الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء على ما جاء في الأمر السامي رقم (30891) في 20/12/1396هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء المعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطريق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض، والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس، واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة في أنواع من البيوع التي يستغلها بعض الناس استغلالاً سيئاً يخرج بها عما شرعه الله، وبعد الدراسة وتداول الرأي قرر المجلس ما يلي:
أولاً: العينة: ومعناها: أن يبيع إنسان لآخر شيئاً بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه منه بائعه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقداً، وقد اتفق المجلس على تحريمها بهذا المعنى؛ لما رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أنفع أنها قالت: (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب)، فإن الظاهر أنها لا تقول مثل هذا القول وتقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجرى ذلك مجرى روايتها عنه، ولأنه ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع خمسمائة بألف إلى أجل معلوم، ولما رواه الإمام أحمد في [مسنده] من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلاً فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم". ورواه أبو داود في [سننه] من طريق عطاء الخراساني أن نافعاً حدثه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فذكر الحديث. ورواه السري بن سهل من طريق ثالث عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما،ولأن ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة، ولأن أنس بن مالك رضي الله عنه لما سئل عن العينة قال: إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله، ولأن العينة بالمعنى المتقدم بيعتان في بيعة فكانت محرمة؛ لما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، ويلتحق بذلك بيع المشتري ما اشتراه لمن باعه إياه حالاً أو مؤجلاً قبل أن يقبضه منه بأكثر من ثمنه؛ لما تقدم، ولما فيه من ربح ما لم يضمن، ولما فيه من بيع الدين بالدين إذا كان مؤجلاً.
ثانياً: التورق: وله صور: منها أن يطلب إنسان من آخر ألف ريال مثلاً إلى أجل فيقول له: المطلوب منه: العشرة باثني عشرة، أو بخمسة عشر ريالاً، ويتواطآن على ذلك ثم يجريان بيعاً صورياً يحقق بيع النقود بالسعر المتواطأ عليه، وهذا محرم؛ لأن المقصود منه بيع ريالات نقداً بأكثر منها إلى أجل، والعقود تعتبر بمقاصدها؛ لحديث "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، فكان هذا عين الربا مع زيادة المخادعة والاحتيال.
ومنها: أن يحتاج إنسان إلى نقود للاستهلاك أو التوسع بها في تجارته مثلاً، فيشتري من آخر سلعة إلى أجل بأكثر من سعر مثلها حالاً؛ ليبيعها بعد قبضها على غير من اشتراها منه فهذه لا ربا فيها، ولا يصدق فيها أنها بيعتان في بيعة فهي جائزة؛ لعموم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، ولما صح من الأحاديث في جواز البيع لأجل وبيع السلم، لكن إذا انتهز البائع فرصة حاجة المشتري فشق عليه في زيادة الثمن كثيراً كان ذلك مخالفاً لسماحة الإسلام ومنافياً لواجب الأخوة والتراحم بين المسلمين ولمكارم الأخلاق، وكان مدعاة إلى التقاطع والتدابر وتوليد الأحقاد، ولهذا خطره وأثره السيء في فساد المجتمع، وقد ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله امرءاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى" رواه البخاري وابن ماجه.
ثالثاً: يمكن القضاء على جشع من يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية.
1- التوعية الشاملة: يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة ويحذرون الناس من التعامل بها؛ لما فيها من التعرض لغضب الله وسخطه، ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات، والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وولاة الأمور بالخصومات، ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتلفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات، فإن لذلك التأثير البين -إن شاء الله- على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة، وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.
2- ينصح الناس بالاقتصاد في النفقات وعدم التوسع في وسائل الترف، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه؛ شكراً لنعمة الله عليه ، عسى أن يزيده الله سبحانه وتعالى من فضله.
3- الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات: يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة..، ويأخذون على يد من حصل منه ذلك فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجراً للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد، ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبؤوا بالتحذير، ولم يبالوا بالوعيد والجزاء، وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله، ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم.
4- توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي؛ ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون رباً أو إرهاق أو استغلال للظروف.
5- توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن، ولينتفع بذلك – إلى صندوق التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذه أقساطاً لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى الصندوق على ذلك منه رباً.
6- إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضاً بلا رباً يسد به حاجته.
والله ولي التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.