤكدة راجعة إلى المجتمع الإنساني كله، وهي الانتفاع بما فيه من قيم فكرية ذات أثر بالغ في شتى شؤون الحياة.
ت‌- أن في حفظ حق المؤلف مصلحة للمؤلف، والمصلحة مرعية في الدين وتُبنى عليها الأحكام؛ لأنها من مباني العدل والحق"([19]).
المناقشات والردود:
أولاً: بعض ما ورد من ردود على أدلة القول الأول:
1.أما قولهم أن اعتبار حق التأليف للمؤلف يُؤدي إلى حبس العلم...إلخ، فغير مسلم، بدليل الواقع، فاعتبار حق المبتكر فيما ابتكره من مصنوعات لا يمنع ترويجها ونشرها، وإنما يعتبر ذلك من قبيل التحايل الشيطاني من أصحاب دور النشر لإعادة طبع الكتاب دون أن يدفعوا للمؤلف شيئًا من حقه.
2.وأما قولهم أن نشر العلم يُعد قربة وطاعة وليس من قبيل التجارة والصناعة، والقربة لا يجوز أخذ الأجرة عليها...؛ فغير مسلم أيضًا؛ فكثير من الفقهاء أفتوا بجواز أخذ الأجرة على فعل الطاعات، كالإمامة، والأذان، وتعليم القرآن. مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله"([20]).
3. وأما قياسهم حق المؤلف على حق الشفعة فقياس مع الفارق؛ لأن حق الشفعة من الحقوق التي أثبتها الشارع لأجل دفع الضرر عن الشفيع، فلا يجوز الاعتياض عنها. أما حق المؤلف فلم يكن لأجل شيء كدفع ضرر عن المؤلف، وإنما مقابل جهد فكري وبدني بذله المؤلف في إعداد مؤلفه، فيجوز الاعتياض عنه([21]).
وأما القول الثاني فلم أقف على أحد ممن ناقش أدلتهم. ثم أدلتهم -فيما يظهر لي- سالمة من أوجه الاعتراض.
الخلاصة والترجيح:
يظهر مما سبق رجحان القول الثاني، الذي يقضي بأن حق التأليف معتبر شرعًا، ويجوز الاعتياض عنه؛ لأنه يحتل مكانة مهمة في حياة الناس، وهو من آكد المصالح وأقواها أثرًا وأعمها نفعًا، وقد ينتج عن القول بعدم اعتباره حقًا، وعدم حل الاعتياض عنه الانقطاع عن القيام بالتأليف والكتابة، لأنه يكلف المؤلف تكاليف مالية كثيرة، وتكاليف ذهنية، فإذا لم يجد الحافز عليه، أهمله وأراح نفسه من تحمل أعبائه المالية و الذهنية.
وعليه فإني أُؤكد على أن العمل العلمي المتمثل في تأليف كتاب، أو نظم شعر، أو ابتكار صيغة علمية مفيدة، أو اختراع جهاز، أو اكتشاف حقيقة علمية كانت خفية، أو إبداع فني، أو نحو ذلك: حق لمن أنتجه، وملك له. ويترتب عليه أمور من أبرزها:
· أن هذا العمل يجب أن ينسب إلى صاحبه، وليس من حق غيره أن ينتحله لنفسه؛ لأن ذلك خيانة محرمة، كما أنه ليس من حق صاحب العمل أن ينسبه إلى غيره؛ لأنه من الكذب.
· أن الأمانة العلمية تقتضي أن ينسب أي شكل من أشكال الاستفادة من عمل علمي للآخرين، إلى المصدر الذي استفيد منه.
أن من حق صاحب هذا الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفني أن يسجل سبقه هذا بالطرق المتعارف عليها.

------------------------------
(1) الملكية في الشريعة الإسلامية (1/196).
(2) الوسيط للسنهوري (8/276).
(3) الملكية في الشريعة الإسلامية (1/197).
(4) مقاييس اللغة، مادة (ألف)(1/131).
(5) انظر: كتاب الكليات، وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفومي، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت - 1419هـ - 1998م، ص (440).
(6) قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، لجمال الدين القاسمي الدمشقي، الناشر: مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، الطبعة الأولى، عام 1380هـ، ص (3)، في معرض الحديث عن أنه ينبغي ألا يخلو أي تصنيف من هذه الأمور الثمانية.
(7) كالدكتور أحمد الحجي الكردي، في بحثه: حكم الإسلام في حقوق التأليف والنشر والترجمة، وهو بحث منشور في مجلة هدى الإسلام، مجلة رقم (25)، العددان (7-8)، عام 1981م، نقل قوله الدكتور شبير في المعاملات المالية المعاصرة، ص (43)، والأدلة لهذا القول منقولة منه بتصرف.
(8) الآية رقم (159)، من سورة البقرة.
(9) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب كراهية منع العلم، (2/345)، رقم (3658)، والإمام أحمد في مسنده، (2/344)، رقم (8514)، والحاكم وصحح إسناده، في كتاب العلم، (1/182)، رقم (345)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) المدخل الفقهي للزرقا (2/225).
(11) البيوع الشائعة ص (222).
(12) المعاملات المالية المعاصرة ص (47).
(13) في كتابه: حق الابتكار في الفقه الإسلامي، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، عام 1984م، ص(136).
(14) المراد بالمنافع: هي ما يستفاد من الأعيان؛ كسكنى الدار ، وركوب السيارة. انظر: المطلع(1/402).
(15) انظر: المغني (6/334)، الموافقات للشاطبي (2/17).
(16) الدكتور شبير في المعاملات الماليةص (45)، نقلا عن بحث حق التأليف في القوانين الوضعية المعاصرة وفي نظر الشرع الإسلامي، لصلاح الدين الناهي، وهو بحث منشور في مجلة هدى الإسلام، مجلد (25)، العددان (7-8)، ص(42).
(17) المدخل الفقهي للزرقا، ص (3/21).
(18) انظرهما في كتاب حق الابتكار في الفقه الإسلامي للدكتور: فتحي الدريني وفئة من العلماء، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، عام 1984م، ص (83-84).
(19) ينظر: حق الابتكار في الفقه الإسلامي، ص(83-84).
(20) أخرجه البخاري، في كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم، مرجع سابق، (5/2166)، رقم (5405)، من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-، وفيه: أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغًا أو سليما. فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرًا؟ حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرًا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله".
(21) المعاملات المالية المعاصرة، ص (48).