ذكر الفقهاء هذا النوع من البيوع في كتبهم قديمًا، ولازال الناس يتعاملون به في حياتهم اليومية، ولا زالت هذه المسألة تتجدد عصارة يومًا بعد يوم بما نسمعه من أسئلة الناس عنها، وقد تعارف الناس عليه فيدفع أحدهم -في حالة شراء سلعة ما- مبلغًا معينًا، لتثبيت البيع مما يجعل البضاعة معلقة، ويتساءل الكثير من الناس عن حكم عدم إرجاع هذا المبلغ (العربون) في حالة عدم وفاء المشتري أو رجوعه في البيع وأخذ البائع واحتفاظه به لنفسه دون رده للمشتري. وهذا ما سأحاول الإجابة عنه باختصار في هذه المسألة:
أولا: تعريف بيع العربون
1) تعريف العربون لغة
الْعَرَبُونُ بفتحتين كَحَلَزُون، وَالْعُرْبُونُ وزانُ عُصفورٍ، لغَة فيه. وَالْعُرْبَانُ بالضم لغة ثالثة. وهو معرب، وفسروه لغة: بما عقد به البيع([1]). قال في لسان العرب: "...العَرَبُون وهو أن يشتري السِّلعة ويدفع إلى صاحبها شيئًا على أنه إن أَمضى البيع حُسب من الثمن، وإن لم يمضِ كان لصاحب السلعة ولم يرتجعه المشتري"([2]).
2) تعريف العربون في الاصطلاح:
عُرف بعدة تعريفات فقيل هو: "أن يشتري السلعة من غيره، ويدفع إليه دراهم على أنه إن أخذ السلعة فهي من الثمن، وإلا فهي للمدفوع إليه مجانا"([3]).وقال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني([4]): "والعربون في البيع هو: أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذ فذلك للبائع".
ثانيا: حكم بيع العربون
اختلف أهل العلم في هذه المسألة إلى قولين:
القول الأول:ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية([5])، والمالكية([6])، والشافعية([7])، وفي إحدى الروايتين عن الإمام أحمد([8])، إلى عدم جواز بيع العربون.واستدلوا بما يلي:
1) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) ([9]). وأخذ العربون من أكل أموال الناس بالباطل. قال القرطبي في تفسيره([10]): "ومن أكل أموال الناس بالباطل بيع العربان .. فهذا لا يصلح، ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار، من الحجازيين، والعراقيين؛ لأنه من باب بيع القمار، والغرر، والمخاطرة، وأكل المال بالباطل، بغير عوض ولا هبة، وذلك باطل بالإجماع".
2)عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان([11]).
3)وعللوا لقولهم هذا بأن في بيع العربان معنى الميسر، وأنه بمنزلة الخيار المجهول، فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة، كما لو قال: ولي الخيار، متى شئت رددت السلعة ومعها درهم، وقالوا : ولا يصح أن يكون العربون مستحقاً للبائع كعوض عن انتظاره، وتأخر بيعه، لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار، كما في الإجارة([12]).
القول الثاني: ذهب الحنابلة([13]) في المشهور عندهم من الرواية إلى جواز بيع العربون، واستدلوا لذلك بما يلي:
1.ما رُوي أن نافعًا بن الحارث اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أميةبأربعمائة إن رضيها أخذها، وإن كرهها أعطى نافع صفوان بن أمية أربع مائة([14])، وقد سئل الإمام أحمد: تذهب إليه ؟ قال : أي شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه "([15]).
2. ما رُوي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع العربان فأحله([16]).
الخلاصة والترجيح:
والذي يظهر بعد استعراض أدلة القولين وتمحيصها من حيث درجتها يتبين لي -والله أعلم- جواز بيع العربون، وأنه يبقى على الأصل وهو الإباحة؛ وذلك لما يلي:
1.ضعف حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده –كما تبين لنا عند تخريجه- وعدم انتهاضه للاحتجاج، خاصة أنه يدور على رجل مبهم، وكل من ذكر أهل العلم أنه مبهم فإنه إما يكون ضعيفاً، أو الطريق إليه لا تصح -كما هو معروف في علم مصطلح الحديث-.
2.ومما يدل على أن فيه مصلحة راجحة، أن عدم اشتراطه قد يسبب خصومات ومفاسد كبيرة، خاصة في الاستصناع، حيث يصنع العامل للمشتري ما يريد، فيضمن العربون للعامل أخذ المشتري للبضاعة، ويضمن للمشتري عدم غش الصانع، أو بيعه البضاعة لغيره، أو هروبه عنه، ومماطلته في حال لو دفع الثمن كاملاً، وفي حالة عدم دفع أي شيء من المبلغ المتفق عليه، فأصبح العربون (صمام) أمان في كثير من المعاملات التجارية، إن لم يكن جميعها، ومعلوم تشوف الشارع الحكيم إلى مثل هذه الأمور التي تمنع الشحناء والبغضاء والغش في التعامل بين المسلمين، وقد جرى على هذا العمل بين الناس.
3. قرر المجمع الفقهي المنعقد في دورته الثامنة بتاريخ 1-7 محرم 1414هـ ما يلي:
o "المراد ببيع العربون بيع السلعة، مع دفع المشتري مبلغاً من المال إلى البائع، على أنه إذا أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى البيع والإجارة؛ لأنها بيع المنافع، ويستثنى من البيوع كل ما يُشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد ( السلم )، أو قبض البدلين ( مبادلة الأموال الربوية والصرف)، ولا يجري في المرابحة الأمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة .
o يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءاً من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء".
وأخيرًا فالذي يظهر هو جواز بيع العربون، لأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولضعف حديث النهي، غير أنه لو احتاط المسلم لدينه، وطلب البراءة له، وتجنب التعامل بالعربون، لكان ذلك حسناً من باب التورع عن الشبهات، وخروجًا من خلاف أهل العلم. -والله أعلم-.
* * *
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) انظر : لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري المشهور بابن منظور، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1400م ، مادة (عربن)، (13/284)، القاموس المحيط والقابوس الوسيط في اللغة، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، طبع بالمطبعة الميمنية، مصر، الطبعة الثالثة، عام 2001هـ (1/136)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، لأحمد بن محمد بن علي المقري الرافعي، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت، لبنان، عام 1398هـ، 1988م ، مادة (عرب)، (2/401).
([2]) لسان العرب، مادة (مسك)، مرجع سابق (10/486).
([3])الشرح الكبير، لأي البركات سيدي أحمد الدردير، تحقيق: محمد عليش، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، د.ت، (4/58)، تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج (على ترتيب المنهاج للنووي)، لابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري ، تحقيق: عبد الله بن سعاف اللحياني، الناشر: دار حراء - مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1406هـ (4/322)، روضة الطالبين لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي، ومعه منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع، لجلال الدين السيوطي، تحقيق: عادل عبد الموجود، وعلي معوض، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، عام 1412هـ - 1992م (3/61)، كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، الناشر: دار الفكر، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1402هـ (3/195).
([4])المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1405هـ (6/331).
([5])المبسوط، لشمس الدين محمد بن أبي سهل السرخسي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، بيروت،الطبعة الأولى، 1421هـ 2000م (4/26).
([6]) التاج والإكليل لمختصر خليل، لأبي عبد الله: محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، عام 1398هـ (4/369).
([7]) أسنى المطالب، لأبي يحيى زكريا الأنصاري الشافعي، تحقيق د . محمد محمد تامر، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1422هـ - 2000م (2/31).
([8]) المغني، مرجع سابق (4/312).
([9]) الآية رقم (29)، من سورة النساء.
([10]) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي الناشر: دار الشعب، القاهرة، الطبعة الأولى، عام 1383هـ ( 5 / 150 ).
([11]) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، في كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع العربان، (2/609)، رقم (1271)، وأبو داود ، في سننه، في كتاب البيوع، باب في العربان، (2/305)، رقم (3502)، وابن ماجه في سننه في كتاب التجارات، باب بيع العربان، (2/738)، رقم (2192)، والإمام أحمد في مسنده، (2/183)، رقم (6723)،. وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق: السيد عبد الله هاشم اليماني المدني، الناشر: مطابع المدينة المنورة، عام 1384هـ - 1964م (3/17) حيث قال: "فيه راو لم يسم وسمي في رواية لابن ماجة ضعيفة عبد الله بن عامر الأسلمي، وقيل: هو ابن لهيعة وهما ضعيفان". وقد ضعفه الإمام أحمد بقوله عندما سئل عنه: "ليس بشيء" نقله في بدائع الفوائد، لأبي عبد الله، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق : هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، عام 1416 هـ- 1996م ( 4 / 84)، وضعفه النووي في المجموع، مرجع سابق ( 9 / 335 )، وغيرهم، ومن المعاصرين: الألباني حيث حكم عليه بالضعف كما في مشكاة المصابيح، (2/145)، رقم (2864).
([12]) الشرح الكبير، مرجع سابق (3/59).
([13]) المغني، مرجع سابق (4/312).
([14]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب البيوع، باب ما جاء في بيع دور مكة وكرائها وجريان الإرث فيها، مرجع سابق (6/34)، رقم (10962)، ورواه في المصنف في الأحاديث والآثار، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: كمال يوسف، الناشر : المكتب الإسلامي، بيروت، عام 1390هـ - 1970م، في باب الكراء في الحرم وهل تبوب دور مكة والكراء بمنى ( 5 / 392 )، وعلقه البخاري كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، الناشر: دار المعرفة، لبنان، بيروت، الطبعة الأولى، عام 1379هـ (5/ 91)، وفي إسناده عبد الرحمن بن فروخ العدوي مولاهم، قال في تقريب التهذيب، لأبي الفضل: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، تحقيق: محمد عوامة، الناشر: دار الرشيد، سوريا، الطبعة الأولى ، عام 1406هـ - 1986م، ص (1/348): "مقبول، من الثالثة، ولم يصرح البخاري بذكره.ا.هـ"، وقد ذكره في الثقات: لأبي حاتم: محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي، تحقيق: السيد شرف الدين أحمد، الناشر: دار الفكر، الطبعة الأولى، عام 1395 هـ - 1975م ( 7 / 87 )، ومع هذا يظهر -والله أعلم- أن هذا الأثر مما يحتج به، خاصة أن عمرو بن دينار كان يفتي به، ويحتج به، وكذلك كان الإمام أحمد يحتج به، فذكره في معرض الاستدلال على جواز بيع العربون كما نقل عنه ابن قدامة في المغني، مرجع سابق (6/331)، وكما نقلناها عنه في المتن. ومما يقوي هذا الحديث أيضًا أن قصة شراء عمر بن الخطاب داراً للسجن بمكة من صفوان بن أمية قد اشتهرت بين أهل العلم.
([15]) انظر: المغني، مرجع سابق (6/331).
([16]) ذكر هذا صاحب كتاب صور من البيوع المحرمة، وعزاه إلى مصنف عبد الرزاق، وأنه ضعيف، لأن فيه زيد بن أسلم وهو يرسل كثيرا، وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير، مرجع سابق (3/17).