وضع الكراسي وتظليلها للجالسين للتعزية في المقابر
19 ذو الحجه 1435
د. أحمد الخليل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

* فصورة المسألة:
تعارف الناس في وقتنا على هيئة مخصوصة للتعزية داخل المقبرة صورتها كما يلي:
بعد انتهاء الدفن يجتمع أقارب الميت صفاً واحداً، يجلسون على كراسي، ثم يمر الناس عليهم بانتظام للتعزية.
وزاد الأمر في بعض المناطق إلى وضع غرفة داخل المقبرة لها بابان، واحد لدخول المعزين، وآخر للخروج منه، كما في مقبرة الشرايع بمكة شرفها الله.

* حكم هذه المسألة:
يرجع الكلام في حكم هذه المسألة إلى بيان مسألتين:

- الأولى: حكم التعزية في المقبرة: وفيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الكراهة وهو مذهب الحنفية والمالكية و أدلتهم :
1ـ ما أخرج ابن شاهين عن إبراهيم النخعي : التعزية عند القبر بدعة
وروي عنه : كانوا يكرهون التعزية عند القبر
وقول النخعي ـ رحمه الله ـ : (بدعة) لعله يقصد شدة كراهيتهم لها ـ كما يفهم من اللفظ الآخر له ـ لا أنها بدعة محدثة في الدين؛ وإلا لكانت محرمة ولم نجد أحدا من الفقهاء حرمها حسب ما وقفت عليه، فإن كان يقصد أنها بدعة حقيقية فليس بظاهر، بل هي مسألة خلافية.
2ـ أن التعزية عند القبر تشغل عن السنة الثابتة وهي الدعاء للميت فإن المستحب عقب الدفن أن يقام على القبر، ويدعى للميت بالتثبيت، كما روى أبو داود في سننه عن هانئ مولى عثمان عن عثمان بن عفان قال كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال " استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل. "(أخرجه أبوداود (3221)، والحاكم1/370، وحسنه الحافظ ابن القيم)
القول الثاني:يكره فيمن عُزى أما من لم يُعز فلا يكره رواية عن أحمد.
قال أحمد: أكره التعزية عند القبر، إلا لمن لم يعز، فيعزي إذا دفن الميت، أو قبل أن يدفن وهو مذهب الحنابلة
القول الثالث:
الجواز مطلقاً وهو رواية عن أحمد لعدم الدليل على الكراهة.
قال أبو داود : قلت لأحمد" التعزية عند القبر؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس ".
والراجح القول الأول لما قاله النخعي .
و المقصود بيان أن أكثر العلماء يكره التعزية في المقبرة وأنه لم يكن أمرا معروفا عند السلف
وهذا الخلاف في التعزية المجردة عن صفة مخصوصة
أما إذا اعتبرنا هذه الصفة تدخل في الجلوس والاجتماع للتعزية ـ وهي كذلك ـ فهي مكروهه عند الشافعية والحنابلة أيضا لأنهم يكرهون الجلوس للتعزية.
وعلى هذا فهذه الكيفية للتعزية في المقابر مكروهة عند المذاهب الأربعة.
فكيف نعمل على تنظيم هذا الأمر وتسهيله وتطويره مما يؤدي إلى تأكيده في نفوس العامة وظنهم أنه قربة مستحبة مقصودة للشارع.

المسألة الثانية: ما يتعلق بسد الذرائع واعتبار المآلات
لاشك أن التعزية عبادة مستحبة بإجماع العلماء فيجب أن نقوم بهذه العبادة وفق الشرع من غير زيادة ولا نقص.
والناظر في صفة التعزية المعاصرة في المقابر يرى أنها لم تقع جملة واحدة بل حدثت بالتدرج السريع :
فقد سألت كبار السن في بلدنا هل كانوا يعرفون اصطفاف أهل الميت بهذا الشكل المعروف الآن فأجابوا أنهم لا يعرفون ذلك .فإذاً لم تكن هذه الصفة موجودة أصلاً
ثم بدأ الأمر بالحرص على التعزية في المقبرة
ثم تطور وصار أهل الميت يصفون صفاً واحداً لتسهيل السلام عليهم
ثم وضع بعض الناس كراسي لكبار السن فقط
ثم وضعوا كراسي لأهل الميت جميعا
ثم وضعوا مظلة لهذه الكراسي
ثم وضعوا غرفة داخل المقبرة لها بابان واحد لدخول المعزين وآخر للخروج منه وفيها وسائل التبريد والراحة.
ولا أظن أن منصفاً سيدفع أن الأمر تطور بسرعة بل آل الأمر إلى الإنكار على من يترك هذا العمل وقد شهدت أنا في المقبرة من ينكر على بعض أهل الميت إذا لم يقف مع المعزين ويرى أنه ترك ما ينبغي ويتأكد فعله.
ومع هذا التطور السريع فإن الاقتراحات والتطوير لهذا الأمر لن يتوقف بكل تأكيد
فمثلا من الأمور المتوقعة جلب الطعام والشراب لهذا الاجتماع وربما يحدث غير ذلك.
والسؤال المهم : هل الحرص على العزاء في المقبرة وترتيبها وتسهيلها من الأمور المحبوبة للشارع وإذا كانت كذلك لماذا لم يحرص عليها السلف.
فإن قيل لهذا العمل مصالح كثيرة
فالجواب ما قاله شيخ الإسلام : "فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم -فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس "
وقال رحمه الله :
" كل مالم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب النهي عنه"
ولما تقدم مع ما عرف عن الشرع من زيادة الاحتياط في الأمور التي تفعل في المقبرة وفي أمور التعزية لسرعة الناس فيهما إلى إحداث غير المشروع وهو مما لا يخفى على أهل العلم.
لهذا كله أرى أن هذه الصفة تدور بين الكراهة والتحريم وهي إلى التحريم أقرب؛ لأن التعزية في المقبرة مكروهة على الراجح فإذ زاد عليها الجلوس على الصفة والكيفية المذكورة صارت إلى التحريم أقرب.
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه