الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، قد نظر في الدراسة، التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقاء، حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب، الأمر الذي شغل الناس، وكان من أبرز قضايا الساعة في العالم.
واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من انجازات طبية، توصل إليها العمل والتقنية في العصر الحاضر، لإنجاب الأطفال من بني الإنسان، والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد.
وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها، أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد (بغير الطريق الطبيعي وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة) يتم بأحد طريقين أساسيين:
طريق التلقيح الداخلي، وذلك بحقن نطفة الرجل في الموقع المناسب من باطن المرأة.
وطريق التلقيح الخارجي بين نطفة الرجل, وبويضة المرأة في أنبوب اختبار، في المختبرات الطبية، ثم زرع البويضة الملقحة (اللقيحة) في رحم المرأة.
ولابد في الطريقتين من انكشاف المرأة على من يقوم بتنفيذ العملية.
وقد تبين لمجلس المجمع من تلك الدراسة المقدمة إليه في الموضوع، ومما أظهرته المذاكرة والمناقشة أن الأساليب والوسائل التي يجري بها التلقيح الاصطناعي بطريقيه الداخلي والخارجي لأجل الاستيلاد هي سبعة أساليب بحسب الأحوال المختلفة:
للتلقيح الداخلي فيها أسلوبان، وللخارجي خمسة من الناحية والواقعية، بقطع النظر عن حلها أو حرمتها شرعا، وهي الأساليب التالية:
- في التلقيح الاصطناعي الداخلي:
الأسلوب الأول: أن تؤخذ النطفة الذكرية من رجل متزوج، وتحقن في الموقع المناسب داخل مهبل زوجته، أو رحمها، حتى تلتقي النطفة التقاء طبيعيا بالبويضة، التي يفرزها مبيض زوجته ويقع التلقيح بينهما، ثم العلوق في جدار الرحم بإذن الله، كما في حالة الجماع.
وهذا الأسلوب يلجأ إليه إذا كان في الزوج قصور لسبب ما عن إيصال مائه في المواقعة إلى الوضع المناسب.
الأسلوب الثاني: أن تؤخذ نطفة من رجل وتحقن في الموقع المناسب من زوجة رجل آخر، حتى يقع التلقيح داخليا، ثم العلوق في الرحم كما في الأسلوب الأول، ويلجأ إلى هذا الأسلوب حين يكون الزوج عقيما، لا بذرة في مائة، فيأخذون النطفة الذكرية من غيره.
- في طريق التلقيح الخارجي:
الأسلوب الثالث: أن تؤخذ نطفة من زوج، وبويضة من مبيض زوجته، فتوضعا في أنبوب اختبار طبي، بشروط فيزيائية معينة، حتى تلقح نطفة الزوج بويضة زوجته في وعاء الاختبار، ثم بعد أن تأخذ اللقيحة بالانقسام والتكاثر، تنقل في الوقت المناسب من أنبوب الاختبار إلى رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة، لتعلق في جداره وتنمو وتتخلق ككل جنين، ثم في نهاية مدة الحمل الطبيعية، تلده الزوجة طفلا أو طفلة، وهذا هو طفل الأنبوب الذي حققه الإنجاز العلمي، الذي يسره الله وولد به إلى اليوم عدد من الأولاد ذكورا وإناثا وتوائم، تناقلت أخبارها الصحف العالمية ووسائل الإعلام المختلفة.
ويلجأ إلى هذا الأسلوب الثالث عندما تكون الزوجة عقيما بسبب انسداد القناة التي تصل بين مبيضها ورحمها (قناة فالوب).
الأسلوب الرابع: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب الاختبار، بين نطفة مأخوذة من زوج وبويضة مأخوذة من مبيض امرأة ليست زوجته ( يسمونها متبرعة ) ثم تزرع اللقيحة في رحم زوجته.
ويلجأون إلى هذا الأسلوب عندما يكون مبيض الزوجة مستأصلا أو معطلا ولكن رحمها سليم قابل لعلوق اللقيحة فيه.
الأسلوب الخامس: أن يجري تلقيح خارجي في أنبوب اختبار بين نطفة رجل وبويضة من امرأة ليست زوجة له (يسمونهما متبرعين)، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى متزوجة.
ويلجأون إلى ذلك حينما تكون المرأة المتزوجة التي زرعت اللقيحة فيها عقيما بسبب تعطل مبيضها، لكن رحمها سليم، وزوجها أيضا عقيم، ويريدان ولدا.
الأسلوب السادس: أن يجري تلقيح خارجي في وعاء الاختبار بين بذرتي زوجين، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة تتطوع بحملها.
ويلجأون إلى ذلك حين تكون الزوجة غير قادرة على الحمل لسبب في رحمها، ولكن مبيضها سليم منتج، أو تكون غير راغبة في الحمل تَرَفُّهًا فتتطوع امرأة أخرى بالحمل عنها.
الأسلوب السابع: هو السادس نفسه إذا كانت المتطوعة بالحمل هي زوجة ثانية للزوج صاحب النطفة فتتطوع لها ضرتها لحمل اللقيحة عنها.
وهذا الأسلوب لا يجري في البلاد الأجنبية التي يمنع نظامها تعدد الزوجات بل في البلاد التي تبيح هذا التعدد.
هذه هي أساليب التلقيح الاصطناعي الذي حققه العلم لمعالجة أسباب الحمل.
وقد نظر مجلس المجمع فيما نشر وأذيع أنه يتم فعلا تطبيقه في أوروبا وأمريكا من استخدام هذه الإنجازات لأغراض مختلفة، منها تجاري، ومنها ما يجري تحت عنوان ( تحسين النوع البشري )، ومنها ما يتم لتلبية الرغبة في الأمومه لدى نساء غير متزوجات، أو نساء متزوجات لا يحملن لسبب فيهن، أو أزواجهن، وما أنشيء لتلك الأغراض المختلفة من مصارف النطف الإنسانية التي تحفظ فيها نطف الرجال بصورة تقانية، تجعلها قابلة للتلقيح بها إلى مدة طويلة، وتؤخذ من رجال معينين أو غير معينين تبرعا، أو لقاء عوض، إلى آخر ما يقال أنه واقع اليوم في بعض بلاد العالم المتمدن.
النظر الشرعي بمنظار الشريعة الإسلامية:
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي - بعد النظر فيما تجمع لديه من معلومات موثقة مما كتب ونشر في هذا الشأن وتطبيق القواعد الشريعة الإسلامية ومقاصدها لمعرفة حكم هذه الأساليب المعروضة وما تستلزمه - قد انتهى إلى القرار التفصيلي التالي:
- أولاً: أحكام عامة:
أ- إن انكشاف المرأة المسلمة على غير من يحل شرعا بينها وبينه الاتصال الجنسي لا يجوز بحال من الأحوال إلا لغرض مشروع يعتبره الشرع مبيحا لهذا الانكشاف.
ب- إن احتياج المرأة إلى العلاج من مرض يؤذيها أو من حالة غير طبيعية في جسمها تسبب لها إزعاجا يعتبر ذلك غرضا مشروعا يبيح لها الانكشاف على غير زوجها لهذا العلاج، وعندئذ يتقيد ذلك الانكشاف بقدر الضرورة.
ج- كلما كان انكشاف المرأة على غير من يحل بينها وبينه الاتصال الجنسي مباحا لغرض مشروع يجب أن يكون المعالج امرأة مسلمة إن أمكن ذلك، وإلا فامرأة غير مسلمة، وإلا فطبيب مسلم ثقة، وإلا فغير مسلم، بهذا الترتيب، ولا تجوز الخلوة بين المعالج والمرأة التي يعالجها إلا بحضور زوجها أو امرأة أخرى.
- ثانياً: حكم التلقيح الاصطناعي:
1- إن حاجة المرأة المتزوجة التي لا تحمل، وحاجة زوجها إلى الولد تعتبر غرضا مشروعا يبيح معالجتها بالطرقة المباحة من طرق التلقيح الاصطناعي.
2- إن الأسلوب الأول ( الذي تؤخذ فيه النطفة الذكرية من رجل متزوج ثم تحقن في رحم زوجته نفسها في طريقة التلقيح الداخلي) هو أسلوب جائز شرعا بالشروط العامة الآنفة الذكر، وذلك بعد أن تثبت حاجة المرأة إلى هذه العملية لأجل الحمل.
3- إن الأسلوب الثالث ( الذي تؤخذ فيه البذرتان الذكرية والأنثوية من رجل وامرأة زوجين أحدهما للآخر، ويتم تلقيحهما خارجيا في أنبوب اختبار، ثم تزرع اللقيحة في رحم الزوجة نفسها صاحبة البويضة) هو أسلوب مقبول مبدئيا في ذاته بالنظر الشرعي، لكنه غير سليم تماما من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من ملابسات، فينبغي أن لا يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى، وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفه الذكر.
4- إن الأسلوب السابع ( الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين، وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار، تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم ) يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة، وبالشروط العامة المذكورة. ( ملاحظة من الطابع : تراجع المجمع عن الحكم بجواز الأسلوب السابع في القرار رقم (36) )
وفي حالات الجواز الثلاث يقرر المجمع: أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين ثبت نسب المولود من الرجل أو المرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد ومن التحق نسبه به.
أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها ( في الأسلوب السابع المذكور ) فتكون في حكم الأم الرضاعية للمولود، لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي يحرم به ما يحرم من النسب.
أما الأساليب الأربعة الأخرى من أساليب التلقيح الاصطناعي في الطريقتين الداخلي والخارجي مما سبق بيانه فجميعها محرمة في الشرع الإسلامي، لا مجال لإباحة شيء منها؛ لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليستا من زوجين، أو لأن المتطوعة بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين.
هذا ونظرا لما في التلقيح الاصطناعي بوجه عام من ملابسات حتى في الصور الجائزة شرعا، ومن احتمال اختلاط النطف أو اللقاح في أوعية الاختبار، ولا سيما إذا كثرت ممارسته وشاعت، فإن مجلس المجمع ينصح الحريصين على دينهم أن لا يلجأوا إلى ممارسته إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر من اختلاط النطف أو اللقائح.
هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة ويرجو من الله أن يكون صوابا.
والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل وولي التوفيق(*).
-------------
(*) قرار رقم: 34 (5/7).