استعمال التقويم في تحديد مواقيت الصلاة 2/2
22 ربيع الثاني 1434
د. نايف بن جمعان الجريدان

وقد لحظت في كثير من البلاد كاليمن، والسودان، والسعودية وغيرها، انتشار هذه التقاويم، وانتشركذلك العمل به بين المؤذنين خاصة، وعسر استغناؤهم عن العمل به، حتى "عمت به البلوى".
والسبب في وجود هذه التقاويم هو: أن الإنسان موجود في عالم متغير، يفكر محاولاً إيجاد وسائل تعينه على معرفة الوقت، فنجد أنه اعتمد في بداية الأمر على تكرار الظاهرة الكونية بشكل دوري، وما قد يحدث في ذلك من تفاوت من فترة إلى أخرى، ثم دفعه بعد ذلك إلى الاعتماد على الساعات، الشمسية التي كانت مقياسًا للوقت لآلف السنين؛ ثم لجأ إلى أجهزةٍ عدة لقياس الوقت، قام باستنباطها بطرق أولية، فاخترع الساعات الميكانيكية في القرن الثالث عشر الميلادي تقريبًا، وانتشر استعمالها في القرن الخامس عشر الميلادي وما بعده، وتلك أجهزة مكّنت الإنسان من معرفة الوقت بدقة، تصل إلى أقل من دقيقة واحدة في اليوم، ثم توصل إلى اختراع الساعة ذات الرقاص في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث حققت مزيدًا من الدقة في قياس الوقت، وصلت إلى عدة ثوانٍ في اليوم، ولا يزال اختراع الأجهزة المتطورة في قياس الوقت مستمرًا، وهي ذات دقة عالية في ضبط الوقت(1).
وتشتد هذه الأهمية حينما يتعلق ذلك التحديد بأوقات الصلوات الخمس المفروضة، لتكررها لعموم المسلمين، وتعلق دخول بعض أوقاتها بوقت الإمساك، أو الإفطار في صيام رمضان.
ومع هذا كله فإن تحديد مواقيت الصلاة عن طريق الحساب كان معروفًا لدى متقدمي المسلمين، إلا أن استعمال هذا الحساب قد تطور عبر العصور بتطور الآلات المستخدمة في العمليات الحسابية الإلكترونية في حل معادلات حسابية رياضية دقيقة(2). ومع ظهور آلات الطباعة وجد ما يُعرف بالتقويم اليومي.
ما هو التقويم، وعلى ماذا يعتمد؟
يعتمد التقويم على عمليات حسابية دقيقة، يقوم بها بعض المختصين عن طريق الربط بين حركة الشمس، والتي هي المعتمد والمعوّل عليه في تحديد أوقات الصلاة، وحساب ساعات النهار والليل في عدد المدن المختلفة المواقع، ويعتبر في ذلك فروق التوقيت في كل وقت، وفي كل يوم، ويمكن بعمليات حسابية إضافية تحديد أوقات الصلوات في سائر المدن والقرى، ويتم إصدار مثل هذا التقويم بصورة سنوية مبيَّنًا فيه أوقات الصلوات الخمس في عدد من المدن بالتوقيت الغروبي والزوالي أو بأحدهما.
ومع وجود الحاسبات الآلية فإنه يمكن بعملية حسابية إصدار تقويم زمني يحدد فيه مواقيت الصلوات لسنوات عديدة قادمة. ومع التطور في الأخذ بما يعين على تحديد الأوقات من حساب وآلات مما يفيد في تحديد أوقات الصلاة، كان لفقهاء المسلمين وقفة مع الأخذ بذلك.
ولما كان المعوَّل –كما ذكرت- في تحديد مواقيت الصلاة هو حركة الشمس الظاهرية نظرًا لتعيين الشرع، فإنه لا بد من الربط بين ذلك التعيين والفلك والحساب(3).
ولعلي أذكر بعض الاستنباطات التي يمكن من خلالها أن أستند عليها بترجيحي القول بجواز استعمال التقاويم في تحديد أوقات الصلوات الخمس، منها على سبيل المثال:
الاستنباط الأول: أن العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلاة مما شاع وانتشر وعسر الاستغناء عنه، حتى "عمت به البلوى"، ولم أجد أحد من العلماء –فيما وقفت عليه- أنكر ذلك، فأصبح -في نظري- إجماعًا منهم على جواز العمل به.
الاستنباط الثاني: أن التكليف بالقول بعدم جواز العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلاة، بحيث يعسر الاستغناء عنه، "وتعم به البلوى" فيه إلحاقًا للمشقة والضرر بالمكلفين، فيُقال بجواز العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلاة تيسيرًا عليهم، لما يترتب على ذلك من تحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فاجتماع المسلمين، واتحاد كلمتهم، وعدم اختلافهم؛ من أعظم المصالح المرعية في الشريعة، وحصول تفرقهم، وتشتت كلمتهم؛ من المفاسد التي تحصل بسبب عدم العمل بالتقاويم في تحديد أوقات الصلوات الخمس، والتي جاءت الشريعة السمحة بنفيها.
الاستنباط الثالث: أن القول بعدم جواز العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلوات الخمس، باعتبار أنه من قبيل العمل بالحساب، والحساب لا يعتمد عليه في تحديد مواقيت الصلوات يُلحق المشقة والضرر بالمكلفين، بحيث يعسر استغناؤهم عن العمل به، حتى "عمت بذلك البلوى"، إذ يصعب على غالب الناس وخاصة المؤذنين معرفة الأوقات بدقة وتحديدها بدون الاعتماد على ذلك التقويم، وتشتد هذه الصعوبة في هذا الزمان الذي كثر فيه العمران وعلا، وكثرت فيه الإضاءات في الشوارع، وعلى رؤوس البنايات وانتشرت، مما يصعب معه الاعتماد على حركة الشمس، فيكون القول بجواز الاعتماد في تحديد مواقيت الصلوات باعتبار أن العمل به من قبيل العمل بالحساب، والحساب يجوز الاعتماد عليه في تحديد مواقيت الصلوات(4).
الاستنباط الرابع: مما يدل على جواز العمل بالحساب أن الناس في سائر الأعصار والأمصار يعتمدون في حال ما إذا حال دون الشمس غيم على الحساب بالرمل والماء ونحوهما(5). فإذا شاع وانتشر العمل بالحساب بالرمل والماء إذا حال دون الشمس غيم ونحوه، حتى عسر استغناؤهم عن ذلك، "وعمت به البلوى" وصار عادة وعرفًا، كان العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلوات الخمس من هذا القبيل؛ إذ قد شاع وانتشر بين الناس العمل بالتقويم في تحديد مواقيت الصلوات الخمس، وعسر استغناؤه عن العمل به، "حتى عمت به البلوى" وصار عادة وعرفًا، والعرف والعادة في الشرع محكم.
الخلاصة:
فالذي يظهر –والعلم عند الله- جواز استعمال التقاويم الهجرية المنتشرة في البلاد، والاستفادة منها في تحديد أوقات الصلوات الخمس، مع التأكيد على أن يقوم بإعداد هذه التقاويم والإشراف عليها علماء فلك موثوق بدينهم وعلمهم في هذا المجال.
-----------

(1) انظر: كتاب التوقيت والتقويم للدكتور علي حسين موسى، الناشر دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ودار الفكر بدمشق، سوريا، الطبعة الأولى، عام 1410هـ، 1990م، ص (77)، و ص (89-95) بتصرف.
(2) انظر: بحث تعيين مواقيت الصلاة في أي زمان ومكان على سطح الأرض ص (1380وما بعدها)، للدكتور حسين كمال الدين في مجلة البحوث الإسلامية، العدد الثالث، عام 1397هـ.
(3) انظر: المرجع السابق ص (1355).
(4) وعلى ذلك أكثر الفقهاء. انظر الفروق (2/178-179)، والعلَم المنشور في إثبات الشهر، لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الدمشقي، علق عليه الأستاذ محمد جمال الدين القاسمي، الناشر: مكتبة الإمام الشافعي بالرياض، الطبعة الثانية، عام 1410هـ ص (7)
(5) انظر: العلَم المنشور في إثبات الشهر، ص (9).