تأجير المسلم نفسه عند الكافر
9 ذو القعدة 1433
د. سعد العتيبي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد: فسؤالك لم يتضمن تفصيلاً يمكن الاقتصار في الإجابة على ما ورد فيه، وعلى كل حال؛ فهذا جواب يعطيك القواعد العامة في الموضوع ، ولعلَّك تجد فيه ما يكفي في كشف حكم حالك. أولاً: المسألة المذكورة من مسائل التعامل والتعاقد في أبواب المعاوضات -وهو في سؤالك: باب الإجارة- وهو تعاقد يتم بناء على الاتفاق بين الأطراف؛ فالأصل فيها المعاقدة والاتفاق والتراضي؛ فليس هو من باب الولايات ولا من مسائل الموالاة -اللذين ربما كانا سبب الإشكال لديك- ما لم يتضمن العمل المستأجر عليه شيئاً من ذلك. فقد اتفق أهل العلم على أنَّ التعامل مع غير أهل الإسلام مشروع بضوابطه الشرعية، ومن ثم فلا يدخل في باب الموالاة لهم، ويدل لهذا الأصل أدلة كثيرة، ليس هذا محل ذكرها. ثانياً: سؤالك هذا يدخل تحت ما يعرف عند الفقهاء باستئجار الكافر للمسلم، ويعني: المعاقدة والاتفاق والتراضي على القيام بعمل أو تقديم منفعة معينة. وتأجير المسلم نفسه عند غير المسلم، أمر لا حرج فيه -إن شاء الله تعالى- إذا توافرت شروطه التي سيأتي ذكرها _إن شاء الله تعالى_. ومما استدل به العلماء على جواز ذلك، ما يلي: 1) حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأيته متغيراً، قال: فقلت: بأبي أنت مالي أراك متغيراً؟ قال: ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث قال: فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلًا له فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمراً وأتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أين لك يا كعب؟ فأخبرته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتحبني يا كعب؟ قلت: بأبي أنت نعم. وقد رواه الطبراني، وجود إسناده غير واحد من أهل العلم. 2) ما ورد من أنّ علياً -رضي الله عنه- أجر نفسه ليهودي يسقي له كل دلو بتمرة، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم ينكره. رواه ابن ماجه. وهو وإن كان في سنده مقال إلا أنه قد احتج به بعض أهل العلم بشواهده. والقاعدة في هذه المسألة: أنه يجوز للمسلم العمل عند الكافر -سواء كان هذا الكافر فرداً عادياً أو مسؤولاً في شركة- بثلاثة شروط: الأول: أن يكون العمل الذي سيقوم به الأجير المسلم لمصلحة الكافر، مباحاً ومشروعاً في ذاته، وفي آثاره. فالمباح في ذاته، كبناء دار، أو قيادة مركبة في تسويق بضاعة مباحة، أو توريد خضروات أو بيع أسماك، ونحو ذلك، فهذا جائز. بخلاف ما لو كان هذا العمل محرماً في ذاته، كتسويق المحرمات ونقل الخمور، ورعي الخنازير وتسويق لحومها، وتصميم الدعايات لها أو لغيرها من الأمور المحرمة، كالربا وبنوكه ومعاملاته، ونحو ذلك؛ لأنَّ العمل المحرم لا يجوز للمسلم القيام به أصلاً. وقد نص الفقهاء على أن من يفعل ذلك من المسلمين يستحق التعزير بعقوبات منها: مصادرة ما يأخذه من الكافر من أجرة أو راتب. وأما إباحته ومشروعيته في آثاره، فكتوريد السيارات ووسائل الاتصال المشروعة، وبناء المصانع في ديار أهل الإسلام، و الأعمال الإعلامية التي تخدم الإسلام وأهله، وترجمة المسلم الأمين الحاذق للمواقع الإسلامية، والكتب الشرعية، لبعض الجامعات والمراكز العلمية الجادة في ديار الكفر، ونحو ذلك، فهذا جائز ومشروع. بخلاف ما لو كان في هذا العمل ضرر على الإسلام أو المسلمين؛ كالعمل الإعلامي الموجه ضد الإسلام وأهله، مراسلاً كان هذا الأجير المسلم أو محرراً أو منسقاً، أو فنياً ، و مثله وأشد: العمل التجسسي ضد المسلمين بجميع صوره وأشكاله. وهذه الأمثلة الأخيرة من أخطر الأعمال أثراً؛ لأنَّها من أعظم صور موالاة أهل الكفر وتوليهم _والعياذ بالله_، فالجرم فيها أشد، وقد تقدح في إسلام المسلم فضلاً عن إيمانه. وخلاصة هذا الشرط ، أنه يحرم القيام بأي عمل محرم كعصر خمر أو بيع لحوم ميتة أو خنزير أو صيانة آلات طرب أو تصوير حفلات فيها نساء أو فجور؛ كما يحرم العمل في كل ما فيه ضرر على أهل الإسلام كالتجسس، بل ولو كان العمل في أصله مباحاً، كالكتابة والترجمة، وذلك إذا كان لجهات متربصة بأهل الإسلام. وتختلف درجات الحرمة باختلاف العمل المحرم، وربما يصل إلى الكفر _والعياذ بالله_ كما سبق. الثاني: ألا يعود على الأجير المسلم في هذا العمل أو بسببه ضرر في الدين؛ كما لو لم يسمح له صاحب العمل بأداء الصلوات أو حضور الجمع والجماعات مثلاً. الثالث: ألا يشتمل هذا العمل على مذلة أو مهانة للمسلم؛ كالخدمة الشخصية الخاصة، من مثل تقديم الطعام له، أو تقريب حذائه، أو الوقوف بين يديه، أو فتح باب السيارة له، ونحو ذلك. ومما ينبغي التنبيه عليه أن يتورع المسلم من العمل في شركة يرى علماء الإسلام مصلحة شرعية في مقاطعة بضاعتها أو خدماتها مقاطعة اقتصادية، حتى لا يكون عوناً لأعداء الإسلام. وعلى كل حال؛ فينبغي للمسلم أن لا ينسى رسالته؛ فليستغل وجوده بين غير المسلمين في دعوتهم إلى الإسلام بالحكمة والوسائل المشروعة المحببة للنفوس، ومن أكثرها أثراً التزامه بأخلاق الإسلام في معاملته؛ فقد قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه- لما بعثه إلى الكفار يوم خيبر: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم" رواه البخاري ومسلم. والله -تعالى- أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. -------------------------- * أصل هذه المسألة جواب مفصل على سؤال ورد على الموقع